الفصل الثالث
فكرة عن الحروب الدفاعية
والوقائية في العهد النبوي
المتتبع للسيرة النبوية الشريفة ولمعارك الصدر الأول للاسلام ، يرى أن الإسلام لم يكن راغباً في الدخول فيها ، وانّما فرضت عليه من قبل إعدائه ، ولم يدخلها ابتداءً إلاّ بعد سلسلة من الممارسات القمعية والارهابية قادها اعداؤه تجاه القيادة المتمثلة برسول الله صلى الله عليه وآله وتجاه المسلمين.
وعلى أساس هذه المفاهيم والقيم كانت حروب رسول الله صلى الله عليه وآله دفاعية ، ولم تكن منها حروب هجوم إلاّ على سبيل المبادرة بالدفاع عن النفس بعد التيقن من نكث العدو للعهود ، وإصراره على الغدر والعدوان.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو إلى الإيمان بالله تعالى والتخلي عن عبادة الأصنام ، ويدعو إلى ارساء القيم الصالحة في العلاقات والمعاملات ، وإلى تطبيق العدالة والغاء الفوارق والاضطهاد والاستغلال ، ويدعو إلى مكارم الاخلاق ، فكانت دعوته سلمية ليس فيها عداء ولا ظلم ولا صدام ، إلاّ أنها جوبهت بعنف وعدوانية من قبل المشركين ، فلم يكتفوا بالتكذيب وبث الاشاعات والاستهزاء تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل مارسوا الاضطهاد والأذى الجسدي
وبأساليب لا تتناسب حتى مع القيم الجاهلية التي تعيب ممارسة الوسائل الوضيعة مع الخصوم والاعداء.
وعلى سبيل المثال : بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ساجد وحوله ناس من قريش ، فقالوا : من يأخذ سلى هذا الجزور أو البعير فيقذفه على ظهره ؟ فجاء عقبة بن أبي معيط فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وآله (1).
واستمر مشركو قريش في مواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن آمن به ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ.
وكان ممن عُذِّبوا بلال الحبشي ، وكان اميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمّد ، وتعبد اللات والعزّى ، فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد.
وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة ، ويعذّبونهم برمضاء مكّة ، فيمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وآله فيقول : «صبراً آل ياسر موعدكم الجنة» ، وقد قتل المشركون سميّة أم عمّار لانها أبت موافقتهم على كفرهم ، وبهذا استحقت وسام أوّل امرأة شهيدة في الإسلام (2).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يأمر المسلمين بالصبر ، ولم يتخذ أي موقف مسلح لردّ العدوان ، بل بقي يدعو إلى الصبر والاكتفاء بالحذر والاستتار عن أعين المشركين ، إلى أن يأذن الله تعالى بأمره.
____________
(1) إعلام الورى بأعلام الهدى : 57 .
(2) بحار الأنوار | العلاّمة المجلسي 18 : 241 ـ 411.
الدعوة إلى الهجرة
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله ما يصيب أصحابه من البلاء ، وماهو فيه من العافية ، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب عليه السلام ، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ممّاهم فيه من البلاء ـ إلاّ بالقتال ـ أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة ، وقال : إنّ بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يظلم عنده أحد ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله عزّوجلّ للمسلمين فرجاً (1).
وهكذا اختاروا الهجرة على أي موقف آخر ، لانّ الإسلام لايرغب في القتال ابتداءً ، ولا يرغب في المواجهة المسلحة في بداية الطريق لتجنب الدماء وللحفاظ على أرواح الناس من مسلمين ومشركين مادام هنالك أمل في انضوائهم تحت راية الإسلام عاجلاً أم آجلاً ، فكانت الهجرة تجنباً لحدوث صراع دموي يخلّف الاحقاد في القلوب والمشاعر ، ويحول دون تحقيق أهداف الدين الجديد في دعوته إلى هداية الناس جميعاً.
المقاطعة الشاملة
لما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً ، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، اجتمعوا وتآمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبدالمطّلب ؛ على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ، ولا يبتاعوا منهم ، فلما كتبوا الصحيفة وعلقوها في جوف الكعبة ، انحازت بنو هاشم وبنو عبدالمطلب إلى أبي طالب عليه السلام فدخلوا معه شعبه ، فأقاموا على ذلك أربع
____________
(1) بحار الأنوار 18 : 412 .
سنين لا يأمنون إلاّ من موسم إلى موسم ، ولا يشترون ولا يبايعون إلاّ في الموسم ، وأصابهم الجهد ، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتى نقتله ، ونملّكك علينا ، فقال أبو طالب عليه السلام قصيدته اللاّمية والتي جاء فيها :
وتوفي مؤمن قريش أبو طالب رضوان الله تعالى عليه بعد انتهاء المقاطعة بوقت قصير ، فاشتدّ البلاء على رسول الله صلى الله عليه وآله ونالت قريش منه من الاذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب عليه السلام ، حتى اعترضه أحدهم فنثر على رأسه تراباً ، وكان صلى الله عليه وآله يقول : «ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبوطالب» (2).
وقابل رسول الله صلى الله عليه وآله الأذى بالصبر والتحمّل ، ولم يتخذ أيّ موقف يؤدي إلى إراقة الدماء طمعاً في إيمان الكثير من المشركين ولو بعد حين.
الإذن بالقتال :
استمر رسول الله صلى الله عليه وآله على الدعوة السلمية في داخل مكة وخارجها ، وكان يعرض الإسلام على القبائل القادمة من خارج مكة في موسم الحج ، ففي أحد المواسم التقى مع جماعة من أهل يثرب فدعاهم إلى الله عزّوجلّ ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فأجابوه فيما دعاهم اليه ثم انصرفوا إلى بلادهم ، حتى إذا كان العام المقبل لقوه عند العقبة وبايعوه.
وبعد عام من هذه البيعة خرج جماعة من مسلمي يثرب إلى الموسم حتى
____________
(1) بحار الأنوار 19 : 1 ، 2 .
(2) مناقب آل أبي طالب | العلاّمة ابن شهرآشوب المازندراني 1 : 67 ، باب ذكر سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ، فصل فيما لقيه صلى الله عليه وآله من قومه بعد موت عمّه.
قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله عند العقبة ، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله سرّاً على الحماية والنصرة ، وحينما علمت قريش بالخبر اقبلوا بالسلاح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للمبايعين : «تفرّقوا» ، فقالوا : يارسول الله أن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : «لم أؤمر بذلك ، ولم يأذن الله لي في محاربتهم» (1).
وفي كتب المغازي والسير والحديث وغيرها في مسألة الإذن بالقتال ماحاصله : إنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء ، إنما يأمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل ، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون في دينه ، ومن بين معذّب في ايديهم ، وبين هارب في البلاد فراراً منهم ، منهم من بأرض الحبشة ، ومنهم من بالمدينة ، وفي كل وجه ؛ فلما عتت قريش على الله عزّوجلّ ، وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذّبوا نبيّه صلى الله عليه وآله ، وعذّبوا ونفوا من عبده ووحّده وصدّق نبيّه واعتصم بدينه ، أذن الله عزّوجلّ لرسوله صلى الله عليه وآله في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية نزلت في الإذن في الحرب ، وإحلال الدماء والقتال ، لمن بغى عليهم ، قول الله تبارك وتعالى : (اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَـقَدِيرٌ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلأَ أنْ يَـقُولُوا رَبُّـنَا اللهُ...) (2).
فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وآله في الحرب ، وبايعه هذا الحيّ من الأنصار على
____________
(1) بحار الانوار 19 : 13.
(2) سورة الحج : 22 | 39 و 40.
الإسلام ، والنٌّصرة له ولمن اتبعه ، وأوَى اليهم من المسلمين ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه من المهاجرين من قومه ، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة اليها واللحوق باخوانهم من الانصار.
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين اليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً ، وأصابوا منهم منعة ، فكرهوا خروج رسول الله صلى الله عليه وآله اليهم ، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله .
واتّفقوا على اختيار رجل واحد من كلّ بطن من بطون قريش ، فاجتمع نحو عشرة رجال ، وأخذ كل واحد منهم سيفاً قاطعاً ، وأمرهم أبو سفيان وزبانيته أن يدخلوا على النبي صلى الله عليه وآله فيضربونه كلّهم ضربة واحدة حتّى يتفرّق دمه في قريش كلّها ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه. (1) .
ولما وصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قرّر الهجرة إلى المدينة تاركاً وطنه وبلاده وعشيرته ، وترك مكانه وعلى فراشه أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام لكي يؤدّي ودائع الناس وأماناتهم التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وآله ، في قصة طويلة لا يجهلها أحد من المسلمين.
وهكذا أُرغم رسول الله صلى الله عليه وآله على مغادرة بلده مكّة ، ولم يدخل في صراع مسلح مع أعدائه.
وفيما يأتي استعراض سريع لأسباب حروب النبي وغزواته صلى الله عليه وآله مقتبسين من كتاب (الرحلة المدرسية) للشيخ المجاهد العلاّمة البلاغي رحمه الله بعض ما قاله في
____________
(1) راجع القصة في تفسير القمّي 1 : 275 ، وسائر كتب المغازي والسير والتاريخ.
تلك الحروب ؛ لنرى كيف كان النبي صلى الله عليه وآله مدفوعاً إليها نتيجة اتفاق كلمة الكفر مع جلّ أهل الكتاب على مقاومة الدين الفتيّ بكل ما استطاعوا إليه سبيلاً ، فنقول كما قال الشيخ البلاغي رحمه الله.
إنّ بلاد العرب كانت على أقبح جانب من العبادة الوثنية الأهوائية والطبائع القاسية الوحشية وخشونة الظلم والجور وإدمان الحروب والغارات ، قد إمتازت كلّ قبيلة بجبروت رياستها واستقلت بعصبية قوميتها حتى ان كلّ قبيلة اختصّت بصنم معبود لئلاّ تخضع إلى قبيلة اُخرى.
واستمرّوا على ذلك أجيالاً متعدّدة تتراكم عليهم فيها ظلمات الوحشية وضلالات الوثنية وعوائد الظلم وقساوة العداوة والحروب المبيدة الفظيعة ، بل كانت الدنيا بأسرها مرتبكة بين العبادة الأوثانية الصريحة. وبين التثليث وتجسيد الإله والسجود للأيقونات «الصور والتماثيل». وإن جرى لفظ التوحيد على بعض الألسن لفظاً بلا معنى.
وعند تراكم هذه الظلمات والضلالات وهيجان براكينها الهائلة جاء صاحب دعوة الإسلام والتوحيد الحقيقي النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وأعلن بين العرب بادئ بدء بدعوة الإسلام التي هي أثقل عليهم من الجبال. فدعاهم جهاراً إلى رفض معبوداتهم من الأوثان وترك عاداتهم الوحشية وإلى الخضوع لعدل المدنية ، والتجمّل بالأخلاق الفاضلة والآداب الراقية.
واستمرّ على هذه الدعوة في مكّة نحو ثلاثة عشر سنة ، وفي السنة الثالثة أعلن بدعوته لعامة الناس إعلاماً تامّاً ، وصار ينادي بها في جميع أيامه في المحافل والمواسم بجميل الموعظة وقاطع الحجة والإنذار بالعقاب والبشرى بالثواب وحسن الترغيب والترهيب وتلاوة القرآن والأعذار بالنصيحة.
لم يهب في دعوته طاغوتاً ، ولم يستحقر فيها صعلوكاً ، يدعو الشريف والحقير ، والمرأة والعبد ، وقد آمن في خلال هذه الدعوة بدعوته الثقيلة على الأهواء من كلّ وجهة خلق كثير من أهل مكّة وضواحيها من قريش وغيرهم ، واحتملوا في سبيل ذلك أشدّ الاضطهاد والهوان والجلاء عن الأوطان إلى الحبشة وغيرها ، فكم من شريف في قبيلته عزيز في أهله وقومه صار بإسلامه مهاناً مضطهداً ، وكلّ هذا لم يصدّ الناس عن الإسلام ، لا يصدّ الضعيف ما يقاسيه من العذاب ، ولا يصدّ الشريف العزيز ما يلاقيه من الهوان ، يرون الإسلام هو العزّ والشرف والحياة والسعادة.
وفي السنة الخامسة هاجر إلى الحبشة من جملة المؤمنين اثنان وثمانون رجلاً من أشراف قريش وأتباعهم وذوي العزّة ومعهم مثلهم أو أكثر منهم من النساء المسلمات الشريفات ، وبقي كثير من المؤمنين في مكّة وغيرها يقاسي أكثرهم سوء العذاب. وكلّ هذا لا يصدّ الناس عن إظهار الإسلام.
وقد أقبل على الإيمان بدعوة الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وهو بمكّة قبائل الأوس ، والخزرج وغفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وخزاعة.
ولا يخفى أنّ النبيَّ محمّداً صلى الله عليه وآله كان عزيز قريش من بيت سيادتها وعزّها ، تسمّيه قريش الصادق الأمين ، يودع عنده مشركو قريش والعرب ذخائرهم إلى حين هجرته ، ومع ذلك كان يقاسي الأذى الشديد من المشركين والاستهزاء والتكذيب لدعوته ، والحبس مع بني هاشم في الشعب. وهو مع ذلك متمسّك بالتحمّل والصبر الجميل ، وشعار السلم لا يفتر عن دعوته ونشرها وبثّ تعاليمه الفاضلة وحماية التوحيد وإبطال الوثنية. حتى إذا اشتدّ عليه الاضطهاد وتعاقد المشركون على قتله ، عزم على أن يقطع مادة الفساد ويحافظ على دعوة
التوحيد والاصلاح ، فهاجر إلى المدينة لنشر دعوته ، وجمع المسلمين في مكان بعيد عن مشركي مكّة ، وأوّل عمل قام به في دار الهجرة أنّه صلى الله عليه وآله آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ليكونوا في حماية جمعية واحدة ، وقد اختار صلى الله عليه وآله من بين الجميع عليّاً عليه السلام أخاً. فانتظم له في هجرته زيادةً على من ذكرنا إسلامه إسلام كثير من العرب بالطوع والرغبة ، ومن جملتهم قبائل اليمن ، وحضرموت ، والبحرين. بل ما من قبيلة من القبائل التي حاربته إلاّ ويذكر التاريخ المعلوم أن اُناساً منها أسلموا بالطوع والرغبة. فمنهم من تجاهر بإسلامه ، ومنهم من تستّر به إلى حين. (1)
وأما حروبه فان أساس التاريخ الذي يذكرها يقرنها بذكر أسبابها التي يعلم منها انه لم تكن حرب من حروبه إبتدائياً لمحض الدعوة إلى الإسلام ، وإن جاز ذلك للاِصلاح الديني والمدني ، وتثبيت نظام العدل والمدنية ، ورفع الظلم والطبائع الوحشية الجائرة القاسية. لكن دعوته الصالحة الفاضلة تجنّبت هذا المسلك ، وسلكت فيما هو أرقى منه ، وهو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. كما جاء هذا التعليم الأساسي في الآية السادسة والعشرين من سورة النحل المكيّة (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لأ يَشْعُرُونَ). وقد استمرّت سيرته الصالحة على ذلك. فكانت حروبه بأجمعها دفاعاً لعدوان المشركين الظالمين عن التوحيد وشريعة الإصلاح والمسلمين.
____________
(1) الرحلة المدرسية | الشيخ البلاغي : 194 ـ 196 ، ط 4 ، دار المرتضى ـ بيروت.
ومع ذلك فهو يسلك في دفاعه أحسن طريقة يسلكها المدافعون وأقربها إلى السلام والصلاح . يقدّم الموعظة ، ويدعو إلى الصلاح والسلام ، ويجنح إلى السلم ، ويجيب إلى الهدنة ، ويقبل عهد الصلح ، مع عرفانه بأنه المظفر المنصور.
وهاك ما ينادي به التاريخ من أسباب حروبه وغزواته صلى الله عليه وآله . (1)
حرب بدر
فأوّل حروبه صلى الله عليه وآله المعروفة بعد هجرته هي حرب بدر ، وهي في السنة الثانية من الهجرة ، وسببها ان المشركين من قريش إشتدّ اضطهادهم للمسلمين ومن يريد الإسلام بمكّة ، ومنعوهم عن الهجرة والفرار بدينهم حتّى ضيّقوا عليهم بقساوة الاضطهاد والحبس ، لكي يردوهم إلى شرك الوثنية وطبائع الضلال . فانهم عرفوا من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله انه لا يحب إثارة الحرب ، فزاد طغيانهم لما أمنوا جانبه ، فأراد أن يرهبهم بالقوة والمنعة ، ويهدّدهم بالتعرّض لسبيل تجارتهم إلى الشام ؛ لكي تلجئهم الضرورة الاقتصادية وحاجتهم لتجارة الشام إلى الكفّ عن ضلالهم في اضطهاد المؤمنين بمكّة ، ومنعهم عن الهجرة والفرار بدينهم.
فندب إلى ذلك بعض أصحابه ، فنهض منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً على أضعف عدّة ، إذ لم يكن معهم إلاّ سبعون بعيراً يتعاقبون عليها وأسياف قليلة ، فقصدوا قافلة قريش المقبلة من الشام ، فسمع بذلك رئيس القافلة أبو سفيان ، وأرسل إلى مكّة يستصرخ قريشاً لتخليصها ، فخرجوا بعدّة كاملة من الخيل والسيوف والدروع وكانوا نحو ألف رجل . واتفق ان قافلة قريش نجت
____________
(1) الرحلة المدرسية : 196 ـ 197.
من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله ، ولكن قريشاً لم يكتفوا بنجاة قافلتهم ، بل اجتمعت كلمتهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله للقائهم. (1)
وكان صلى الله عليه وآله يتجنّب قتالهم ، ويأمل أن يعودوا إلى مكّة دون قتال ، وحينما علم بأنّ عتبة بن ربيعة متردّد في القتال قال : «إن يكن عند أحد خير ، فعند صاحب الجمل الأحمر ـ يعني عتبة ـ إن يطيعوه يرشدوا» (2).
وكان صلى الله عليه وآله حريصاً على حقن الدماء ، فقد اوصى أصحابه قائلاً : «انّي قد عرفت أنّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهاً ، لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله...» (3).
والذي يريد تحليل الواقعة بانصاف يجد أنها واقعة للدفاع عن النفس ، فمن حق المسلمين مصادرة أموال المشركين ، لانها مصدر قوة يتقوون بها على ابادة المسلمين والقضاء عليهم ، ومن جهة ثانية انهم صادروا أموال المهاجرين التي تركوها في مكّة ، وضيّقوا على عوائلهم وذويهم وهم بحاجة إلى تحرير وانقاذ ، ومع ذلك فإنّ القافلة قد عادت سالمة إلاّ انّ المشركين أصرّوا على القتال ، وهم المبادرون له وحينما وجد صلى الله عليه وآله أن القتال لا مفرّ منه ، أوصى بما يؤدي إلى التقليل من سفك الدماء والحيلولة دون إراقة المزيد منها ، وكان حريصاً على هدايتهم أو تراجعهم عن القتال ، إلاّ أنّهم أصروا عليه ، فكانت واقعة بدر التي انتصر بها المسلمون انتصاراً باهراً ، وقتلوا من صناديد قريش سبعين وأسروا سبعين
____________
(1) الرحلة المدرسية : 197.
(2) بحار الأنوار 19 : 224.
(3) بحار الأنوار 19 : 301 .
ورجعت قريش إلى مكّة بالانكسار.
وعند انتهاء المعركة بانتكاسة المشركين وهزيمتهم ، لم يأمر صلى الله عليه وآله بملاحقتهم ، لأنّه جاء صلى الله عليه وآله رحمة للناس أجمعين ؛ كما حرّم التمثيل بجثث القتلى على الرغم من وجود حقد عند بعض المسلمين عليهم حينما كانوا يعذبون في مكة من قبلهم.
غزوة بني القينقاع
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله في هجرته إلى المدينة ، رأى ان موقع الإسلام والمسلمين بين اليهود في خطر شديد . فانهم كانوا محدقين بالمدينة وهم بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع . فكان أول أعمال رسول الله صلى الله عليه وآله في هجرته أنه عاهد هؤلاء اليهود على السلم وأمانة الجوار ، وأن لا يكيدوا المسلمين ولا يخونوهم ، ولا يساعدوا عليهم عدواً . ولكن بني قينقاع غدروا بعد وقعة بدر ، وصاروا يكاتبون المشركين ، وانشبوا حرباً بينهم وبين المسلمين ، فغزاهم صلى الله عليه وآله وانتصر عليهم ، فطلبوا النجاة بالجلاء عن بلادهم فسمح لهم بذلك (1). ولم يقتل منهم أحداً ، مع أن الحقّ معه فيما لو أراد قتلهم جزاءً لخيانتهم وغدرهم .
حرب أُحد
بعد هزيمة المشركين في بدر توجه جماعة ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم واخوانهم في المعركة ، فكلّموا أبا سفيان ومن معه من اصحاب الاموال فقالوا : إن محمداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فاعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا . فوافقوهم واجتمعوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وخرجوا ومعهم النساء لكي لا يفرّوا وتهيأ المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله
____________
(1) الرحلة المدرسية : 198 .
للدفاع عن أنفسهم وديارهم . وحينما وصلوا إلى أحد ـ وهو مكان يبعد عن المدينة بأميال يسيرة ـ باشروا المسلمين بالقتال.
وفي هذه المعركة استشهد الخيرة من الأصحاب ، وجرح رسول الله صلى الله عليه وآله والدم يسيل على وجهه وفيها هرب أبو بكر وعمر ولم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وآله إلاّ عليّاً عليه السلام وسماك بن خرشة أبا دجانة رحمه الله وكاد أن يُقتل رسول الله صلى الله عليه وآله . (1) وقامت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثّلنّ بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم قلائد ، وشقّت من حقدها بطن حمزة عمّ النبي صلى الله عليه وآله وأخرجت كبده الشريف فلاكته لعنها الله.
وهكذا كانت حربه صلى الله عليه وآله دفاعاً عن النفس ، لانّ المشركين هم الذين بدأوا بالقتال والاعتداء ، من حيث الاستعداد والتجهيز ومن حيث انطلاقة البداية واصدار أوامر القتال ، وغزو مدينة الرسول صلى الله عليه وآله .
إجلاء بني النّضير
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بني النّضير يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله عقد لهما ، وان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف ، فلمّا أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا : نعم نعينك على ما أحببت ، ثم خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله ، وهو جالس إلى جنب جدار ، فقالوا : من يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله ويريحنا منه ؟ فاتى الخبر من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بما عزموا عليه ، فقام وخرج راجعاً إلى المدينة ، واخبر المسلمين بغدرهم وأمرهم بالسير معه اليهم ، فلما وصل حاصرهم حتّى بلغ منهم كلّ
____________
(1) روضة الكافي 8 : 264 ـ 266 | 502 .
مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم ، وجعل لكلّ ثلاثة منهم بعيراً وسقاءً فخرجوا إلى أذرعات وأريحا (1).
ولم يتعرّض لهم ، وهذا الموقف ينسجم مع جميع الاعراف الاجتماعية والسياسية ، وهو رد اعتداء ودفع تآمر فعلي وواقعي على الرسول صلى الله عليه وآله وعلى الرسالة وهي في مهدها. ومع هذا فلم يتأدّب اليهود ، وإنما نزل أكثرهم بعد الجلاء في خيبر لكي يكيدوا الرسول صلى الله عليه وآله عن قرب. (2)
حرب الأحزاب
كان سببها أنّ نفراً من يهود بني النّضير خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يامعشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه ومحمد ، أفديننا خير أم دينه ؟ فخانوا الله وكذبوا بموسى عليه السلام الذي بشّرهم بمحمّد صلى الله عليه وآله ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه!! ثمّ أتوا إلى غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبروهم أنّ قريشاً معهم على ذلك فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن.
وفي مقابل قوة المشركين واليهود أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بحفر الخندق باشارة من سلمان الفارسي.
ولم تحدث مواجهة إلاّ الرمي بالنبل بعد أن طوّقت قريش والأحزاب
____________
(1) بحار الأنوار 20 : 159 .
(2) الرحلة المدرسية : 198 .
واليهود مدينة الرسول صلى الله عليه وآله تطويقاً كاملاً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستمد العون من الله تعالى ويقول : « ياصريخ المكروبين يامجيب دعوة المضطرّين اكشف همّي وكربي فقد ترى حالي وحال من معي » (1).
وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون وعدوهم محاصرهم ، ولم يكن بينهم قتال إلاّ أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ اقتحموا الخندق من أحد الأماكن الضيقة ، وطلب عمرو البراز من المسلمين ، فلم يبرز له أحد من الصحابة ، وكرّر الطلب مستهزئاً ، فخرج له عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقتله ، وانهزم الباقون (2).
والمعركة واضحة المعالم ، فهي معركة دفاع بكل معنى الكلمة ـ وحفر الخندق أكبر شاهد على هذه المعركة الدفاعية ـ فقد اجتمعت قوى الشرك والعدوان من أجل استئصال الإسلام والمسلمين ، فمن الطبيعي أن يدافع المسلمون عن انفسهم وعن كيانهم.
غزوة بني قريظة
بعد انتهاء معركة الخندق بانكسار قريش وهروب الغزاة من جيوش اليهود والأحزاب ، عاد رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون إلى المدينة ليؤدّبوا يهود بني قريظة على نقضهم العهد وغدرهم ، إذ كاتبهم بنو النضير في حرب الأحزاب على الغدر بمحمّد صلى الله عليه وآله والنهوض إلى حربه ، فخفّ بنو قريظة إلى الغدر ونقض العهود وأخذوا يعتدون على المسلمين ويُغيرون على بيوت المدينة ومجامع العيالات ، ولهذا حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله فجعل بنو قريظة حكمهم إلى سعد بن معاذ
____________
(1) إعلام الورى : 101.
(2) الارشاد | الشيخ المفيد : 54 ، مكتبة بصيرتي ، قم ، بدون تاريخ.
رئيس الخزرج لاَنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام ، وظنوا أنّ سعداً يتساهل معهم ، فوافقهم رسول الله صلى الله عليه وآله على ذلك ، ولم يصمّم على حربهم. فحكم سعد بقتلهم ، فنفذ حكمه في الغادرين. ولو أنهم اختاروا الجلاء إلى حيث يؤمن غدرهم لسمح لهم النبي صلى الله عليه وآله كما سمح لبني قينقاع وبني النضير ، ولو شفع فيهم سعد لتركهم له. فان المعلوم من حال النبي صلى الله عليه وآله انه كان يحبّ السلم وصلاح البشر والعفو إذا أمن من فساده ولم ينصبغ العفو بصبغة الضعف والوهن. (1) .
حرب بني المصطلق
بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ بني المصطلق تجمّعوا له بقيادة الحارث بن أبي ضرار ، وانهم استعدوا لحرب المسلمين ، فخرج إليهم الرسول صلى الله عليه وآله فلقيهم بماء لهم يقال له المريسيع ، فاقتتلوا فانهزم العدو ، وقتل من قتل منهم ، ولما انتهت المعركة جاء الحارث بفداء ابنته ، وحينما رأى بعض المشاهد الكريمة أسلم ومعه ابنان له وجمع من قومه (2).
وهذه المعركة معركة دفاع أيضاً انتهت بهزيمة الأعداء بعد قتل عدد قليل منهم ، وقد ايقن زعيمهم ان هذه الرسالة هي رسالة الخير والعدل جاءت لهداية الإنسان وانقاذه من جميع الوان الانحراف الفكري والسلوكي فأسلم طائعاً.
> صلح الحديبية
وفي ذي القعدة من سنة ستّ قصد رسول الله صلى الله عليه وآله مكّة للحج والطواف بالبيت ومعه من أصحابه نحو سبعمائة رجل ، وقدّموا ذبائح العبادة سبعين بعيراً جعلوا عليها علائم الهدي لكعبتهم ورسوم العبادة ، ولكي يطمئن أهل مكّة
____________
(1) الرحلة المدرسية : 199 .
(2) بحار الأنوار 20 : 289 ـ 290 .
بالسلم. فصدّه أهل مكّة واستعدّوا لحربه وطلبوا رجوعه ، فسمح لهم بما طلبوا وتساهل معهم بالصلح حسبما يقتضيه حب السلم ، ونحر في مكانه هدية للكعبة ورجع (1). مع أنه صلى الله عليه وآله كان قادراً على دخول مكّة بالقوّة ، ولكنّه آثر السلم ورجع إلى المدينة.
حرب خيبر
إن بني النضير الذين نزلوا بعد جلائهم في خيبر وخضع لهم أهلها ، لم يزالوا يسعون في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وقطع أثره ، وهم الذين سعوا في حرب الأحزاب ، ولم يزالوا على إثارة الفتن ، فغزاهم في أواخر السنة السادسة ، ففتح حصوناً لبني النضير. منها : حصن ناعم ، ومنها القموص حصن بني أبي الحقيق ، ومنها حصن الصعب بن معاذ ، وباقي حصون خيبر إلاّ حصنين « الوطيح والسلالم » فان أهلها طلبوا من الرسول صلى الله عليه وآله أن يسيّرهم ويحقن دماءهم ، فسمح لهم بذلك. (2)
فتح مكّة
وقد كان في صلح الحديبية ان خزاعة دخلت في حلف الرسول صلى الله عليه وآله ، وبنو بكر دخلت في حلف قريش ، فعدا بنو بكر وقريش على خزاعة بالحرب العدوانية ، فجاء مستصرخ خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وآله فتوجّه في سنة ثمان بجيشه إلى مكّة في عشرة آلاف بعدة كاملة. ولما خافت منه قريش وأحلافها وضعفوا عن مقاومته لم تحمله سوء أفعالهم معه على الانتقام منهم ، بل دخل مكّة بأرأف
____________
(1) الرحلة المدرسية : 200 ، وانظر : مجمع البيان في تفسير القرآن | الطبرسي 5 : 117 ـ 118 ، مطبعة صيدا سوريا 1356هـ .
(2) الرحلة المدرسية : 200 ، وانظر : بحار الأنوار 21 : 3 .
دخول وأكرم معاملة ، فكأنّه ساق إلى قريش العفو وامتنان الرحمة وكرم الأخلاق. (1).
حرب هوازن
ولمّا سمعت هوازن بفتح مكّة جمعت جموعها لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله . فقصدهم وحاربهم وغنم أموالهم وذراريهم ، فوفد رجالهم عليه ـ بعد هزيمتهم ـ فأسلموا طوعاً ، فاسترحموه فخيّرهم بين ردّ السبي وردّ الأموال ، فاختاروا ردّ السبي ، فاسترضى المسلمين في ذلك فأجابوه ، فردّ السبي ، وكان نحو ستّة آلاف ما بين امرأة وطفل. وقد كانت ثقيف من جملة المنهزمين من جيش هوازن ، فرجعوا إلى الطائف وتحصّنوا بحصونهم لحرب النبي صلى الله عليه وآله فوجّه إليهم بعض جيشه. (2)
حرب مؤتة وحرب تبوك
وأما بعثة الجيش إلى الشام حيث حاربوا جيش الروم والعرب والرومانيين في « البلقاء » شرقي بحيرة لوط ومسيره بجيشه إلى تبوك ، فكان الداعي لذلك ان هؤلاء تظاهروا بالعداوة للاِسلام ورسوله صلى الله عليه وآله ، واستخفوا بحرمته ، وقتلوا رسله الذين أرسل معهم كتبه لدعوة التوحيد ، مع ان العادة المستمرة ان الرسول حامل الكتاب محترم لا يُقتل ، ولا يقتله إلاّ من تجاهر بالطغيان والعداوة لمن أرسله ، فان الرسول صلى الله عليه وآله كاتب ملك الروم في الدعوة إلى صلاح الإسلام وتوحيده الحقيقي حينما كان قيصر راجعاً مع جيشه بعد انتصاره على الفرس ، فتجرّأ شرحبيل الغساني على قتل الرسول حامل الكتاب ،
____________
(1) الرحلة المدرسية : 200 ، وانظر : بحار الأنوار 21 : 104 ، واعلام الورى باعلام الهدى : 116.
(2) الرحلة المدرسية : 201.
واستعدّ الروم وأتباعهم لعداء النبي صلى الله عليه وآله وحربه ، فاستعد للدفاع وعدم الخضوع لجرأتهم التي تهدّد دعوة التوحيد والإصلاح. (1) .
سراياه صلى الله عليه وآله
وأما سرايا الرسول صلى الله عليه وآله فكلّها كانت دفاعية ، يردّ بها كيد الغادرين ، ويدافع بها من يستعدّ لحربه. ويسعى في الفساد والبغي ، ولم تكن فيها مهاجمة ابتدائية على هادئ مسالم كما يشهد بذلك معلوم التاريخ. (2)
سيرة الرسول صلى الله عليه وآله في دفاعه
وقد كانت حروبه الدفاعية محدودةً بالحدود الصالحة فيما قبلها وما بعدها. كانت محدودةً فيما قبلها بالدعوة إلى التوحيد الحقيقي ومدنية العدل والكفّ عن عوائد الظلم والوحشية ، ثمّ بالدعوة إلى الصلح وحفظ السلام والمعاهدة والهدنة. ومحدودةً في آخرها بقبول العدو لدعوة التوحيد والعدل ، أو طلبه للصلح أو الهدنة ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله في جميع ذلك يشدّد النهي عن قتل النساء والأطفال والمشايخ العاجزين والرهبان المعتزلين. وكان يجمع بين الرحمة وحقوق أصحابه المجاهدين ، فيسمح برحمته بكلّ ما يسمح به أصحابه من السبي والغنائم ، ويرعى للاَسير الشريف حرمة شرفه ، ويطيّب قلوب الأسرى بلسانه وقرآنه ، ويوصي أصحابه بهم ويرغّبهم في عتقهم حتى ان العتق في شريعته من العبادات الواجبة في بعض المواضيع.
هذا ملخّص سيرة الرسول صلى الله عليه وآله في دعوة الإسلام ، وقد عرفت من تاريخ العرب انهم اُمة حرب وتحزّب وشدّة طغيان وتعصّب ، وقد كانوا في عصر
____________
(1) الرحلة المدرسية : 201 .
(2) الرحلة المدرسية : 201 .
الدعوة الإسلامية قبائل فوضى لا تصدّهم عن طغيانهم وظلمهم سلطة سياسة ولا قانون حكومة ، بل كانت كلّ فرقة تدافع عن نفسها بنفسها ، فليس من الممكن في العادة أن تستقيم بينهم دعوة صالحة تضادّ عبادتهم وعوائدهم ، وترفض وثنيّتهم وأوثانهم ، وتهدّد تحزّبهم الوحشي وفوضويتهم وعصبية رئاستهم العدوانية ، وتلوي أعناقهم إلى الخضوع إلى عدل المدنية وناموس السلام ما لم تكن تلك الدعوة معتزةً بقوة دفاعية. (1) ترى فأين الدموية المزعومة في حروب الإسلام في العهد النبوي لولا التعصّب والعناد وعدم الموضوعية ؟
(1) الرحلة المدرسية : 202 .