أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية سماحة الاسلام وحقوق الأقليات الدينية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام المبحث الثالث الحقوق المدنية واقرار العقود والايقاعات
 
 


المبحث الثالث الحقوق المدنية واقرار العقود والايقاعات

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب سماحة الإسلام وحقوق الأقليات الدينية ص 102 ـ 114


المبحث الثالث
الحقوق المدنية واقرار العقود والايقاعات


  أقرّ الإسلام جميع العقود والايقاعات التي تنعقد بين غير المسلمين ماداموا يعتقدون بصحّتها ، وإن كانت مخالفة لأحكام الإسلام ، باستثناء ما يؤدي إلى إضعاف المسلمين أو تفتيت كيانهم ، كالعقود العسكرية وما شابه ذلك ، وفيما يلي نستعرض بعض تلك العقود والايقاعات التي أقرّها الإسلام.

أولاً ـ اقرار الزواج والطلاق :

  أقرّ الإسلام زواج غير المسلمين فيما بينهم سواء أكانوا كفاراً أم أهل كتاب ، وإن كان مخالفاً للشروط المتبعة في الشريعة الإسلامية.
  ولم يحدثنا التاريخ ان المسلمين الاوائل الذين تحولوا من الشرك إلى الإسلام قد أمروا باجراء عقد جديد ، وانما أقرّوا على عقدهم في حال الشرك ، واستمرت هذه السيرة ، وكما يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « ان لكلّ اُمة نكاحاً » (1).
  وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن رجل هاجر وترك امرأته مع المشركين ثم لحقت به بعد ، أيمسكها بالنكاح الأول أو تنقطع عصمتها ؟ فأجاب : « يمسكها
____________
(1) وسائل الشيعة 16 : 37 | 2 ، باب تحريم القذف حتى للمشرك مع عدم الاطلاع ، كتاب جهاد النفس.


( 103 )

وهي امرأته » (1).
  والاقرار على الزواج يكون مطلقاً وإن كان المهر خمراً أو خنزيراً لاعتقادهم بصحّة ذلك ، سئل الامام الصادق عليه السلام : عن رجلين من أهل الذمة أو من أهل الحرب يتزوّج كلّ واحد منهما امرأة وأمهرها خمراً وخنازير ثم أسلما ، فقال عليه السلام : « النكاح جائز حلال لا يحرم من قبل الخمر ولا من قبل الخنازير » (2) .
  وإقرار غير المسلمين في النكاح من الثوابت في الشريعة الإسلامية ، قال الشيخ الطوسي : « فان أنسابهم وأسبابهم ، وإن لم تكن جائزة في شريعة الإسلام ، فهي جائزة عندهم ، وهي نكاح على رأيهم ومذهبهم ، وقد أمرنا أن نقرّهم على ما يرونه من المذاهب ، ونهينا عن قذفهم بالزنا » (3).
  ولا يشترط في إقرار نكاح غير المسلمين أن يكون الزوجان متّحدي العقيدة ، ويرى الفقهاء انّ العقد بين الكفار لو وقع صحيحاً عندهم وعلى طبق مذهب يترتّب عليه آثار الصحّة عندنا ، سواء كان الزوجان كتابيين أو وثنيين أو مختلفين (4).
  وقال السيد السيستاني : « الزواج الواقع بين غير المسلمين إذا كان صحيحاً عندهم ووفق شروط مذهبهم ، تترتّب عليه آثار العقد الصحيح عندنا » (5).
____________
(1) الكافي 5 : 435 | 1 ، باب نكاح أهل الذمة والمشركين ، كتاب النكاح.
(2) الكافي 5 : 436 | 5 ، باب نكاح أهل الذمة ، كتاب النكاح.
(3) النهاية : 683 ، 684.
(4) تحريرالوسيلة2 : 285 ، مهذب الأحكام 25 : 163 ، الفتاوى المنتخبة : 250 ، هداية العباد 2 : 440.
(5) الفقه للمغتربين : 260 .

( 104 )


ثانياً ـ الإرث :

  أقرّ الإسلام حقّ الإرث بين غير المسلمين ، فلو مات أحدهم انتقلت أمواله إلى الورثة ، ولا سبيل لأحد على أموالهم.
  ولم يشترط أكثر الفقهاء في مسألة إرث غير المسلمين تحقّق الأنساب والأسباب على طبق ما في شريعة الإسلام (1).
  ولذا فان المجوسي الذي يستحلّ نكاح بعض المحارم يورث بجميع « قراباته التي يدلي بها ، ما لم يسقط بعضها ، ويورثون أيضاً بالنكاح وان لم يكن سائغاً في شرع الإسلام » (2).
  ويرث الكفار بعضهم بعضاً وإن اختلفت جهات كفرهم (3).
  وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال : « إن عليّاً عليه السلام كان يقضي في المواريث فيما أدرك الإسلام من مال مشرك تركه ، لم يكن قسّم قبل الإسلام ، انه كان يجعل للنساء والرجال حظوظهم منه على كتاب الله عزّوجلّ » (4).
  ولو أسلم الذمي ثمّ عاد إلى دينه السابق ثمّ مات فميراثه لأبنائه (5).
  وتبقى المواريث محفوظة وإن تبدّل الموقف السياسي من قبل الذمي ، فإذا نقض العهد والتحق بدار الحرب فأمان أمواله باقٍ ، فإن مات ورثه وارثه الذمي
____________
(1) النهاية : 683 .
(2) الرسائل العشر | الشيخ الطوسي : 279.
(3) الكافي في الفقه : 375 ، ونحوه في : المقنعة : 701.
(4) وسائل الشيعة 26 : 23 | 1 ، باب ان الكافر يرث الكافر ، كتاب الفرائض.
(5) الاستبصار 4 : 193 | 19 ، باب انه يرث المسلم الكافر ولا يرثه الكافر.

( 105 )

أو الحربي (1).
  وارث الكافر لمثله محل اتفاق الفقهاء (2).

ثالثاً ـ الوصية :

  أقرّ الإسلام وصايا غير المسلمين ، فمن اوصى منهم بالتصدق في ماله او انفاقه في مورد معين أقرّت وصيّته ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألت ابا عبدالله عليه السلام عن رجل اوصى بماله في سبيل الله فقال : « أعطه لمن أوصى به له وإن كان يهودياً أو نصرانياً... » (3).
  ولم يُجوّز الإسلام تغيير محتوى وصية غير المسلمين ولا الغائها أو انفاقها ـ إن كانت مالاً ـ في غير ما وضعت له ، عن الريان بن شبيب قال : أوصت اُختي لقوم نصارى فراشين بوصية ، فقال أصحابنا : اُقسّم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك ، فسألت الرضا عليه السلام فقلت : إن اُختي أوصت بوصية لقوم نصارى ، وأردت أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين ؟ فقال : « امض الوصية على ما أوصت به » (4).
  ومن يبدّل محتوى الوصية يكون ضامناً ، ولابدّ أن تنفق في المورد الذي
____________
(1) شرائع الإسلام 4 : 186.
(2) منهاج الصالحين | السيد محسن الحكيم 2 : 382 ، منهاج الصالحين | السيد الخوئي 2 : 353 ، زبدة الأحكام | الشيخ محمّد علي الأراكي : 286 ، جامع الأحكام الشرعية | السيد السبزواري : 506 ، المسائل المنتخبة | السيد السيستاني :537 ، الصراط القويم | السيد محمّد الصدر : 264 ، الأحكام الفقهية | السيد محمّد سعيد الحكيم : 502.
(3) الكافي 7 : 14 | 1 ، باب انفاذ الوصية على جهتها ، كتاب الوصايا.
(4) الكافي 7 : 16 | 2 ، باب آخر من انفاذ الوصية ، كتاب الوصايا.

( 106 )

خصصت فيه ، فقد روي ان رجلاً مجوسياً أوصى للفقراء بشيء من ماله فأخذه قاضي نيسابور فجعله في فقراء المسلمين ، فسئل الامام الرضا عليه السلام عن ذلك فقال عليه السلام : « المجوسي لم يوص لفقراء المسلمين ، ولكن ينبغي ان يؤخذ مقدار ذلك المال من مال الصدقة فيرد على فقراء المجوس » (1).
  ومن الرواية الثانية يستفاد ان وصية المسلم للذمي جائزة ، وقد اقر الفقهاء ذلك ، باستثناء الوصية للحربي فانها غير جائزة ، وان كان من ارحام الموصي (2).
  ووصية الذمي تنفذ من قبل ابناء دينه ، وليس للمسلمين الحق في التدخل لمنعها ، إلاّ في حالة الوصية بخمر أو خنزير لمسلم ، فلو اوصى بعمارة هيكل في ارض يصح فيها ذلك جاز ، ولا يتعرض لهم المسلمون إذا ارادوا تنفيذها ، ولو اوصى بعمارة قبور انبيائهم جاز ، وهو مندوب للمسلم فلا مانع من جوازه للكافر (3).

رابعاً ـ الصدقة والوقف :

  أقرّ الإسلام صدقة ووقف غير المسلم ، ولم يسمح بالتدخل في عدم تنفيذها من قبل غير المسلمين ، او تبديل محتواها ، او صرفها عن المورد الذي وضعت فيه ، فيجوز لهم ان « يتصدق بعضهم على بعض وعلى مصالحهم وبيوت عباداتهم » (4).
____________
(1) الكافي 7 : 16 | 1 ، باب آخر من انفاذ الوصية ، كتاب الوصايا.
(2) اللمعة الدمشقية : 179.
(3) مفتاح الكرامة 9 : 153.
(4) الكافي في الفقه : 326.

( 107 )

  ولو وهب الذمي او تصدّق أو وقف شيئاً من ارض الصلح على شخص آخر انتقلت الارض اليه (1).
  وإذا كان الوقف على احد المواضع التي يتقرّبون فيها إلى الله تعالى كان وقفه صحيحاً ، وإذا وقف وقفاً على الفقراء كان ذلك الوقف ماضياً في فقراء أهل ملته دون غيرهم من سائر اصناف الفقراء (2).


المبحث الرابع
صيانة الكرامة وحماية الاعراض
وحسن المعاملة


  الإنسان في نظر الإسلام مخلوق متميّز عن سائر المخلوقات ، وهو مخلوق مكرّم مهما كان انتماؤه العقائدي ، لذا نجد أنّ آيات التكريم الواردة في القرآن الكريم لم تكن مختصة بالانسان المسلم ، بل هي عامة في جميع اصناف الناس وعلى مختلف عقائدهم ودياناتهم ، ولذا اكد الإسلام على وجوب صيانة الكرامة ، وحرمة الايذاء الادبي للانسان ، ووضع تشريعاته وقوانينه لحماية الكرامة وحماية الاعراض ، وكان الناس يتمتعون في ظل الدولة الإسلامية وفي ظل مجتمع المسلمين بكراماتهم ، وحماية اعراضهم.
  وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إذا اتاكم كريم قوم فاكرموه وان
____________
(1) الكافي في الفقه : 260 ، رسائل المحقق الكركي 1 : 242.
(2) النهاية : 597.

( 108 )

خالفكم ». (1) وكانت سيرته قائمة على تكريم غير المسلمين ، فقد أكرم صلى الله عليه وآله بنت حاتم الطائي حينما وقعت في أسر المسلمين ، وكساها وأعطاها نفقة وأطلقها من الأسر ، وحينما قدم عدي بن حاتم أكرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجلسه على وسادة رمى إليه بيده (2).
  وكانت سيرة المسلمين قائمة على أساس تكريم بني الإنسان ، فحينما وقعت بنات الملوك في الأسر قال الإمام عليّ عليه السلام لعمر بن الخطاب : « هؤلاء لايكرهن على ذلك ، ولكن يخيرن ما اخترنه » (3) فاختارت كل واحدة منهن شخصية من شخصيات المسلمين من الصحابة وأبناء الصحابة ، ولم يكن التكريم مخصوصاً بمن له جاه في أتباع دينه ، وانما كان تكريماً عاماً لجميع من ارتبط بعلاقة مع المسلمين.
  وقد حرّم الإسلام جميع المظاهر التي يفهم منها الحط من كرامة الآخرين كالسخرية والاستهزاء والتحقير والتنابز بالألقاب والتعيير ، والحرمة مطلقة لم تقيد بانتماء الإنسان إلى الإسلام ، فجاءت الآيات والروايات مطلقة.
  وحرم الإسلام الخداع والمدالسة لأنها استهانة بالكرامة ، فقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام إلى أحد ولاته بأهل الذمة خيراً فقال : « ... وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلى منعته ، ويستفيضون إلى جواره ، فلا خداع ولا مدالسة ولا أدغال فيه » (4).
____________
(1) دلائل الإمامة | محمّد بن جرير الطبري : 81 ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، 1383هـ.
(2) إعلام الورى : 133 ، 134.
(3) دلائل الإمامة : 82 .
(4) تحف العقول : 97.

( 109 )

  وفيما يلي نستعرض بعض مظاهر صيانة الكرامة وحماية الاعراض في المنهج الاسلامي :

أولاً ـ حرمة دخول البيوت دون استئذان :

  لا يحلّ للمسلم أن يدخل بيتاً دون استئذان من أهله سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ، وقد جاءت الآية الكريمة مطلقة ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ... فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُوَْذَنَ لَكُمْ ...) (1).
  فالبيوت في الإسلام لها حرمة ، لذا نجد ان الكثير من احكام القضاء تجوز استخدام القوة في حال التعرض لحرمة البيت ، ولم يختص الجواز بالمسلم ، فلغير المسلم حق الدفاع عن حرمة بيته.

109b"

ثانياً ـ حرمة قذف غير المسلمين :

  حرّم الإسلام التعرّض للاعراض بقذف وشبهه ، ولافرق في ذلك بين المسلم وغيره ، عن أبي الحسن الحذّاء قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسألني رجل ما فعل غريمك ؟ قلت : ذاك ابن الفاعلة ، فنظر إلي أبو عبد الله نظراً شديداً ، فقلت : جُعلت فداك انه مجوسي امه اخته ، فقال : « أو ليس ذلك في دينهم نكاحاً ؟! » (2).
  وقد جعل عليه السلام قذف غير المسلم مصداقاً لنفي الورع عن القاذف ، عن عمر ابن عجلان قال : كان لأبي عبدالله عليه السلام صديق لا يكاد يفارقه ، فقال يوماً لغلامه : ياابن الفاعلة أين كنت ؟ فرفع أبو عبد الله عليه السلام يده فصكَّ بها جبهة نفسه
____________
(1) سورة النور : 24 | 27 ـ 28.
(2) الكافي 7 : 240 | 3 ، باب : كراهية قذف من ليس على الإسلام ، كتاب الحدود.

( 110 )

ثمّ قال : « سبحان الله تقذف امّه ، قد كنت أرى ان لك ورعاً ، فإذ ليس لك ورع » ، قال : جعلت فداك ان امه سندية مشركة ، فقال : « أما علمت ان لكل امة نكاحاً ، تنحّ عني... » (1).
  ومنع الإسلام القذف مطلقاً ، ووضع العقوبات في شأنه للحيلولة دون انتشاره بين غير المسلمين فإذا « تقاذف اهل الذمة أو العبيد أو الصبيان بعضهم في بعض ، لم يكن عليهم حد ، وكان عليهم التعزير » (2).
  فالاسلام حفظ لغير المسلمين كرامتهم وعرضهم ، لايمانه بصيانة كرامة مطلق الإنسان ، وحصانة عرضه.

ثالثاً ـ الحماية القانونية للاعراض :

  تكفّل الإسلام حماية اعراض المسلمين وصيانتها من كل دنس ، ومن انحرافات الفساق والمنحرفين والمعتدين ، ووضع العقوبات القاسية بحق المتمردين على الثوابت السلوكية في صيانة الاعراض ، سواء أكانوا من أهل ملتهم أو من المسلمين بلا فرق ، فإذا زنى المسلم بذمية مطاوعة له ، فيعاقب المسلم بالجلد أو الرجم تبعاً لاحصانه وعدمه ، ويتخيّر الحاكم الاسلامي بين تسليم الذمية إلى اهل دينها ليحكموا فيها بحكمهم ، أو يحكم فيها بحكم الإسلام ، وإذا كان الزاني غاصباً مغالباً للمرأة على نفسها فيقتل صبراً سواء أكان مسلماً أم كافراً (3) للحيلولة دون الاعتداء على الاعراض.
____________
(1) وسائل الشيعة 16 : 37 | 1 ، باب تحريم القذف حتى للمشرك ، كتاب جهاد النفس.
(2) النهاية : 725.
(3) الكافي في الفقه : 406.

( 111 )

  ولم يتهاون المسلمون في اقامة الحدود على المعتدين ، ففي عهد الإمام عليّ عليه السلام سأله واليه على مصر عن عقوبة مسلم فجر بنصرانية فأجابه : « ان اقم الحد على المسلم... وادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاؤوا » (1).
  وإذا زنى غير المسلم بأهل ملّته ، كان الحاكم الاسلامي مخيراً بين إقامة الحد عليه بما يقتضيه شرع الإسلام ، وبين تسليمه إلى اهل دينه او دين المرأة ليقيموا عليهم الحدود على ما يعتقدونه (2).
  وبالحماية القانونية كان غير المسلم يتمتع بالامان في حفظ عرضه وصيانته ، ولم تحدث حالات انتهاك لنواميس واعراض غير المسلمين في بلاد المسلمين إلاّ قليلاً بالقياس إلى امتداد القرون التي تعايشوا فيها مع المسلمين.

رابعاً ـ حسن المعاملة :

  جاء الإسلام من اجل اتمام مكارم الاخلاق وتقريرها على أرض الواقع ، فأمر المسلمين باستبقاء أسباب الوّد في القلوب والنفوس بطهارة السلوك وحسن المعاملة مع جميع بني الإنسان ، ولايجعل للفواصل العقائدية دوراً في الفصل بين المسلمين وغيرهم أو في تبادل النظرة السلبية ، فجاءت توجيهاته وتعاليمه لاشاعة القيم النبيلة والاخلاق الفاضلة في التعامل مع بني الإنسان ، وقد جسد رسول الله صلى الله عليه وآله تلك القيّم في تعامله مع غير المسلمين ، فقد عاد جاراً له
____________
(1) وسائل الشيعة 28 : 152 | 1 ، باب حكم المسلم إذا فجر بالنصرانية ، كتاب الحدود والتعزيرات.
(2) النهاية : 696.

( 112 )

يهودياً (1).
  وفي موقف آخر غضبت احدى زوجاته على اليهود الذين قالوا له : السام عليك ، بدلاً من السلام عليك فأجابها : « ... ان الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء ، ان الرفق لم يوضع على شيء قط إلاّ زانه ، ولم يرفع عنه قط إلاّ شأنه » (2).
  وكان أهل بيته من بعده صلى الله عليه وآله قد جسّدوا سنّته الشريفة في التعامل مع غير المسلمين ، وكانوا يستمعون إلى شكاواهم واقتراحاتهم ، ويوصون بحسن السيرة معهم ، ففي عهد الإمام عليّ عليه السلام لواليه على مصر اوصى بالرحمة مع الناس مسلمين وغير مسلمين : « واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولاتكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فانّهم صنفان : امّا اخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق » (3).
  وحينما وجد أهل الكتاب وغيرهم ان كرامتهم مصونة ، اندمجوا مع ابناء المجتمع الاسلامي وامتزجوا معهم ، وهنالك شواهد عديدة على هذا الاندماج وعلى سلامة العلاقات القائمة على الود والوئام والتآلف ، ففي مجلس ضم المسلمين والنصارى عطس رجل نصراني ، فقال له المسلمون : هداك الله ، فقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام : قولوا : « يرحمك الله » ، فقالوا له : انه نصراني! فقال : لا يهديه الله حتى يرحمه. (4)
____________
(1) مكارم الأخلاق : 359.
(2) الكافي 2 : 648 | 1 ، باب التسليم على أهل الملل ، كتاب العشرة.
(3) نهج البلاغة : 427.
(4) الكافي 2 : 656 | 18 ، باب العطاس والتسميت ، كتاب العشرة.

( 113 )

  وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال : « قلت لابي الحسن موسى عليه السلام : أرأيت أن احتجت الى الطبيب وهو نصراني ان اُسلم عليه وأدعو له ؟ قال : نعم ». (1)
  وقد اوصى ائمة أهل البيت عليهم السلام بحسن السيرة مع أهل الكتاب ، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام انه قال : « ... وان جالسك يهودي فاحسن مجالسته » (2).
  وكان الإمام جعفر الصادق عليه السلام يروي سيرة من سبقه من الائمة في علاقاتهم مع اهل الكتاب ، فقد ذكر ان الإمام علياً عليه السلام صاحب رجلاً ذمياً في طريق ، وحينما ارادا الافتراق شيّعه الإمام عليه السلام قبل المفارقة ، فقال له الذمي ، لم عدلت معي ؟ فقال عليه السلام : « هذا من تمام حسن الصحبة ان يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه ، وكذلك أمرنا نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم » ، فقال الذمي : « لا جرم انما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة... » (3).
  وقد انعكست السيرة الحسنة للمسلمين على مواقف اهل الذمة ، فكانوا عونا لهم على اعدائهم.
  ولا زال اهل الاديان يعيشون بأمن وسلام في ربوع الإسلام وفي ظل تعاليمه السمحة ، لايعانون ظلماً ولا اضطهاداً ، فكراماتهم مصونة وحرياتهم قائمة.
  وقد أفتى السيّد عليّ السيستاني (المرجع الديني المعاصر) بفتاوى عديدة في خصوص حسن المعاملة مع غير المسلمين.
  منها : ان غير المسلم « إذا لم يظهر المعاداة للإسلام والمسلمين بقول أو فعل ،
____________
(1) الكافي 2 : 650 | 7 ، باب التسليم على أهل الملل ، كتاب العشرة.
(2) الأمالي | الشيخ المفيد 13 : 185 | 10 ، المجلس الثالث والعشرون.
(3) الكافي 2 : 670 | 5 ، باب حسن الصحبة ، كتاب العشرة.

( 114 )

فلا بأس بالقيام بما يقتضيه الودّ والمحبّة من البرّ والإحسان إليه.
  ومنها : نفي البأس عن مشاركة المسلم في تشييع جنازة غير المسلم.
  ومنها : حرمة ازعاج الجار إذا كان يهودياً أو نصرانياً من غير مبرّر ، وغيرها. (1).
  لقد أسهمت هذه الآراء إسهاماً فعالاً في تعميق الأواصر مع أهل الكتاب أو مع أتباع الأقليات الدينية بعد ان أزالت الموانع والحواجز النفسية ، وهذه الرؤية منسجمة مع آفاق المنهج الإسلامي وتطلّعاته نحو إقامة مجتمع عالمي لاعزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات ، فلا حواجز بين أتباع الأديان ولا فواصل اجتماعية ، بل انهم جميعاً يعيشون متجانسين ويساهمون معاً في بناء مجتمعهم الموحَّد ، وهذا ما دلّت عليه الوقائع التاريخية منذ الصدر الأوّل للإسلام وإلى يومنا هذا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

____________
(1) راجع هذه الفتاوي وغيرها في كتاب فقه الحضارة على ضوء فتاوى سماحة السيد السيستاني : 174 ، 175 .