الطبّ محرابٌ للإيمان
تأليف الطبيبخالص جلبي كنجو
رسالة أعدت لنيل لقب
دكتور في الطب
تحت اشراف الدكتور الاستاذ
محمد فايز المط
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة
مقـدّمة
للدكتور فايز المط
مدرس مادة التشريح في كلية الطب بجامعة دمشق
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير المرسلين أرسله الله بالهدى والتشريع المبين ، ذلك التشريع الكامل الذي بني على الحق والصدق والعلم والواقع ، لذا كان تشريعاً لا يزيده الزمن والعلم إلا متانة ووضوحاً .
وهو عدا عن كونه العلاج الوحيد لكافة مشاكل البشرية من أفراد وجماعات فقد جاء دافعاً للناس في طريق العلم ومبيناً لهم السبيل إلى الرقي والتعلم ، ضارباً لهم الأمثال العلمية فجعل مستوى العلماء من أرفع المستويات كما قال الله سبحانه :
« يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات » .
وإننا اليوم في عصر حوى المتناقضات فكان زماناً معقداً تشابك فيه الايمان والإلحاد والحسن والسيء والسعادة والشقاء وقد انغمست البشرية في دوامة من المادة والشهوات واتخذت العلم طريقاً للمكاسب الخاصة فأصبحت في جاهلية دونها جاهلية العصور الأولى وعم الفساد والظلم وسوء الخلق ، وفرغت قلوب الناس من الإيمان الذي هو أساس العدل والرحمة والأخوة والسعادة وذلك بالرغم من أن العلم الحديث وصل إلى مرحلة جعلت الانسان لا مفر له من أن يؤمن بالله الأحد إيماناً يقينياً مبنياً على الواقع ؛ إذ أن كل فرع من فروع العلم وكل مادة من
مواده إذا دقق فيها العقل السليم وبحثها وافياً وجد فيها القدرة الهائلة ، والتنظيم الحكيم والابداع المدهش الذي لا يستطيع أن يحدثه مخلوق مهما كانت امكانياته ، بل وأكثر من ذلك إذ أنه يقف أمام معظم ما فيها عاجزاً حتى عن فهمها حق الفهم ؛ هذا وإذا كان الناس قد آمنوا فيما مضى إيماناً ظنياً أو تقليداً للآباء والأمهات أو مبنياً على بعض المعجزات والخوارق فإننا اليوم في عصر نجد في كل ذرة من ذرات هذا الكون المعجزات الكافية والبراهين الدافعة التي تكفي العاقل لأن يؤمن إيماناً لا يزعزعه شيء .
إن العلم اليوم المبذول في كل مكان هو الواسطة الجميلة في معرفة الله والإيمان به فإذا عرفه المرء أحبه ، وإذا أحبه أطاعه وأتبع تشريعه ؛ وإن التشريع الإلهي يهدي إلى كل خير ويحوي كل خلق حسن وسعادة وأخوة ، وليت الناس سلكوا هذا السبيل إذن لانقلب وجه العالم المكفهر الى وجه ضاحك مسرور ، ذهب عنه القلق والشقاء وحلت السعادة والهناء .
وفي هذا الكتاب زاوية من زوايا العلم ، ونافذة من نوافذ المعرفة تطل على ما اودع الله ـ سبحانه ـ في بعض خلقه من ابداع وحكمة وقدرة ما يكفي ليقنع أي إنسان فيه شيء من العقل والبصيرة أن الله خالق كل شيء ومدبر كل أمر وبيده مقدرات كل شيء وأنه سبحانه أعظم وأجل من كل شيء .
وإني أهنىء الأخ الدكتور خالص على ما وفقه الله اليه من حسن عرض لما علمه الله من الآيات والحكمة مما كشف الستار للناس عن بديع صنع الله في هذا الجسم البشري المحكم المنقن الذي لو اجتمع من في السماوات والأرض على أن يصنعوا مثله لما استطاعوا والذي لا يزال المجهول فيه أكثر من المعلوم رغم الجهود المضنية المبذولة في عالم العلم والمعرفة .
وأسال الله سبحانه أن يطلع عليه كل انسان فيؤمن ايماناً يقينياً يضمن به سعادة الدنيا والآخرة والسلام .
بقلم الاستاذ
جودت سعيد
كلمة « الاسلام دين العلم والعقل » كلمة غير مستغربة عند عامة المسلمين ومتقبلة دون نقاش غالباً . ولكن إلى أي حد مضمون هذه الكلمة مهضوم عند المسلمين وهل يمكن أن يقبل المسلم هذه القضية على طول الخط أم أنه يتراجع في جزء من الطريق طال أم قصر هذا الجزء .
ثم يقف بعد ذلك ويقول نقف عند هذا الحد ولا نتعداه لأن الاسلام دين العلم والعقل إلى هذا الحد ثم ما بقي من الطريق نسير فيه مع الإسلام دون أن نحاول إقحام العلم والعقل .
يا ترى ما هو الصواب في الموضوع هل الإسلام دين العلم والعقل على طول الخط أم إلى بعض الخط فقط ويفترقان في جزء من الطريق . وأننا إذا قلنا الإسلام دين العلم والعقل نقوله لنضفي على الإسلام شيئاً من القبول ونريد أن نزين به كلامنا ونقبله على حسب العادة دون نقاش وإن كنا لا نسلم به على الإطلاق .
فأما أريد أن أطرح هذا الموضوع ليكون المسلم دقيقاً في إدراكه لهذه القضية ، لا أزعم أني سأعطيه الجواب الفصل والدليل القاطع في هذا الموضوع ولكن لا بد من طرح الموضوع للبحث ولا بد من إثارة هذه المشكلة في عقل مسلم إذ يحيط به بعض الغموض والاختلاط من عدة جوانب .
وهذا الغموض والاختلاط يجعلنا نقبل بعض المتناقضات حتى في مستوى ما دون القمة بقليل من الفكر الإسلامي المعاصر المنتشر .
وبقدر ما يسلم المسلم بالبداهة العفوية أن يقال الإسلام دين العلم والعقل يسلم أيضاً ما يقال ، هل تريد أن تحكم في الإسلام العلم الذي لا يستقر على حال وهو على تقلب دائم ما ثبت اليوم يهدم غداً . وهل نحكم في الإسلام العقل ونحكم في الدين أهواء الناس .
أظن أننا بعد أن تذكرنا هذا الجانب الثاني من الموضوع أخذ يبرز أمامنا شيئاً من الاختلاط الذي ينبغي أن نكون ازاءه دقيقين في تعابيرنا ولا نقبل إطلاق أمور لا يمكننا أن نلتزم به سائر الطريق مثل كلمة الإسلام دين العلم والعقل .
أو أننا علينا أن نحاول التعرف على مكان الخطأ في إدانة العلم والعقل في مكان ما من الطريق . وهذا الموضوع بالذات ليس جديداً في البحث ولكنه غير مستوفي ولا انتشر في عامة المتعلمين ما كتب فيه .
إن ابن تيمية بحث هذا الموضوع قديماً ووصل إلى نتيجة رائعة حين أقر قاعدته العظيمة التي معناها : « أن صحيح المعقول لا يخالف صحيح المنقول ان صحيح المعقول يوافق صحيح المنقول» ، وفي رأيه أن اعتقاد مخالفة صحيح المعقول لصحيح المنقول خطأ ، وأن الرأي السديد عدم المخالفة بينهما ما داماً صحيحين الثبوت والدلالة .
ونعلن هذا الرأي : ليس هناك علم صحيح يقال عنه أن الإسلام يخالفه وينبغي تركه ، وفرض هذا الرأي خاطىء من أصله إما أن يكون علم فيقبل أو ليس علم فيترك وعلينا هنا أن نقف وقفة قصيرة قبل أن نتابع هذا الموضوع لنبين جانب آخر وهو الاختلاط الذي يحصل في ذهن المسلم المعاصر بين ما هو مقبول في القرآن وما هو مرفوض . وعدم وضوح هذا التمييز الذي هو واضح جداً في القرآن بقدر ما هو غامض في ذهن المسلم حيث لم يواجهه بوعي ولم ينتبه اليه
وهو أن العلم في القرآن في موضع القبول والثقة ولم يتهم العلم قط في القرآن وإنما يدان من خالف ما علم ومن لم يعلم وهاتان الصفتان هما الواردتان في قوله تعالى : ( إنه كان ظلوماً جهولاً ) . الظالم من لم يعمل بما علم والجاهل من لم يتعلم ما يمكنه أن يتعلم .
ولسنا في حاجة إلى استقصاء أن العلم في موضع الثقة والقبول في القرآن وقد وردت كلمة العلم ومشتقاتها في القرآن في نحواً ص 854 مرة في موضع الثقة ورفع الدرجة ولم يدن إلا ترك التعلم وترك العلم بما علم . وهذا ينبغي أن يكون واضحاً لنا جداً ومن البديهات ، ولكن تحقيق ذلك ليس امراً سهلاً ولا هيناً ، ومقابل العلم المقبول الموثوق به في القرآن يدين القرآن الظن ويسحب الثقة منه إن الظن لا يغني من الحق شيئاً .. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن .
والمتاهة في الموضوع أننا نخلط العلم بالظن والعكس وهذا يجعل بعض العلم ظناً وبعض الظن علماً وينتج عن ذلك أن لا نثق ببعض العلم أو أن نثق ببعض الظن في بعض الطريق الذي أشرنا اليه ، مما يجعل المسلم يقف في جزة من الطريق ولا يقدر على المتابعة ويتخلى عن العلم ليبقى مؤمناً .
وهذا يعطي الفرصة لمن يريد أن يتهم الإيمان ، ولقد نرى كثيراً من هؤلاء يقولون أن الدين ليس متلاقياً مع العلم أو لا يمكن أن يظل معه أو عليك أن تتخلى عن العلم إذا كنت تريد أن تحتفظ بالإيمان .
وعلينا أن نقرر أن ادراك الصواب في هذا الموضوع بوضوح له أهمية كبرى في استقرار المسلم والمحافظة على توازنه في كثير من المواقف ، كما ينبغي أن نعلم أن الدين الذي يخالف العلم مهما كنا حريصين على بقائه فإن مصيره إلى الزوال حتماً .
قد نستطيع البقاء على الإيمان الذين نظنه يخالف العلم ولكن ليس هذا معناه أننا نستطيع أن نحمل الأجيال التي نأتي بعدنا على نفس
الولاء الذي نحمله للدين إننا لا نستطيع أن نظل حاملين الولاء لمبدأ يخالف العالم والمعقول وعلينا أن نعي هذا جيداً وأن لا يحملنا حبنا لبعض الأرث الاجتماعي ( ما وجدنا عليه الآباء ) أن نقف موقف الخوف لأدراك هذه الحقيقة .
لأن الخوف الحقيقي أن لا نقدر على التبصر في هذا الأمر الذي يهدم المجتمع المسلم أو يعوقه في نموه وليس الخوف من أن نتبصر في هذا الموضوع لأن التبصر في حد ذاته هو الذي يقضي على المخاوف . ( قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني . )
وهناك أمر آخر وهو أن التخلي عن العلم في بعض الطريق دليل على ضعف الايمان بل أدانة للإيمان بشكل ضمني وجبن وظن شيء بالإيمان ( ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) .
ولا نبحث في هذا الموضوع الخوف اللاشعور الذي يعوق نمو المسلم من جراء الخلط وأنه ليس على بينة من أمره في هذا الموضوع كما ان هناك خلط آخر يعطي نفس النتائج الضارة السالبة المجدبة للحركة والنمو وهو الخلط بين العقل والهوى وإن كان القرآن يفصل بينهما فصلاً قاطعاً فيعطي الثقة للعقل ويتحاكم إليه ويدين الهوى ولا خالصة من الخلط عند المسلم فلا بد من التمييز بينهما حى لا نخلط بعض الهوى بالعقل وبعض العقل بالهوى .
إن الله لم يقل قط عن انسان أنه ضل باتباعه عقله وإنما قال كثيراً جداً عن ضلال من أتبعوا أهواءهم فلا بد من تحديد حدود واضحة لكل من العلم والظن ولكل من العقل والهوى وأن لا يلتبس علينا شيئاً من ذلك .
وليس هدفي الآن أن أحدد هذه الحدود التي تفصل بين العلم والظن وبين العقل والهوى وإنما أملي في أن يجعل الناشيء المسلم من هدفه أن
يسعى ويجد في السعي ليحصل ذلك ، وقد يشتد شوقك لتصل إلى ما يعلمك ما تفرق به بين العلم والظن وبين العقل والهوى وإني لأقدر فيك هذا التطلع المقدس إلا أني أقول لك إنك لست ببالغه إلا بشق النفس وعليك أن تكدح لذلك كدحاً حتى تلاقيه وينبغي أن يتضاعف كدحك ولا سيما وأنت في مجتمع مجدب من معنى العلم وفيه قحط شديد في تذوق روح العلم وبرد اليقين .
ولكن أهمس اليك بكلمة قرآنية في هذا الموضوع لعلها تقديك وتكون لك بمثابة نجم القطب في الهداية فأقول لك إن ميزان العلم وبرهانه في العاقبة الايجابية . ( فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ... وإلى الله عاقبة الأمور ) .
ان هذا لن يجعلك تدرك ما هو علم مما هو ليس بعلم لأن ذلك تكسبه في سعيك المتواصل فمهما قلت لك لا تخف من العلم ولا تتخل عنه في أي جزء من الطريق فإن هذه النصيحة لن تفيدك إلا يسيرا ، كأن أقول لك لا تخف من الماء وأنت لا تعرف السباحة لأن خوفك من التيار إنما يزيله ممارستك .
أشرت إلى ابن تيمية وإلى قاعدته وإلى جرأته في الايمان وثقته في العلم ولكن أريد أن أشير إلى محمد إقبال أيضاً بأنه علم في رأسه نور في هذا الموضوع .
فيا أيها الناشيء المسلم هل عندك قدرة على أن تكدح لفهم اقبال ولا تكتفي بما يقول عنه فلان وفلان ، إنه كان يواجه مشكلة العصر وكان يهدف إلى تجديد تفكير المسلمين وإيقاظهم .
إن مشكلة المسلمين مشكلة . إلى الآن قليل جداً الذين يعترفون بعلم النفس أنه علم وعلم الاجتماع أنه علم بل قد تناقش هذا علم أم لا . قد نعني بمشكلة تغير أوضاع ولكن لن نتمكن من ذلك ما لم نعرف علم تغيير ما بالنفس .
قد نسر إذا رأينا شباباً يقبلون على العلم ويحاولون أن يعرفوا ما هو العلم ويسعون لتغير موقف المسلمين بالعلم فنرجو لهم أن يستمروا ولا يقفوا في بعض ترهات الطريق ومن يعلم أن مصادر معرفة الحق في رؤية آيات الآفاق والأنفس لن يخيفه وعورة الطريق وقلة السالكين .
أيها الناشىء المسلم إن هذا العصر المستهتر في كل شيء لا يزال يتكلم كالأطفال ببعض كلمات جيدة مثل احترام العلم والعقل فإن النافذة الوحيدة التي يمكن أن يهاجم المسلم العالم منها هي هذه الثغرة ثغرة العلم والعقل فكيف ونحن نظن ان الشر كل الشر جاءنا من هذه النافذة .
لا تيأس وقل رب زدني علماً واكدح في سعيك لعلك ترضى .
جودت سعيد
دمشق ـ قاسيون ـ | 7 ربيع ثاني 1391 هـ 1 حزيران 1971 م |
تقديم
تعاني البشرية اليوم أزمة .. وهذه الأزمة ليست اقتصادية فالأوضاع الاقتصادية تمشي على ما يرام ، والبشرية تتحسن من ناحية الدخول اليومي .. والفقر يكافح بشدة وهو يمشي باتجاه الزوال ، والترف المادي يظلل أمماً كثيرة على وجه الأرض (1) .. كما ان الأزمة ليست كامنة في الخوف من الحرب حيث ان توازن القوى العالمية وتطور السلاح النووي عند الأمم المتصارعة أوصل البشرية إلى حالة عجيبة حيث ان القوة أبطلت القوة ، ولم تعد القوة هي التي بواسطتها يمكن حل المشاكل ، فالسلاح النووي الموجود في متناول يد البشر بمقدوره أن يفني 23 مثلاً من البشرية الحاضرة ، ولذا فان البشرية اضطرت مرغمة أن تبحث في موضوع نزع السلاح النووي الرهيب ...
كما أن الأزمة ليست في إدارة وتنظيم الحياة حيث أن تعقيد الحياة
____________
(1) البلاد الاسكندنافية تعد أكثر أمم الأرض ترفاً حيث يوجد فيها أعلى متوسط دخل للفرد سنوياً ، كما فيها الضمانات الكثيرة للمعيشة والزواج والدراسة ، ومع ذلك فان أعلى نسبة انتحار في العلم توجد في بلاد السويد والنروج .
وتسييرها الفني الآن لمما تفخر به البشرية لأن التنظيم والادارة واستعمال الادمغة الالكترونية شيء عجيب لمن يطلع عليه ويدرس كيف تسير الأمور فلقد أعلنت احدى الشركات الأمريكية انها ستزل الى السوق عقلاً الكترونياً يتسع الى ألف مليار من المعلومات وهي تساوي في عالم الإحصاء واحداً من ألف من جميع المعلومات المتاحة للجنس البشري والموجودة في مكتبات العالم كلها حيث تصل الى مليون مليار من المعلومات ، ويجري حديثاً الآن تصميم جهاز بامكانه ان يكلم مائتين وخمسين من السائلين في وقت واحد ، ويقال انه في أمريكا فقط سيكون لديها في عام 1980 ثمانون ألف عقل الكتروني ...
ولكن مع هذا فهناك أزمة تأخذ بالخناق وتلح وتضغط على العقل البشري المتزن الهادئ وعلى كل من يدرس الأوضاع وينظر بعين المتأمل الى واقع الحياة البشرية .. هذه الأزمة هي أزمة الضمير والوجدان البشري الذي لم يذق طعم الراحة والسعادة رغم كل هذه التيسيرات المادية الهائلة . انه مريض يعاني من مرض عضال قد استعصى حله ، وكل ما نرى في واقع الحياة البشرية انما هو من نتائج هذه الأزمة .. وانك لتسمع صيحات الخطر والانذار من العقلاء في الأرض جميعاً من الشرق والغرب على حد سواء وأبرزها صيحة الدكتور ألكسيس كاريل الفرنسي الذي قضى عمره في دراسة الطب في كتابه ( الانسان ذلك المجهول ) ودعا فيها الى تغيير الحضارة التي نعيشها وإبراز فكرة أخرى للتقدم البشري ...
ان منشأ هذه الأزمة هو أن كل ما درس عن الانسان ناقص مشوّه ، كلّ الدراسات على الاطلاق ، وخاصة في علم النفس الذي اعتبر عاماً
خاضعاً للدراسة فقد كان العلماء يتعثرون جداً فيه كما تضاربت نظرياتهم وآراؤهم . والسبب في ذلك هو ان عالم النفس ليس كعالم المادة ، فدراسة المادة بلغت حداً هائلاً من التقدم ولكن علم النفس يقف كالقزم المشوه الصغير أمام دراسات عالم المادة ، ولكن المهم هو ان علم النفس قرر وبدأت دراسته ومع الزمن شيئاً فشيئاً تصحو البشرية الى فهم الانسان أكثر فأكثر ولكن التقدم بطيء واعطاء القواعد الأساسية والمفاهيم الراسخة أصعب ..
هذه الأزمة هي أزمة الشرود عن الله ، هي المعرفة الناقصة المشوهة المبتورة التي ليس لها علاقة بالذي صمم هذا الوجود وفطره ، والذي أحسن كل شيء خلقه ، ان الانسان الذي يدرس في الوقت الحاضر الدراسات المختلفة ومنها الدراسة الطبية العجيبة الواسعة يجد ان هذه الدراسة مجزأة فهي مجموعة مفرقة من المعلومات ، واكداس من ملاحظات ضخمة لا يجمعها شيء ولا يلم شتاتها خيط ؟!.. كما ان هذه الدراسة ـ يشعر الانسان بعد أن ينتهي منها ـ انها ما دلته بشكل مباشر على القصد والتصميم في خلق الانسان العجيب ..
وكان لهذا الضرب من التفكير والدراسة النتائج السيئة في العقل والقلب وقد أعطت نتائج معاكسة للشيء الذي يجب أن يصل اليه الدارس ، لذا كان هذا الكتاب الذي يقوم بهذه المحاولة المتواضعة لاعادة انشاء الصلة الطبيعية بين هذه الدراسة وبين ما تدل عليه وتقود اليه ..
أولاً : أهملت الدراسة النفسية في الطب ، فكل الأمراض سببها حمات راشحة وجرائيم وطفيليات ولكل مرض أعراضه ، وعندما وضعت
الاسباب النفسية في الامراض ـ وقد حرث هذا مؤخراً حيث حشدت الاسباب النفسية من جملة الأمراض ـ وضعت بشكل مبهم غير محدد أو واضح ، بخلاف عرض المرض حينما يكون سببه جرثومياً أو فطرياً أو طفيلياً ، وهذا خلل بشع في الدراسة مع اعتراف المؤلفين في كتاباتهم ان الأسباب النفسية الروحية تلعب دوراً هاماً في كل حادث من أحداث البدن ، هذا الخلل البشع مضاعف الجانبين ، فهناك اهمال من جهة كما ان الدراسات غير متوفرة والمعالم مجهولة في مثل هذه الأبحاث من جهة أخرى ، ولكن الشيء الذي نقرره هنا في هذه البحث انما هو : ان الدراسة الطبية أهملت الدراسة النفسية الروحية ، فالدراسة المادية واسعة جداً وكل فرع له كتابه بل كتبه التي لا تنتهي ، أما الدراسة النفسية فكتاب واحد صغير أو ملخصات بسيطة يقدم فيها الطالب امتحانه ...
وهكذا يخرج الذي يدرس هذه المادة وهو متضخم في جانب وضامر بشدة في جانب آخر ، مع ان الدراسة النفسية الروحية يجب أن تعطى من الأهمية ما للجانب الآخر ، ولعل المستقبل يضطر الباحثين الى الدخول في هذا الباب ولو لم يريدوا ، ذلك لأن الكثير من أسباب الامراض ومعالجاتها مدخلها نفسي بحت ..
وثانياً : ان تركيب الانسان بجوانبه المتعددة التشريحية والفيزيولوجية (1) والنسيجية كلها تجعل المتأمل ـ حتى بشلك بسيط ـ يخشع ويأخذه
____________
(1) الفيزيولوجيا هو علم الغريزة عند الانسان او علم دراسة وظائف الاعضاء .
العجب ـ كل العجب ـ لهذا التركيب الفذ الفريد . هذا في الجوانب المادية عند الإنسان فقط فما بالك في الجانب غير المنظور !. ولكن الدراسات والابحاث في هذا المجال كأنها تتعمد اغفال محصلة هذه الابحاث وتجعله يخرج بنتيجة سلبية عما رأى وعاين ، ومع هذا فان الفلتات تبدو هنا وهناك وهي تقر وتعترف ولو رغماً عنها بعظمة الإحكام والبناء وروعة التناسق والعمل ... فالذي يعلم أن هناك ثلاثة عشر ألف مليون خلية عصبية أي 13 مليار خلية عصبية ـ والخلية بحد ذاتها بناء محير مدهش كما سيأتي معنا بشيء من التفصيل ـ تعمل بشكل دقيق محكم متناسق متعاون لتأدية الأغراض الحيوية والفكرية . والإنسان يدهش للرقم أولاً ثم لكيفية عملها وترابطها وإبداعها !.
كلها أسرار محيرة وألغاز مدهشة يكشف الطب عن القليل منها والكثير يبقى طي الكتمان حتى يحين الوقت لكشف شيء منه ؟.. والذي بعلم ان هناك 750 مليون سنخ رئوي يعمل لتصفية الدن وذلك بامرار غاز الاكسجين من الخارج الى الدم الاسود الوارد من البطين الايمن من القلب وطرح غاز الفحم منه يأخذه العجب كل مأخذ أولاً من عمل السنخ الواحد لان جداره رقيق ، فهو أرق من ورقة لفافة التبغ حيث يتألف الجدار من طبقتين من الخلايا لا تكاد ترى بالعين المجردة !. وهذه الملايين المجتمعة من الاسناخ تنقي الدم بشكل مستمر ، وتقوم بهذا الجهد حيث تنفخ الرئتان حوالي 500 مليون مرة خلال الحياة وسطياً .
والكلية تقوم بتصفية الدن من جهة ثانية وفيها واحات صغيرة جداً لا ترى إلا بالمجهر حيث يتفرع الشريان الذي يغذي الكلية الى فروع دقيقة جداً حتى يصل الى تفريع شعري لا يرى إلى بالمجهر يلتف حول
نفسه ليشكل ما يعرف بالكبة وفيها يمر الدم ببطء شديد ويتصفى بالرشح في الكبة قرابة 200 ليتر من الدم يومياً ويعود ليمتص مرة أخرى بواسطة الانابيب الكلوية التي يمر منها قرابة 198 ليتر ويطرح ليتران فقط وهما اللذان يعرفان بالبول الطبيعي . وهذه الكبب يصل عددها الى المليون في الكلية الواحدة تقوم بتصفية مئات الالتار من الدن يومياً وان الروعة لتكمن في العدد وفي بناء الكبة وفي كيفية العمل وفي الروعة الهائلة لتخليص البدن من السموم التي تدخل جسمه ... والكثير الكثير من أمور الجسم العجيبة التي سنتناولها بالتفصيل اثناء البحث .. كل هذه الروعة والدقة والحكمة والعظمة والسرعة والاتقان والمهارة ، كل هذا يقوم على أساس القصد والتدبير والإحكام .. التي يغفل عنها المؤلفون أو يتجاهلونها .
إن هذا الكتاب سيقوم بتناول الوجهة الطبية التي تبحث تركيب الانسان أولاً من الوجهة المادية البحتة وهي تركيب الأجهزة والاخلاط والأعضاء وكيف تقوم بوظائفها ، وعن دقة تركيبها وبنائها النسيجي الى غير ذلك من الأبحاث ، ثم يتناول بعد ذلك البناء النفسي عند الانسان ـ على ضعف الامكانيات وغموض البحث وعسر الخوض فيه ـ ثم بعد ذلك عن رحمة الله للبشر حينما دلهم على ما يوافق تركيبهم المادي والروحي وجزاء الشرود عن هذا الطريق في صوره المتعددة التي منها الزنى والخمر وغير ذلك مع أبحاث متفرقة تكمل هذا البحث الذي تعجز المجلدات ومهرة الأدمغة عن الاحاطة به ...
ولا ننسب لأنفسنا القوة أو الامكانية في خوض هذا البحث العظيم الدقيق ، ولكن على الأقل بعد اطلاع دام سبع سنوات ، علينا أن
نحرر ما وقع نظرنا عليه ، حتى يعلم الذي لا تسنح له الفرصة بالاطلاع على ما اطلعنا عليه مقدار عظمة الله في نفسه ، وسيكون هذا البحث قدر الامكان مزوداً بالرسوم التوضيحية ، وبعد كل هذا نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ونفس لا تشبع ، كما نعوذ به من فتنة القول وفتنة العمل ..
ونأمل في هذا البحث أن لا نقع في الزلل والمعذرة للقارئ إذا وجد ذلك فهذا تركيب الانسان .. « وخلق الإنسان ضعيفاً » ...
خالص جلبي كنجو
المصادفة والقصد أو التصميم
كل ما في الكون ابتداء من بناء الذرة حتى أعقد أشكال الحياة يشير الى التصميم والقصد في بناء الكون الحياة ، ولكن مع هذا فهناك شبهة تدور في ذهن البعض وهي رد كل شيء الى « الصدفة » ... والحق يقال ان الصدفة بذاتها أو فكرة المصادفة أو الاحتمالات لها قانون قائم بذاته يدرسه طلاب الجامعات في كلية العلوم وله بحث قائم بذاته فليس هناك مجال لخبط عشواء ...
والآن ما هي فكرة المصادفة ؟
هناك فرق بين شيئين الأول هو خلق الشيء ، والثاني ترتيب الشيء أو تركيبه حيث ان فكرة المصادفة لا يمكننا ان ندخلها البحث الأول لأن الموجود لا تحكمه قانون المصادفة بحال من الأحوال ، وأما تركيب الأشياء فقد يبقى موضع بحث ، كما أن حركة الشيء لا يمكن أن يرد الى المصادفة ، وهكذا تجد ان قانون المصادفة يبقى مشوهاً مبتوراً منذ الأساس ، فإلقاء حجر النرد ذي الوجوه السداسية قد تلعب الصدفة دورها
فيتكرر رقم واحد خمس مرات أو ست مرات أو أكثر ، ولكن احتمال هذا نادر جداً كما أن احتمال سحب أوراق مرقمة من 1 ـ 10 وموضوعة في كيس واحد بصورة مرتبة متدرجة ( بحيث ان الرقم 1 يأتي في الأول ثم تتبعه الأرقام التالية بالترتيب ) احتمال ضعيف ونادر ولكن أين لقانون المصادفة أن يلعب دوره في الوجود أصلاً أو في حركة المادة من الأساس ؟!
وهناك فكرة الحياة أو ظاهرة الحياة حيث يبقى قانون المصادفة عاجزاً عند هذه العتبة . فترتيب المواد بكيفية ما قد يوضع في مدار البحث ولكن انبثاق الحياة من الموات يبقي كل من يريد أن يبحث عاجزاً عن التفسير كليلاً في البحث وهذه نقطة أخرى جديرة بالنظر .
أولاً : أما قانون المصادفة فصيغته الحرفية : ان حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة . وإليك مثلاً يوضح هذه الصيغة ، وقد مر معنا وهو : وضع عشرة أرقام مرقمة من واحد الى عشرة في كيس واحد . فان احتمال ان يكون الرقم واحد هو الأول احتمال واحد من عشرة لأن كل رقم من الأرقام العشرة قد يكون هو المسحوب ، فالمصادفة ليس لها وجدان ولا ذاكرة كما يقول الرياضي الكبير جوزيف برترند .
وثانياً : ان تطبيق هذا القانون انما يتم على المادة غير الحية ، فدراسة الاحتمال على ضغط غاز في وعاء أو خليط من غازات قد يصح ولكن على الخلية وباقي الحياة فانه يقف ، لان الترابط في الخلية مع ظاهرة الحياة معجزة ومحيرة الى حد يجعل هنا القانون غير ساري المفعول في هذا المجال ..
وثالثاً : حتى يمكن فهم هذه المسألة المعقدة فسوف نضطر الى ذكر
بعض أمثلة تحدد هذا القانون ونبدأ بالبسيط حتى نصل الى الصعب المعقد .
المثل الأول : هو دور المصادفة في المثل الأول الذي مر معنا وسوف آخذه بالتفصيل الآن ، لو كان معنا كيس فيه عشرة أرقام من 1 ـ 10 وأردنا أن نسحب ورقة واحدة فان احتمال أن يكون الرقم واحد هو الأول هو احتمال واحد من عشرة لانه كما ذكرنا كل رقم قد يكون له الحظ في أن يكون هو المسحوب ولكن المثل يعتقد بشدة أكثر عندما نريد أن نسحب رقمين متتابعين فان احتمال أن يكون الرقم واحد ثم يتبعه الرقم اثنان هو احتمال واحد ضد مائة لاننا لو فكرنا كيف سيتم الأمر فان احتمال رقم واحد ثم تنبعه الارقام الباقية بشكل غير محدد مثل واحد يتلوه سبعة أو واحد يتلوه ثلاثة حتى يكتمل نصاب عشرة مرات ثم بقية الأرقام بالطريقة نفسها فيكون المجموع مائة مرة وهي احتمال أن نسحب رقمين متتاليين ويكون الرقم الأول واحداً والثاني اثنين ثم يتعقد المثل أكثر عندما نريد أن نسحب ثلاثة أرقام متتالية بحيث تخرج الارقام واحد ، اثنان ، ثلاثة متتابعة فيكون احتمال ذلك هو واحداً صد ألف ، وهكذا نتدرج في التعقيد والصعوبة حتى نصل الى حد عجيب وهو اذا أردنا أن نسحب الارقام العشرة مرتبة بعضها تلو بعض بحيث تخرج الارقام من واحد الى عشرة متتابعة فان احتمال هذا هو واحد ضد عشرة مليارات ، أي اننا إذا أردنا أن نسحب الاوراق عشرة مليارات مرة فان احتمال أن تخرج الارقام مرتبة بعضها تلو بعض بشكل متدرج من ( 1 ـ 10 ) هو مرة واحدة ، قد تكون المرة الاولى هي التي ستكون المطلوبة ولكننا لا ننتظر معجزة لان الطبيعة شريفة غير مخادعة ولان احتمال عشرة مليارات هو الذي يرد الى الذهن قبل
المرة الواحدة ؟!.. وهذا مثل بسيط جداً وهو سحب أرقام وسننتقل الى ضرب أمثلة معقدة أخرى بحيث اننا سنصل الى أن نعطي للمصادفة الصفر وهي الاستحالة وستأتي معنا !!..
والآن إلى مثل آخر وهو من عالم الادوية والصيدلة ، لنفرض ان لدينا صيدلية مليئة بأنواع مختلفة من المعاجين والأحماض والاسس والمراهم المنوعة والادوية العديدة ، ثم فجأة حدث اهتزاز أرضي بحيث ان هذه الرفوف التي تحمل هذا الادوية والمعاجين طرحت كل ما عليها وسالت الأدوية على الارض واختلطت ببعضها وامتزجت المراهم والمعاجين والمساحيق والسوائل ، ولما مضت الهزة الارضية رجعنا الى هذه الصيدلية فاذا بنا أمام خليط غير متجانس من الأدوية ، ان هذا الفرض هو الاقرب للمعقول ، ولكن كيف الحال لو وجدنا ان هذا الخليط قد حقق جواء جديداً ليس في البال ؟ بالطبع ان هذا مستغرب جداً لان تركيب الدواء يحتاج إلى نسب معينة محددة والى تفاعلات معينة محددة ، ولكن مع ذلك قد يصدق ، ولكن كيف الحال لو ان اختلاط هذا الادوية والمساحيق والسوائل والمراهم قد اوجدت دواء جديدا فذا يعالج مرضا مستعصياً على الاطباء حتى الآن كما في الصدف أو الصلح وهما مرضان جلديان غير مميتين أو معديين ( من العدوى ) . او يشفي أمراضاً مخيفة كالسل والسرطان (1) ان هذا في عالم المستحيل ، لأن تكون الدواء
____________
(1) يحرب سنوياً في امريكا ما يقرب من 40 الف دواء كل واحد مركب بنسب دقيقة وموجه من ادمغة علمية ومع ذلك تخيب جميع المعالجات إلا واحداً يفيد بشكل بسيط وعلى نطق محدود جداً لا يحل المشكلة التي تعاني منها البشرية حتى الآن .
بنسبة معينة وبكيفية معينة ليشفي مرضاً مخيفاً له حساب احتمالات فوق التصور .
بل كيف لو أن هذا المزيج ركب خلية أو كائنا حياً سواء أكان نباتاً أم حيواناً بالطبع إن هذا لا يدخل ولا يندرج في البحث أصلاً لأن امكانيات المصادفة تقف عند هذه العتبة وهي انبثاق الحياة . ومثل آخر يلقي نوراً في هذا البحث وهو مثل المطبعة .. لو فرضنا انه لدينا مطبعة وفيها نصف مليون حرف ثم حدثت هزة أرضية القت الحروف بعضها فوق بعض حتى اختلطت إلى حد كبير وتراكمت فوق الارض ثم عدنا بعد ذلك إلى المطبعة بعد أن انتهت الهزة الأرضة لنرى خليطاً غير متجانس من الحروف والكلمات ان هذا هو الأقرب للمعقول ولكن كيف الحال إذا رأينا جملة أو جملتين مفيدتين فيهما معنى جميل أو مثل عميق أو بيت من الشعر بالطبع ان هذا بعيد جداً ، وحتى لو حدث سيثير دهشة واستغراباً عميقين عند من يرى هذا الشيء ، وبالطبع ان هذا يعود إلى قانون الاحتمالات وهو هنا تزاحم الحروف حتى تشكل الكلمات ولقد مر معنا ان سحب عشرة أرقام متتالية واحتمال خروجها مرتبة بعضها خلف بعض بالترتيب هو احتمال واحد ضد عشرة مليارات ولكن هنا المثل معقد جداً فهو ليس تزاحم عشرة أرقام بل خمسمائة الف حرف ؟! فالمثل يبلغ حداً من التعقيد بحيث ان قانون الاحتمالات يصل إلى درجة المستحيل فيما إذا رجعنا إلى المطبعة لنجد قصيدة مؤلفة من ألف بيت من الشعر الموزون الجميل ذي المعنى العميق والوزن المتناسق ولا يوجد فيها أي خلل لغوي .. بالطبع ان هذا في عالم المستحيل لأنه في عالم الرياضيات ـ وهو عالم دقيق ـ توجد حسابات دقيقة محددة
ومعلوم فيها ان أي عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصغر فانه يصل إلى الصفر وهو يعتمد القانون المعروف & / عدد = ( & أي لا نهاية ) وهنا أمامنا في قانون الاحتمالات امكانية واحتمال حدوث هذا الشيء يبلغ رقماً لا يمكن تصوره بحيث انه يملأ من الأصفار صفحات وبحيث انه لا يقرأ بشكل عملي أي يصل إلى اللانهاية وبالتالي فهو في عالم المستحيل أي يستحيل حدوثه ، وهكذا يمكن نسف فكرة المصادفة بشكل جذري ونهائي حتى في عالم المادة قبل عالم الاحياء الذي وقفت عنده فكرة المصادفة .
وخذ مثلاً آخر وهو مثل الانبوب الزجاجي ... فلو فرضنا ان لدينا انبوباً زجاجياً وفيه ألف كرة بيضاء وألف كرة سوداء والكرات البيضاء تعلو الكرات السوداء ، وهذا الانبوب يتصل من إحدى نهايته بكرة زجاجية مجوفة تتسع إلى أكثر من ألفي كرة من حجم الكرات الموجودة في الأنبوب الزجاجي ، فلو القينا نظرة على الانبوب الزجاجي لوجدنا اللون الأبيض واضحاً كما ان اللون الأسود واضح ، ولكن لو فرضنا اننا املنا الانبوب الزجاجي ( وهو لا يتسع في قطرة إلا لكرة واحدة فقط بحيث تصبح الكرات بعضها فوق بعض ) بحيث أن الكرات اختلطت في النهاية المجوفة التي تتسع للجميع فان اللون يصبح رمادياً ، وإذا أردنا ارجاع الكرات الى الانبوب الزجاجي فان اللون لا يعود كما كان أي الأبيض متميز عن الأسود بل يصبح اللون رمادياً وذلك لامتزاج الكرات السوداء مع البيضاء امتزاجاً تاماً .. والآن فان امكانية أن تعود الكرات إلى ما كانت عليه أي الألف كرة البيضاء
منفصلة عن الكرات السوداء تحتاج إلى احتمال لا يمكن تصوره وهو احتمال 489 × 10 600 أي رقم 489 مسبوق بـ 600 صفر إلى اليمين وهذا يحتاج الى ملء اسطر عديدة من الاصفار وهو رقم لا يمكن قراءته بحال . وهذا المثل هو فقط في ناحية اللون مع تماثل باقي الشروط فكيف الحال لو حدث تغير في شروط اُخرى وأين سيكون قانون المصادفة عند ذلك وهذا كما ذكرنا في عالم المادة فقط وفي ترتيب الاشياء ..
وهناك امثلة أخرى متعددة في هذا الباب ولكنا سنختم الامثلة بمثل أخير قام به عالم رياضي سويسري هو تشارلز يوجين جاي على ذرة واحدة من العضويات والتي يمكن أن تشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات التي تعمر هذا الوجود .. ومع أن الوزن الذري لابسط الأحيات هو 34,500 وهو آح البيض ومع ذلك قام بتبسيط أول فاعتبر الذرات 2000 ( الفي ذرة ) . وقام بتبسيط آخر فاعتبر ان الذرات هي نوعان فقط بينما هي في الحالة العادية أربع جواهر على الاقل وهي الفحم والهيدرجين والاكسجين والآزوت بالاضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور وغيرها من العناصر . وقام بتبسيط ثالث وهو اعتبار الوزن الذري عشرة وسطياً مع ان الفحم 12 والاكسجين 16 ... فكانت نتيجة الحسابات التي وصل اليها هي أقرب للخيال منها إلى الحقيقة حيث أن احتمال حدوث هذه الذرة تحتاج لثلاثة أشياء . أولاً : الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة وثانياً : المادة وحجمها التي بامكانها أن تعين رقم الاحتمال وثالثاً : الزمن الذي تحتاج اليه نظرية الاحتمالات حتى يمكن تشكيل هذه الذرة الواحدة فقط ؟!!...