وزارات الجسم

البريد الإلكتروني طباعة
الطب محرابٌ للإيمان ص239 ـ ص252


لقد وجد أن مفرزات الغدة النخامية تحرض الدرق ( مثلاً ) على إفراز مادة التيروكسين ، والتيروكسين هو هورمون الغدة الدرقية الذي يقوم بنشاط متعدد الوجوه على مستويات متعددة في البدن سنذكرها بعد حين ، والتيروكسين يقوم بفعل معاكس لهورمون الغدة النخامية ، فكلما زاد إفراز الغدة النخامية زاد نشاط الغدة الدرقية وزاد التيروكسين ، وزيادة إفراز التيروكسين يلجم ويثبط النخامة فكلما زاد التيروكسين في الدم كلما ثبط الغدة النخامية أكثر ، وإذا قل مفرز الغدة النخامية قلّ إفراز التيروكسين وبالتالي تحررت النخامة وزاد افرازها ، وهكذا تمشي هذه العجلة البديعة والحلقة الرائعة من التوازن بين هورمونات الغدة النخامية ، والهورمونات التي تفرز من الغدد التي تحرضها النخامة على الإفراز ...
إن الفص الامامي من النخامة فيه أنواع متباينة من الخلايا ، وكل نوع من هذه الخلايا يمثل المصنع الذي ال يقف عن الصنع والتحضير وإعداد الهورمونات لإرسالها الى الدوران العام خاصة ، وهناك جملة أوردة كبيرة تحيط بالنخامة أهمها الجيب الاكليلي لانه يشبه الإكليل الذي يلبسه الملك ، ولا عجب في هذا فالنخامة ملكة الغدد كما ذكرنا ، وهذه الهورمونات التي تفرز من الغدة النخامية إلى الدوران معقدة جداً في تركيبها ، فهي تتجمع من عشرات الاحماض الامينية وليست ذرات بسيطة كما يتصور ، كالحاثة المنشطة القشر الكظر وتسمى اختصاراً بـ ( . C . A . H . T ) تتكون من اجتماع (39) تسعة وثلاثين حمضاً أمينياً ويبلغ وزنها الذرى (4500) (1) ، ولقد استطاع العلماء تركيبه من الناحية
____________
(1) تحدثنا فيما مر معنا عن معنى كلمتي ( حمض أميني ) وكلمتي ( وزن ذري ) يرجع اليهما .


( 240 )


الصنعية ، ولكن ما القول في هورمون (1) النمو الذي يجمع (188) حمضاً أمينياً ووزنه الذري (21500) وحاثة افراز اللبن التي تتكون من اجتماع (206) حمض أميني ، وهورمون الغدة الدرقية الذي يبلغ وزنه الذري (30000) ثلاثين ألفاً ، والحاثات التناسلية التي بلغ وزنها الذري (29) ألف ، كما أن عمر هذه الحاثات التي تفرز من الغدة النخامية قصير ، فهورمون أو حاث قشر الكظر يعيش حوالي (5 ـ 20) دقيقة من نصف عمره الحيوي (2) ، وهورمون النمر يبلغ نصف عمره الحيوي (35) دقيقة ، ومغذي الدرق أقل من ساعة .
وقارن أيها القارىء بين قدرة الخلايا في إنتاج هذه الحاثات بهذه السرعة ، وبين اجتماع العلماء والجهود والاموال والخبرات والمصانع والانكانيات والادمغة من أجل تقليد هذه الخلايا المتواضعة لتركيب حاث صغير عدد أحماضه الامينية (39) وليس (206) أو ثلاثمائة ، لان إنكانيات العلماء والمخابر لم تصل بعد إلى هذا المستوى ، فكيف بتركيب الحلية بالذات فضلاً عن إيجاد ذبابة ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) سورة الحج ...
إن الهورمونات الستة التي تفرز من الفص الامامي للغدة النخامية هي هورمون النمو ويرمز له بالرمر GH ، ويقوم هذا الهورمون بالاتصال بمحطات توليد النمو في الجسم ، وهي العظام والغضاريف
____________
(1) كلمة هورمون وحاث لهما نفس المدلول ولكن كلمة هورمون هي مستعملة في اللغة الأجنبية ودرج استعمالها في اللغة العربية .
(2) يقصد بنصف العمر الحيوي هي غياب نصف المادة من الدم في هذه المدة من الزمن .


 

 


 

 


( 241 )


وأنسجة الاتصال فيتفاهم معها على البذة الجثمانية التي سيكون عليها هذا الكائن ، وفيبدأ العظم في التفاهم مع الدم والكلس والمعادن والأخلاط والبروتينات والشحوم وبقية الغدد على انجاز الهيكل العظمي بشكل يتفق مع الخريطة الهندسية التي أطلعه عليها هورمون النمو ، وكأن هذا الهورمون هو المهندس الذي يصمم الخريطة وبقية الأعضاء هم العمال والمقاولون والبناؤون والعتالون والنقالون الذين يبنون هذه البناية الإنسانية الفريدة ، وهكذا يقوم الهيكل العظمي بشكل متزن من كل جهاته ويساهم معه غضروف الاتصال ، وأنسجه الاتصال في كل البدن .
وأما الحاث الذي ينبه الثدي على إفراز اللبن (1) فهو يطلع غدد الثدي وخلاياها على الطريقة السحرية الغامضة التي يمكن بواسطتها قلب محصول الدم في الخلايا إلى حليب يناسب الطفل من كل جانب ، كما أن نفس الحليب يزداد تركيز المواد فيه مع الزمن بحيث يناسب الولد مع تقدم نموه واشتداد عضلاته ، وقوة مفاصله ، وتدرج تكوينه .
وأما الحاث الثالث فهو الذي يتصل الدرقية (2) وهو يعلم الدرق كيفية اصطياد اليود من الدم ، وتركيب هورمونات الدرق منه مثل التيرونين والتيروكسين ، والتيروكسين بدوره يفعل كما ذكرنا على مستويين : الأول هو تثبيط مفرز الغدة النخامية ، والثاني على مستوى
____________
(1) يسمى اختصاراً L.T.H .
(2) الغدد التي تترابط بشكل مباشر مع النخامة هي الدرق وتقع في أسفل ومتتصف العنق ولا تظهر إلا في الاحوال المرضية ، وغدة الكظر وهي مثل القبعة المثلثة فوق رأس الكلية ، وغدة المبيض وتقع في أسفل البطن والخصية والثدي ، واجهزة النمو بشكل عام ، والهورمونات الستة اختصاراً هي A.C.T.H لقشر الكظر أو مغذي الكظر و T.S.H مغذي الدرق ، و L.T.H مغذي الثدي ، و G.H النمو ، و F.S.H لجريب دو غراف ، و I.C.S.H لخلايا المبيض والخصية .


( 242 )


الجسم ، فهو يؤثر في كل الأجهزة على الإطلاق عدا الدماغ لأنه مركز القيادة ، والطحال لأنه المقبرة الموحشة المنعزلة ، والخصية والرحم لأنهما من اختصاص الغدة النخامية .
وهذا الهورمون أصح ما يقال عنه إنه هورمون الفعالية والنشاط فهو يدفع النشاط والحيوية في كل مسارب البدن ، فالقلب يضرب ، والتوتر يرتفع ، والفعالية تزداد ، والعرق يتصبب ، والصوت يعلو ، والحرارة تتدفق في أرجاء البدن ، والنمو يزداد ، ومنعكسات الجهاز العصبي تزداد ، والكلية تعمل ، ويزداد ادرار البول ، والعضلات تشتد ، والسكاكر تحرق ، والشحوم تذاب في البدن ، والفيتامينات تتكون مثل الفيتامين A من الكاروتين ... إنها الفعالية والنشاط في كل مستويات البدن . إنها حرارة العمل ، ونشاط الانتاج ، ووهج الحيوية ، ولكن إذا زاد الأمر أو نقص انقلب الأمر بشكل مريع ، وهو ما يعرف بقصور الغدة الدرقية ونشاط الغدة الدرقية ، ففي الأول يسيطر الكسل والخمول على كل فعاليات البدن ، فإذا تحرك نقل المريض نفسه ببطء ، وإذا تكلم كان صوته خشناً خافتاً وكأنه ينبعث من كهف ، وأما وجهه ففيه تعابير البلادة ، وأما قلبه ففيه بطء الحياة ، وهكذا يعم الكسل وينتشر الخمول !! وإذا اشتد نشاط هذه الغدة تدفق العرق من الجسم فلا تصافح المريض إلا ويده رطبة من التعرق ، وتفيض الحرارة على الجسم فيشعر المريض وكأنه في أتون ويتضايق من الحر . ويميل إلى حب البرد ، وإذا تكلم ارتفع صوته واشتد غضبه وحدثت لديه الانفعالات بسرعة وبشدة ، وإذا مد يديه أصابهما الرجفان ، وهكذا تنتشر السرعة ، ويعم الاضطراب العصبي وكأن الحالة الأولى هي القطار البطىء والثانية هي القطار الأهوج السريع !!!...
وأما الحاث الرابع فهو الرسول الموقر إلى مملكة الكظر حيث يقابل


( 243 )


عناصر الدولة في الحدود الأولى ، وهي القشر في الكظر ، وهناك تشرح الخطة التي يجب أن يقوم بها الكظر ، حيث يبدأ بإفراز الهورمونات من ثلاث مناطق ، وبعدد يبلغ الثلاثين هورموناً ، وهي تقوم بثلاث وظائف حيوية : الأولى على مستوى السكاكر ، والثانية على مستوى معادن البدن ، والثالثة في الوظائف الجنسية ، ولذا تسمى هذه الهورمونات : بالقشرية السكرية ، والمعدنية ، والجنسية . وهي تفرز من مناطق اختصاص من منطقة قشر الكظر .
وهذه الهورمونات الثلاثون تقوم بجملة عجيبة في البدن فتعدل الشوارد المعدنية فيه ، وتحسن وظائف أجهزته ، وتحافظ على اتزان أخلاطه ، وتسير أموره ، وتضبط موازينه فيما يزيد على سبعين وظيفة لسنا بصددها الآن ، هذا مع العلم بأن كل الكظر بما فيه القشر واللب لا يتجاوز وزنه سبعة غرامات فقط .
وأما الرسولان الأخيران فهما يرسلان إلى مراكز الجنس ومستودعات الذخيرة الإنسانية ، وهي الخصية والمبيض ، وهناك تشرح الخطة المفصلة لانضاج البيضة الإنسانية وإعدادها للالقاح ، كما يهىء الحيوان المنوي بما يلزمه في الرحلة التي يقطعها عبر الرحم والأخلاط والمفرزات والطرق المتعرجة ، والمسارب الملتوية ، والأحماض والسوائل ، فهو يزود بذنب طويل يساعده على الحركة اللولبية ، كما يفهم كيف يجب أن يمشي وأي الطرق يختار ، وما هي السرعة التي يجب أن يسير بها ، والطريقة التي يسرع بها ، وأنسب ما تكون الحركة اللولبية ، كما يغطى رأسه من الأمام بخوذة مصفحة حتى لا يتأثر بالصدمات والرضوض والضربات ، وهي القلنسوة الامامية ، وحتى يلج بها جدار البيضة التي تنتظره . ثم يزود بعد ذلك بالأدعية أن يحفظه الله في رحلته الميمونة الخطرة !! فكيف علمت وعلمت هذه الهورمونات ، أهو عامل الصدقة ؟ أم هو


( 244 )


قوة النطفة بذاتها ، أم هي القوة المدبرة اللطيفة الحكيمة والعقل المنظم الدافع الذي يبعث الحياة ، ويهب الحكمة ، ويمنح الرحمة ، ويعطي الهداية للكائنات .. ( قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ايتوني بكتاب من قبل هذا أن أثارة من علم إن كنتم صادقين ) سورة الأحقاف .. ( أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ) سورة الطور ..
هذا ما كان من أخبار الفص الأمامي للغدة النخامية ، وأما الفص المتوسط فيفرز حاثاً يتعلق بالجلد حيث يوفد هذا السفير إلى تلك الأصقاع النائية الشاسعة التي تغطي الوجود الانساني كله من مفرق رأسه إلى قدمه ، ولا تنفتح عنه إلا في الفوهات مثل الفم والانف والاحليل والمستقيم ، والجلد في هذه الفوهات يستدير ويفصل بطريقة ملائمة جداً ، ويأتي هذا السفير إلى تلك الاصقاع فيخبرهم بالخطر الذي يتعرض له الجلد من الضياء والحرارة والأعداء الخارجيين ، لذا فان أنسب تلوين يأخذه هو من طبيعة الأرض ولون الأرض التي يعيش عليها ، كما أن المناطق التي تتعرض بكثرة للنور يجب أن لا تبقى بيضاء والا احترقت خاصة في المناطق التي تزداد فيها أشعة الشمس مثل المناطق الاستوائية ولذا يتلون الجلد باللون الأسود ويحدث العكس في المناطق الباردة والمناطق القليلة الشمس .
إن تتظيم الصباغ الذي بلون الجلد يعود إلى هذا الهورمون الحاث حيث يتفاهم مع خلايا قاعدة الجلد على افراز صباغ خاص يسمى بالميلانين ، وهذا الصباغ يلون الجلد باللون المناسب حسب الحرارة ووهج الضياء الخارجي ، ولنا أن نتساءل أمام هذه الحقيقة : ما ذنب الزنجي الاسود حتى تسقط حقوقه ، وتداس كرامته ، ويحرم من التعليم ، ويسام الخسف والهوان والضيم والذل ، ويسلط عليه الفقر والجهل


( 245 )


والمرض ، ويطارد كالكلب ، بل يكتب على المطاعم ممنوع دخول الكلاب والسود !! ما ذنبه إذا كان كل صباغ الميلانين هذا الذي يتوزع في جلده يساوي غراماً واحداً فقط ، ولكن هل تساوي هذه الحضارة المزيفة غراماً واحداً من الخلق والإنسانية ؟!!...
وآخر الأقسام الثلاثة من النخامة هو الفص الخلفي ، ويسمى بالفص العصبي ، لأن له اتصالات عصبية مباشرة مع مراكز الدماغ العليا أكثر من الفص الأمامي والمتوسط ، وكما ذكرنا سابقاً فهناك مراكز تقع فوق النخامة وتحت السرير البصري ، وهذه المناطق هي مناطق التنظيم والقياده العليا التي تنصّب الملوك ، وتعين الأمراء ، وترسل الرسل ، وتهيمن على الجميع !! إن هذه المنطقة ترسل أليافاً عصبية تسيطر بها على فعالية الغدة النخامية حتى تتناسق في العمل مع بقية أعضاء الجسم عن طريق الدماغ ، وهذه الألياف تنحدر إلى الغدة وتتوزع في الفصوص الثلاثة ، وأكثرها في الفص الخلفي ، ويبلغ عدد الألياف وسطياً في كل فص (50) ألف ليف عصبي ، فهي شبكة اتصالات هاتفية مكونة من أكثر من (100000) مائة ألف خط للتفاهم وتنسيق الجهود .
هذا الفص يفرز ثلاثة هرمونات ، وهذه الهورمونات تقوم بثلاثة أدوار هي تقليص عضلة الرحم ، وتقبيض الأوعية الدموية ، والدور الثالث عبارة عن عملية مضادة للإدرار في الكلية . فأما الهورمون الأول فهو الذي ينظم تقلص الرحم في ساحة الخلاص وبشكل تدريجي ونتساءل لماذا يبدأ هذا الهورمون عمله وفي هذه اللحظة بالذات ؟ لقد وجد من أسرار التنظيم العجيبة أن هناك تضاداً ما بين إفراز هذا الهورمون من غدة النخامة ، وما بين الهورمونات التي تفرزها المشيمة المتعلقة بأرجل هي أقوى من مائة (100) أخطبوط إلى جدار الرحم ، وهي هورمونات البروجسترون والأستروجين ، ولقد لوحظ ان هذه


( 246 )


الهورمونات تنخفض كلياً وبسرعة في لحظة ما ، وكأن هذا اللجام للغدة النخامية قد أفلت وكأن تعلق المشيمة بجدار الرحم قد تزعزع من الأساس فيبدأ هذا الهورمون باقناع الرحم أن يتقلص لدفع الجنين إلى الخارج بشكل منظم تدريجي بعد أن حواه تسعة أشهر كاملة ( حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) ونتساءل مرة أخرى ما الذي دعا الى هبوط مستوى هورمونات المشيمة من الدم كلياً دفعة واحدة وبسرعة ؟ هل لأن المشيمة شاخت ، أو ماذا ؟ لا أحد يدري وقيل في هذا تعليلات مختلفة ولكن أصدق ما يقال هو قدرة الله المنسقة للكون والحيان والانسان (1) .
وييدأ الرحم في التقلص ، ويبدأ صراخ الأم وتمر بمراحل مختلفة من الالم يشتد فيها تدريجياً حتى يصل الألم إلى درجة لا تستطيع الام أن تخرج معه صوتها ، نقف هنا لنلفت نظر القارئ إلى نقطة عجيبة وهي : إن تفلص الرحم المنظم المشتد تدريحياً هو الذي يخرج الجنين إلى الحياة لأن نقص التقلص يفضي إلى ما يعرف بعطالة الرحم حيث يمتنع الرحم عن التقلص ويبقى الجنين في الداخل ينتظر ساعة الخلاص ، وهنا يعمد الاطباء إلى ما يعرف بتحريض المخاض عن طريق حقن مواد ودوائية في الوريد ، وإذا اشتد تقلص الرحم حدث ما يعرف باشتداد تقلص الرحم ، وفرط مقوية الرحم التي قد تصل إلى درجة تكزز الرحم حيث تتوالى التقلصات بدون فواصل راحة وكأنها هستريا تشنجية في عضلة الرحم ، ويصل الامر في آخره إلى أن تنقبض الرحم مرة واحدة فلا ترتخي ، وهذا معناه الهلاك المبين للجنين ، لا تشنج الرحم
____________
(1) لا يعني هذا ان بقية الآليات والتفاعلات في الجسم إذا جاء العلماء وفسروها فان معناها ان قدرة الله لا تتدخل فيها ، بل إن نفس الدماغ الذي يفسر بواسطته العالم مشاكل العلم هو من هبات الله التي لا تحصى .


( 247 )


وانقباضه بهذا الشكل يعني انقطاع ورود الدم إلى الجنين عبر المشيمة ، ويبدأ الجنين في التالم ويرسل صيحات النجدة وإشارات الاستغاثة ، ولكن كيف سنعرف أنه في حالة محنة وكرب ؟ إنه يرسل صرخات النجدة من خلال أثمن ما يملك وهو دقات القلب (1) ، وهكذا يعرف الطبيب وضع الجنين تماماً من خلال سماع دقات قلب الجنين ، وتكون إشارات الاستغاثة تماماً كالإشارات الخضراء والصفراء والحمراء . فالقلب أولاً يسرع ثم يبطؤ ، ثم تخف ضرباته ويضيع انتظامه ، وكأن الحالة الأولى الانفعال السريع ثم التراخي ثم الاقتراب من سكرة الموت وضياع الوعي ، فما أعقل قلب هذا الجنين الذي يرسل هذه الإشارات المعبرة !! ان سماع هذه الدقات يعني للطبيب أن يتدخل بسرعة لانقاذ حياة هذا الذي يغرق في الموت كل لحظة .
إن هذا الهورمون هو الذي ينظم تقلصات الرحم كحد السيف فلا تزيد ولا تنقص وكل شي بمقدار ، حتى يسهل خروج الجنين إلى الحياة ولكن إذا خرج سالماً هل انتهت القضية ؟ إن المحنة تبقى للأم فجدار الرحم مثقوب بآلاف الثقوب من أوعية الدم التي كانت تغذي المشيمة وها هي قد انفتحت دفعة واحدة فيا للهول الهائل !! إن هذا يعني موت الأم في دقائق لأن النزيف سيقتلها ولن ينقذها شيء في هذه اللحظة إلا القدرة الحكيمة اللطيفة التي رتبت الأمور !!
يا أيها الهورمون الذكي لقد كنت تشبه الذي يلعب الأستغماية فأنت تبرز وجهك للرحم فيخاف وينكمش ثم تختفي فيرتخي الرحم ويبش ،
____________
(1) دقات قلب الجنين ضعف دقات قلب الرجل الكهل أي 120 ـ 140 ضربة في الدقيقة الواحد وهي تشبه دقات الساعة ، وقد ترتفع في حالات تألم الجنين إلى 160 ـ 180 ـ 200 واكثر في الدقيقة الواحدة .


( 248 )


وهكذا تتوالى التقلصات ، فالآن جاء دورك أيها الهورمون الذكي إجعل الرحم ينقبض دفعة واحدة ، ولفترة طويلة (1) ، لقد جاء دور الانقباض الآن !! ألا تعجب أيها القارىء ما بين خطورة الانقباض قبل قليل وفائدته الآن !! ان انقباض الرحم قبل قليل معناه موت الجنين ، وعدم انقباض الرحم الآن يعني موت الام ، نفس العمل يميت ويحيي ، فتباركت اللهم الذي جعلت من الموت حياة ومن الحياة موتاً ( إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنّى تؤفكون ، فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون . وهو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصّلنا الآيات لقوم يفقهون ) سورة الانعام ، هذا هو عمل هذا الهورمون الذكي العاقل فهو هورمون ساعة الخلاص ، وهو هورمون النجدة ، وهو هورمون التخفيف والمواساة للأم .
وأما الهورمون الثاني من الفص الخلفي للنخامة فهو يتعلق بالعروق الدموية المرنة ، فهو يخنقها أو يرخيها . وأما كيف يتم هذا التقلص أو الارتخاء ، وبالتالي يرتفع ضغط الدم أو ينزل ، فان السبب فيه يرجع إلى أن هذا الهورمون له علاقة وصحبة قديمة مع عناصر مهمة في جدار العرق الدموي وخاصة الشرايين ، فالشريان يتكون جداره من ثلاث طبقات ، وتحوي الطبقة المتوسطة أليافاً عضلية مرنة ، فإذا تقلصت هذه الألياف العضلية أدى ذلك إلى صغر لمعة الوعاء الدموي وبالتالي اشتد
____________
(1) يسمى هذا الفعل عند المولدين بالارقاء الحي ، وسماها بينار تشكل كرة الامان لأن الشعور بها يبعث الى الاطمئنان على حياة الأم ، وعدم تشكلها يعني النزف كافواه القرب ..


( 249 )


ضغط الدم ، والعكس بالعكس ، إن هذا الهورمون الجوال لا يهمه من كل ما يحيط به إلا هذه المنطقة فقط فيأوي اليها ويفهمها أن ترتخي وتتقلص بما يناسب حالة البدن بشكل عام من الداخل أو الخارج . وأما كيف يتم التفاهم بين هذا الهورمون وبين الألياف العضلية اللاارادية أو ما تسمى بالألياف الملس فتقوم بما املاه عليها اقتناعها ؟ فذلك سر من الاسرار ‍‍‍‍‍‍!
وأما الهورمون العاشر والأخير من سلسلة هورمونات الغدة النخامية ، أو الهورمون الثالث من هورمونات الفص الخلفي من النخامة ، فيختص بالكلية فهو معجب بها ولا يحب غيرها ، ولذا فهو يأوي اليها ليقوم ببعض المهام التي تعتبر في منتهى الخطورة بالنسبة للجسم ، إن هذا الهورمون يقع تأثيره بعمل معين وفي منطقة معينة ، فأما العمل المعين فهو الامتصاص وكأنه ذلك الحيوان الاسطوري الذي لا يكف عن شرب السوائل ليل نهار ، وأما مكان عمله فهذا يحتاج لشرح بسيط .
لقد وجد أن الكلية تتكون من مليون كبة !! وما هي الكبة ؟ أهي كبة شعر ؟!؟ لا إنها كبة من شعريات دموية فالشريان الكلوي يتفرع حتى يصل إلى درجة عظيمة من الدقة والصغر وهنا يلتف على نفسه حتى يكون كبة ، ولكن من وعاء دموي صغير هو أرفع من الشعرة ، وهذه الكبة يحيط بها غشاء هو أشبه بالقربة التي تتلقى السوائل التي ترشح من هذه الكبة ، ومن هذه القربة يمتد أنبوب متعرج ثم يشكل عروة صغيرة (1) ، ثم يتعرج مرة أخرى حتى يلتقي بأمثاله ، مكوّناً أنبوباً كبيراً ، وهكذا تجتمع الأنابيب فتكوّن أنبوباً أكبر ، وهكذا حتى تصب فيما يسمى بالكؤوس الكلوية ، وهي تشبه الخلجان البحرية ، ثم
____________
(1) تسمى هذه العروة بعروة هانلة .


( 250 )


يلقى البول المتكون الراشح في الحويضة ثم يمر إلى الحالب فالمثانة فالاحليل ، ثم إلى الخارج نهائياً ، ان الأنبوب القريب من الكبة تمتص منه معظم السوائل المرتشحة وهي ما تقارب 85% ، والمنطقة التي تقع بعد عروة هائلة تسمى بالأنبوب البعيد وهنا يمتص قرابة 14% من السائل الراشح ، والامتصاص هنا يخضع لهورمون الغدة النخامية ، ولذا سمي بالهورمون المضاد للأدرار ، ويتم الامتصاص هنا بشكل فاعل أي أن الامتصاص هنا يتعلق بكمية هذا الهورمون في الدم ، وبكمية الشوارد المعدنية والسوائل التي توجد في البدن ، ولكن الشيء المهم هو أن هذا الهورمون هو الذي يمسك هذه القناة فيصرف سوائلها ، بينما تعتبر المنطقة القريبة من الكبة منطقة منفعلة يتم الامتصاص فيها بشكل آلي وبدون تدخل أحد ، فهي قناة عامة لا يد لأحد فيها ، وحتى نتفهم خطورة هذا العمل الذي يقوم به الهورمون فيجب أن نعلم أن كمية الدم المارة في الدقيقة الواحدة هي (1300) سم 3 أي أن الكلية تقوم بتصفية (1800) ليترة من الدم يومياً فأي مصفاة عجيبة هذه !! وهذه المصفاة تصفي من الدم عشرات العناصر من المعادن والسموم والنفايات ، والمخلفات والمواد التي تعتبر حصيلة استقلابات البدن ، ولذا يعتبر فحص البول مهماً جداً لكشف الكثير من الأمراض التي تختص بجهاز البول وببقية الأجهزة .
إن الدم الذي يمر يرشح منه في تلك القربة السحرية ـ وتسمى بمحفظة بومان ـ مقدار يبلغ (127) سم 3 في الدقيقة أي ما يعادل (183) ليتر من البول يومياً فكيف يمتص ثانية ؟ إن امتصاصه يتم عن طريق الأنابيب القريبة ، ثم الأنابيب البعيدة ، بواسطة هورمون النخامة المسمى بالهورمون المضاد للإدرار ، وهكذا يمتص ( 5و181 ) ليتراً ويطرح (5و1) ليتراً يومياً وهو البول العادي الذي يطرحه كل واحد منا ، وهكذا يمتص (1100) غرام من ملح الطعام و(410) غرام من ثاني فحمات الصوديوم و(150) غرام


( 251 )


من سكر العنب ... وهذا يعني أن سوائل البدن التي تتراكم ما بين الخلايا وتقدر بـ (11) ليتر تترشح وتمتص (16) مرة في اليوم الواحد ، أي ان أخلاط البدن الداخلية تنقى وتصفى من الكدر والسموم والبقايا والنفايات والمواد الضارة ، والزائدة ، والتي لا لزوم لها ، ومحاصيل الاستقلاب ، كلها تنظفها الكلية من الجسد (16) مرة في اليوم ، فأي عناية وأي نظافة وأي تصفية عجيبة هذه !!
وإذا وقعت الواقعة وفقد هذا الهورمون من البدن فماذا يحدث ؟ بول دائم ليلاً نهاراً ! إن المريض يبول ويبول بدون توقف (1) ، وحتى يعوض عما يبول يشرب ويشرب ويشرب الماء ، وهكذا فان المريض لا يبقى له شغل إلا أن يكون بجانب حنفية الماء ودورة المياه ، وإذا لم يفعل هذا تجفف جسمه ومات في مدى أيام قليلة ، وكل هذا بسبب فقد هذا الهورمون الذي يسيطر على إدرار البول في الجسم وبتأثير يبلغ ملغرامات بسيطة قليلة ...
إنه الاتزان المحكم ، والدقة الرائعة ، والحكمة المهيمنة ، والإرادة المدبرة ، فلا شيء يقوم بالفوضى أو على الفوضى ، ولا شيء يوجد من تلقاء نفسه بل تقوم السنن والنواميس والقوانين المطردة الدقيقة الرائعة المتزنة ... ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) سورة الفرقان .
وهكذا رأينا في الغدة النخامية التي تزن نصف غرام ويبلغ طولها 1 سم وعرضها ( 1 ـ 5 و1 ) سم وارتفاعها نصف سنتمتر ، أي أن حجمها يبلغ (1) سم 3 ، وجدنا فيها ثلاثة فصوص ، يوجد في الفص الأمامي
____________
(1) يسمى هذا المرض بالبيلة التفهة أي التي لا طعم لها لكثرة احتوائها على الماء ، ولا تتصور أيها القارىء كم يشرب ويبول هذا المريض يومياً فلقد ذكر أن أحد المصابين بال في يوم واحد (43) ليتراً من البول أي قرابة ثلثي وزنه !!


( 252 )


وحده خمسة أنواع من الخلايا ، وتفرز هذه الغدة (10) عشرة هورمونات ، وتتصل بالدماغ بأكثر من (100) ألف خط هاتفي ( ليف عصبي !! ) وتسيطر على الدرق وقشر الكظر والخصية والمبيض والثدي وأجهزة النمو ، أي العظام والمفاصل والعضلات والغضاريف ، وعلى العروق الدموية والكلية وعضلة الرحم . وهي بهذه السيطرة والهيمنة تعدل أخلاط البدن ، وتصحح مزاجه ، وتضبط سوائله ، وتصرف فائضه ، وتقوّم ميزانيته ، وتعدل أحماضه وقلوياته ، وتوازن شوارده ، وتحكم تفاعلاته ، فكيف تم هذا المزيان الرائع ؟ وكيف ركبت هذه الآليات المعقدة ؟ وكيف وزنت الأمور وأقيمت بالقسطاس المستقيم ؟.. ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم ) سورة الحجر .
والان الى بحث شيق آخر من أبحاث الروعة والعظمة في هندسة وبناء الانسان .

وزارات الجسم

مكن أن يشبه الجسم إلى حد بعيد بالأمة والدولة ، فالخلايا هي أفراد الشعب العامل ، وتجمع الخلايا في عمل واحد يشبه المديريات والمؤسسات ، والاختصاصات في الجسم تشبه الوزارات إلى حد ما ، فالجهاز العصبي المركزي هو بمثابة السلطة الحاكمة المهيمنة ، المخلصة ، العاقلة ، العالمة ، والجسم كله يمثل الشعب المتفاني في الطاعة وتقديم الولاء .
وأما جهاز الدوران فهو يجمع بين خاصية نقل الغذاء والاكسجين إلى الأنسجة العطشى الجائعة وإرجاع بقايا الاحتراق ونفايات الغذاء ، فهذا الجهاز يعبّد الطرق ، ويشق الممرات ويحس الوصل ، ولذا فهو أشبه بوزارة المواصلات .