الفصل الثاني السلم والقتال بين الأصالة والاستثناء

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب سماحة الإسلام وحقوق الأقليات الدينية ص 22 ـ 29

 


الفصل الثاني

السلم والقتال بين الأصالة والاستثناء

    الإسلام دين الرحمة والمسامحة والعفو ، دين التآلف والوئام والتعاون ، دين السلام والأمان ، وهي الاسس الثابتة التي يتعامل بها مع جميع الناس ، وأما كون أحد الأمرين (القتال ، أو السلم) أصلاً والآخر فرعاً ، فمختلَف فيه ، فمَن نظر إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والسيرة العملية للمعصومين عليهم السلام التي تتحدّث عن الحرب ، ربّما حكم بأن الأصل هو القتال ، ومَن نظر إلى ما ورد في القرآن والسنة بشأن السلم والأمان وحقن الدماء حكم بأصالة السلم وطروء القتال نتيجةً لظروف خارجية وداخلية وتحديات خطيرة تمسّ الدين في كيانه ووجوده.
    والصحيح انّه لا أصالة لأي منهما ، فلا أصالة للسلم على حساب الحرب ، ولا للحرب على أساس السلم ؛ لأنّ كلاًّ من السلم والحرب أصل في موضوعه وظروفه ، وأصل على طبق المصلحة الإسلامية العاجلة والآجلة المترتّبة عليه ، ففي الظروف التي يمكن للسلم أن يحقّق النتائج الايجابية للإسلام وللمسلمين يكون أصلاً في التعامل ، فإذا انقلب السلم إلى موقف ضعف أو حالة خطر على الإسلام والمسلمين كانت الحرب هي السبيل المشروع لتحقيق الأهداف.


( 23 )


    والإسلام لم يرغب في القتال ولم يشجع عليه لذاته ، كما لم يشرع القتال رغبة فيه ، ولم يشرعه للسيطرة على الأراضي والسكان ، ولا طلباً للغنيمة كما هو الحال في سائر الحروب الصليبية والحربين العالميتين الأولى والثانية التي لم يكن فيها للمسلمين ناقة ولا جمل ، كما لم يكن قتال المسلمين من أجل مجد شخصي أو قومي أو طبقي ، كما نلحظه في سياسة القطب الواحد ، وصنيعته اللقيطة إسرائيل . وإنما هدف الإسلام من القتال هو إعلاء كلمة الله تعالى ، والدفاع عن المفاهيم والقيم النبيلة التي يحاول أعداؤه تعطيلها وإلغائها ، وردع العدوان الواقعي أو المحتمل الوقوع.
    ولو نظرنا إلى الواقع التاريخي بعمق وواقعية وجدنا ان جميع معارك الإسلام كانت معارك دفاعية لرد عدوان واقعي أو محتمل الوقوع وخصوصاً في صدر الإسلام ، وفيما يلي نستعرض دوافع القتال واهدافه القريبة والبعيدة ، كما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة.

دوافع القتال وأهدافه :

 

أولاً ـ دفع العدوان

    (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلأ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لأ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلأ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1)
    وفي تفسير ذلك قال العلاّمة الطباطبائي : «القتال محاولة الرجل قتل من
____________
(1) سورة البقرة : 2 | 190 ـ 192.

 


( 24 )


يحاول قتله ، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه اقامة الدين واعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم ، فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الانسانية المشروعة عند الفطرة السليمة ، فان الدفاع محدود بالذات ، والتعدي خروج عن الحد... والنهي عن الاعتداء مطلق ، يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء ، كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق ، والابتداء بالقتال ، وقتل النساء والصبيان ، وعدم الانتهاء إلى العدو...» (1).
    وفي آية اُخرى قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلأَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله...) (2).
    وهذه الآية صريحة ببيان سبب القتال ، وهو الظلم الشديد الذي نزل بساحة المسلمين من لدن المشركين وأعوانهم حتىأخرجوهم من ديارهم ظلماً وعدواناً.

ثانياً ـ الدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين :

    قال تعالى : (وَمَا لَكُمْ لأ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (3)
    وقال تعالى : (... وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلأَ عَلَى
____________
(1) الميزان في تفسير القرآن | العلاّمة الطباطبائي 2 : 61.
(2) سورة الحج : 22 | 39 و 40.
(3) سورة النساء : 4 | 75.

 


( 25 )


قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (1).
    فقد نفيت بهذه الآية الشريفة الولاية بين المؤمنين المهاجرين والأنصار وبين المؤمنين غير المهاجرين إلاّ ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم وبين المؤمنين ميثاق (2).
    والدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين أمر مشروع تبيحه جميع الديانات إلهية كانت أم وضعية ، بل يرفع كشعار من قبل الجميع لمحبوبيته ومرغوبيته لدى العقلاء في كلّ زمان ومكان.

ثالثاً ـ قتال ناكثي العهد :

    قال تعالى : (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) (3).
    في الآية تحريض للمؤمنين وتهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله وخانوا به الحق والحقيقة ، وعدّ خطاياهم وطغيانهم من نكث الايمان والهمّ باخراج الرسول والبدء بالقتال أوّل مرّة (4).
    واختُلف في هؤلاء على أقوال :
    فقيل : هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب ، وهموا باخراج الرسول من المدينة وكما أخرجه المشركون من مكة.
    وقيل : هم مشركو قريش وأهل مكة ، وهم بدءوكم أول مرة ، أي بدءوكم
____________
(1) سورة الانفال : 8 | 72.
(2) الميزان في تفسير القرآن 9 : 142 .
(3) سورة التوبة : 9 | 13.
(4) الميزان في تفسير القرآن 9 : 159.

 


( 26 )


بنقض العهد.
    وقيل : بدءُوكم بقتال حلفاء النبي صلى الله عليه وآله من خزاعة.
    وقيل : بدءُوكم بالقتال يوم بدر (1).

رابعاً ـ حماية العقيدة ورد العدوان المحتمل الوقوع :

    قال تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (2).
    والآية نازلة في المشركين، فالمراد بكون الدين لله سبحانه وتعالى، هو أن لا تعبد الأصنام ، وأن يحصل الإقرار بالتوحيد ، وأهل الكتاب مقرّون به (3).
    كما دعا القرآن الكريم إلى رد العدوان المحتمل الوقوع ، لكي لا يعتدى على المسلمين بغتة ، ومن ثم تهديد كيانهم بالفناء ؛ قال الله تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (4).
    وتفسير الآية : انه يجب إبلاغهم بالغاء العهد ، ولايجوز قتالهم قبل الابلاغ ؛ لانّ ذلك خيانة ، أمّا إذا لم يحتمل الخيانة فلا يجوز نقض العهد معهم (5).
    وعلى ضوء ذلك يمكن القول : انّ ما اصطلح عليه الفقهاء بالجهاد الابتدائي قد يكون في الواقع يحمل روح الجهاد الدفاعي لرد عدوان محتمل الوقوع ؛ لأنّ خصوم المسلمين يتربّصون بهم الدوائر دائماً ، وأعداء الإسلام عموماً لايروق
____________
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن | الفضل بن الحسن الطبرسي 5 : 22 ، رابطة الثقافة ، طهران ، 1417هـ .
(2) سورة البقرة : 2 | 193.
(3) الميزان في تفسير القرآن 2 : 62.
(4) سورة الانفال : 8 | 58.
(5) الميزان في تفسير القرآن 10 : 114.


( 27 )


لهم تقرير مفاهيمه وقيمه في واقع الحياة ، ولهذا فانهم يسعون للقضاء عليه وتحجيم دوره ومنع الشعوب من تبنيه عقيدة وفكراً.
    وفي جميع الظروف والأحوال فإنّ القتال موقف استثنائي لم يشرّع إلاّ لحماية الإسلام فكرة وعقيدة ووجوداً ، ولذا فهو يدعو إلى التعامل بالبر والعدل مع الذين لم يقاتلوا المسلمين وإن كانوا على غير دينهم ، وهذه ـ في الواقع ـ هي قمة التسامح وذروة الأمان بين أهل الأديان ، قال تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (1).
    والإسلام يدعو إلى العودة في التعامل والعلاقات إلى السلام وإنهاء القتال في أقرب فرصة (... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (2).

خامساً ـ اخلاقية القتال وانسانية التعامل :

    الإسلام دين الرحمة والرأفة والسماحة ؛ يهدف إلى هداية الناس أجمعين وإنقاذهم من جميع ألوان الاضطهاد والعبودية ومن الانحراف والانحطاط ، ويهدف إلى إقامة الحق والعدل ، ولهذا فلا يقاتل حقداً أو عدواناً حتى على المعتدين ، وهذا واضح من خلال التأكيد على إشاعة قيم العفو والرحمة في ميادين القتال ، وتتجسد أخلاقية القتال في المظاهر التالية :

 

1 ـ حرمة القتال قبل القاء الحجة :

    مهما كانت دوافع وأسباب القتال فهو محرّم قبل إلقاء الحجة على أعداء
____________
(1) سورة الممتحنة : 60 | 8 .
(2) سورة النساء : 4 | 90.

 


( 28 )


الإسلام ، فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك قائلاً : «ياعليّ ، لا تقاتل أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام ، وأيم الله لان يهدي الله عزّوجلّ على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه» (1).
    وحرمة القتال قبل الدعوة إلى الإسلام قد أفتى بها المتقدّمون من فقهاء الإمامية ، نكتفي بذكر اثنين منهم :
    قال الشيخ الطوسي (ت|460 هـ) : «ولايجوز قتال أحد من الكفار إلاّ بعد دعائهم إلى الإسلام» (2).
    وأفتى أبو الصلاح الحلبي (ت|477 هـ) بعدم البدء بالقتال حتّى بعد إلقاء الحجة حتّى يكون الأعداء هم الذين يبدؤون (3).

  

2 ـ النهي عن قتل النساء والأطفال والشيوخ

    نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ، ومن تعاليمه في القتال ما رُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول : سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلّوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها...» (4). وهذا الحكم محل اتفاق الفقهاء.
____________
(1) الكافي 5 : 36 | 2 ، باب الدعاء إلى الإسلام ، كتاب الجهاد.
(2) النهاية | الشيخ الطوسي : 292 ، انتشارات قدس محمدي ، بدون تاريخ.
(3) الكافي في الفقه | أبو الصلاح الحلبي : 256 ، مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام ، أصفهان ، 1403هـ .
(4) وسائل الشيعة | الحر العاملي 15 : 58 ، باب : 15 ، كتاب الجهاد.


( 29 )


    قال الشهيد الاول محمد بن مكي العاملي (ت|786 هـ) : «ولا يجوز قتل المجانين والصبيان والنساء وإن عاون إلاّ مع الضرورة» (1).
    وقال الشيخ محمد حسن النجفي (ت|1266 هـ) : «ولا يجوز قتل المجانين ولاالصبيان ولا النساء منهم ولو عاونتهم إلاّ مع الاضطرار ، بلا خلاف أجده في شيء من ذلك» (2).
    فالاسلام لا يرغب في القتال إلاّ اضطراراً ، ولا يستهدف إلاّ الهداية والاصلاح ، ولذا حرّم قتل من ذُكر ، وإن كانوا من الأعداء.

3 ـ حرمة إلقاء السمّ في بلاد المشركين

    لم يكن هدف الإسلام من تشريع القتال الانتقام ، وإنّما الهداية أولاً ، وردّ العدوان ثانياً ، لذا حرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل ومنها إلقاء السمّ.
    عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال : «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يلقى السمّ في بلاد المشركين» (3).
    ويمكن القول بأن الرواية وإن كانت دالّة على خصوص السمّ ، إلاّ انها شاملة لكل المبيدات العامة ، بحيث يذهب البرىء بذنب المجرم والأعزل بذنب المسلَّح ، كما هو الحال في السلاح الذرّي والنووي والجرثومي وأمثالها من أسلحة الدمار الشامل الشائعة في عالم اليوم.
____________
(1) غاية المراد|الشهيد الأول 1 : 482 ، مركز الأبحاث والدراسات ، قم ، 1414هـ.
(2) جواهر الكلام | الشيخ محمّد حسن النجفي 21 : 73 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1981م.
(3) الكافي 5 : 28 | 2 ، باب وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام في السرايا ، كتاب الجهاد.