اثر الوفاء بالعهد

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الثاني ص 20 ـ ص 39


أثر الوفاء بالعهد :

الوفاء بالعهد أحد الأركان المهمة للسعادة الإنسانيّة ، الوفاء بالعهد احد الفضال الخلقية العالية للإنسان ، الوفاء بالعهد قادر على أن يردع شخصاً سفاحاً مثل الحجاج عن إراقة دم شخص بريء.

الحياة على أساس الفضيلة :

في الدولة التي يلتزم الأفراد فيها بعهودهم ويقفون عندها تجري الأمور الاقتصادية والاجتماعية والعائلية على أساس صحيح... هناك تقوم الحياة على أساس الفضيلة الانسانية ، وعلى العكس فإن المجتمع الذي يتّسم بتهرّب الأفراد فيه من عهودهم والإفلات عن تعداتهم من دون شعور بالمسؤولية تجاها تخرج الأمور عن مجراها الطبيعي وتحيط بهم المآسي والمشاكل بشتى صورها ، وعند ذاك تقوم المحاكم القضائية والسلطات التنفيذية بمراقبة تنفيذ الالتزامات... الأخلاق والشعور بالمسؤولية تخلي مكانها لقاعات المحاكم ، وتتمثل المخالفات بصورة إضبارات مدنية وجنائية وهكذا تستنزف الطاقات الإنسانية والمالية ويضطر المتنازعون الى الرجوع الى الوسائل التنفيذية من حجز وسجن وما شاكل ذلك.
يذكر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الاشتر في العهد الذي بعث به اليه أن احذر نقض العهود ويقول في علة ذلك : « والخلف يوجب المقت عند الله والناس » (1).
مما لا شك فيه أن نقض العهد يحطم شخصية الإنسان. ومهما كان الشخص الناقض للعهد عظيما في المجتمع ويمتاز باحترام الناس له وتقديرهم إياه فإنه ينحط في أعين الناس على أثر نقضه للعهد. كل فرد يدرك بصورة طبيعية أن الشخص الناقض للعهد يرتكب عملاً قبيحاً... الفقير والغني ، الكبير والصغير ، كل الناس يرون أنّ لهم أن يلوموا الشخص الذي لا يلتزم بعهوده ، وهذا يدلنا على أن الإنسان
____________
( 1 ) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ج3|120.


 

( 21 )


يدرك ضرورة الوفاء بالعهد بفطرته ، ويرى أن التخلف عنه تخّلف عن قانون الفطرة.

تنمية الوفاء بالعهد عند الطفل :

لأجل أن يحيا الوفاء بالعهد في المجتمع ، وتلتزم جميع الطبقات بهذا الواجب الإنساني ، يجب أن تبذر بذور هذه الخصلة الحميدة في نفوس الأطفال من أولى أدوار الطفولة ، ومن حين إدراكهم لمعنى ( العهد ). يجب أن يتلّقوا هذا الدرس القيم نظرياً وعملياً حتى يستقر في نفوسهم بصورة ملكه ثابتة مستقرة. يجب أن يربّى الأطفال بصورة يجدون معها الوفاء بالعهد من واجباتهم القطعية والضرورية ، فلا ينقضون عهودهم وحسب بل لا يسمحون لهذه الفكرة الفاسدة أن تمر بخواطرهم ، وهذه التربية لا تحصل إلا في المحيط الطاهر والسليم الذي أعدّ للطفل. المحيط الذي لا يعرف نقض العهد والخداع. إن الطفل يتخذ من كل كلام يسمعه أو عمل يشاهده ، صالحاً كان أو فاسداً ، قدوة له يجري عليها في حياته ، وفي محيط الأسرة يخضع قبل كل شيء لسلوك الوالدين. ففي الأسرة التي يلتزم الآبوان فيه بعهودهما ، ولا يخلفان مواعيدهما ، ولا يخدعان الطفل... ينشأ الأطفال على هذه الفضائل الحميدة ، ويلتزمون بعهودهم أيضاً ، أما الابوان اللذان يرتكبان الأفعال الفاسدة فإن طفلهما يتأثر بأفعالهما وينشأ على تلك الأساليب المنحرفة.

« لأجل أن يكون الإطاعة لقوانين الحياة تامة ، يجب أن تظهر « إن الشخص الذي اعتاد منذ بداية حياته على معرفة الخير والشر ، يسهل عليه اختيار الفضيلة والاجتناب عن الرذيلة في جميع أيام عمره ، وكما يبتعد عن النار يتجنّب الأقتراب من الرذائل. فنقض العهد والكذب والخيانة لا تعدّ أعمالاً قبيحة في نظره ، بل تعدّ مستحيلة عنده ولإيجاد ردود الفعل هذه في الفرد يجب توفر محيط يعني فيه بالفضائل عناية بالغة. إن الإنسان يميل ـ كالقرد ـ الى التقليد بغريزته ولكنه يقلد الشر أسهل من الخير. وهكذا يقتبس الطفل سلوك الأفراد الذين يعرفهم أو يسمع تاريخ حياتهم

 

( 22 )

 

أو يقرأه ، ولهذا فانه يتخذ من الأصدقاء والاساتذة ، الأب والأم ، وبصورة خاصة نجوم السينما ، والشخصيات الحقيقية أو الخيالية التي يقرأها في المجلات والصحف... قدوة له في حياته. وكما يقول ( فلتون ) فإن الأطفال لو سلّموا في منزلق تقليدهم للغير الى أفراد بعيدين عن الفضيلة ، نشأت من ذلك نقائض كبيرة في سلوكهم. إن المربي الجيد هو الذي يعتقد بما يقول ويطبقه على نفسه (1) ».


المدرسة الأولى للطفل :

تعتبر الأسرة بمثابة المدرسة الأولى للطفل وعلى الوالدين أن يهيئا الظروف المناسبة في محيط الأسرة. ولهذا فقد جاءت الروايات الإسلامية تؤكد على المسؤولية العظمى للوالدين في تربية الأطفال ، وتسدي لهما النصائح المفيدة في هذا المجال لقد تحدّث الإسلام عن كل خصلة من الخصال الحميدة والملكات الفاضلة بصورة مستقلة ، ومن ذلك الوفاء بالعهد :
1 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قال رسول الله ( ص ) : « أحبوا الصبيان وارحموهم ، وإذا وعدتموهم فوفوا لهم ، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقونهم » (2) .
2 ـ عن كليب الصيداوي قال : قال ابو الحسن عليه السلام : « إذا وعدتم الصبيان فوفوا لهم ، فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم. إن الله عز وجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان » (3) .
____________
( 1 ) راه ورسم زندكى ص 162.
( 2 ) الوسائل للحر العاملي ج5|126.
( 3 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|50.


 

( 23 )


3 ـ عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : قال رسول الله عليه وآله « إذا وعد احدكم صبيه فلينجز » (1) .
4 ـ عن علي عليه السلام ، قال : « لا يصلح الكذب جدُُّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا يفي له » (2) .

تنمية الفطريات عند الطفل :

إن الفطريات الأولية للإنسان تشكل الثروات التي أودعها الخالق العظيم لضمان سعادة الإنسانية في نفس كل طفل وخلقه مع تلك الثروات. فإن جوبهت الفطريات عند الطفل بالتنمية الصحيحة والحماية العلمية وخرجت من عالم القوة الى حيّز الفعل كانت الأساس لسعادته ، وبقيت الضمان الحقيقي لرقيه طيلة أيام حياته. وعلى العكس لو أهمل المربي قيمة الفطريات ولم يعتن بها ، بل قام بتربية الطفل طبقاً للأساليب الخاطئة فإنه يتطبّع على الانحراف والفساد ويفقد ثرواته الفطرية بالتدريج ، ويكون في النهاية عضواً فاسداً في المجتمع.
ومن الفطريات عند الإنسان إدراك لزوم الوفاء بالعهد. وكما أن حب الذات ، والغريزة الجنسية ، والحاجة الى الغذاء والمأوى... من المقومات الضرورية للحياة ، خلقها الله تعالى بصورة غرائز في طبيعة الإنسان فان الوفاء بالعهد من المقومات الضرورية لسعادة المجتمع ، وقد جعل الله تعالى إدراك حسنه وضرورته في باطن كل انسان.
الادراك الفطري للوفاء بالعهد بذرة غرسها الله تعالى في تربة قلب الطفل ، والأساليب التربوية الصحيحة التي يستخدمها الوالدان بمنزلة سقي تلك البذرة لإنباتها. فإن لم يُخدع الطفل في العهود والمواعيد التي تمنح إياه ، فإن هذه البذرة الفطرية تضرب بجذورها في قلبه ، ويلتزم بعهوده فينشأ إنساناً وفياً دون أن يفكر في نقض العهد ، أما إذا كان الوالدان ينقضان عهودهما ، ويخدعان الطفل ، يعدانه ثم
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج.
( 2 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|232.


 

( 24 )


لا يفيان له ، أو يلتزمان أمامه لشخص آخر بشيء ثم لا ينفذان ما التزما به ، فإن الطفل ينشأ نقاضاً للعهود وخداعاً ، لا يشعر بمسؤولية تجاه وعوده. إن الوالدين الناقضين لعهودهما يلقنان الطفل بسلوكهما المنحرف درس الخروج عن العهد والتخلّف عنه ، ويعلّمانه أن الانسان يستطيع أن يكذب ، أن يخدع الناس ، أن ينقض العهد.

« لاحظوا أننا عندما نعجز عن تهدأة الطفل وإسكاته بالطرق الاعتيادية والطبيعية نلجأ الى الخديعة ، نتشبث بالوعود الزائفة ، ونركن الى التهديد والتوعيد. ما أكثر الامهات اللائي يعجزن عن إسكات اطفالهن عندما يردن الخروج من البيت فيعمدان الى أن يعدنهم بشراء بعض الفواكه أو الدمى عند العودة ، بينما يراهن الأطفال عند عودتهن الى البيت صفرات اليد. ما اكثر الأمهات للائي يكذبن على الطفل عندما يردن أن يناولنه دواء مرأ فيقلن له : إنه حلو. هذه الأمثلة كثيرة الى درجة أننا نتمكن ـ مع الأسف ـ أن نملأ الصحائف الطوال عن هذا الموضوع ، كثيراً ما نعد الأطفال المساكين بوعود زائفة بحيث يمكن ذكر آلاف الأمثلة بهذا الصدد ».
« السيارة مستعدة ، والأب يريد أن يرجع من المصيف الى المدينة ، في اللحظة التي يريد الركوب يركض طفله الصغير نحوه ويرجوه أن يصحبه معه الى المدينة يصر كثيراً ، ويلح ، وبما أنه لم يعوّد أن يرى في ( كلا ) جواباً قطعياً لا يقبل النقض لا يكف عن الالحاح ، عندما يحس الأب أن صرف الطفل عن فكرته هذه ليس بالأمر اليسير يلجأ الى الطريقة التالية ».
« يقول له : عزيزي ، لا يمكن أن أصحبك معي الى المدينة بهذه الصورة ، إذهب والبس ملابسه الأنيقة ».
« يذهب الطفل وملؤه اعتماد على أبيه لتبديل ملابسه ، ولكنه

____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 67.


 

( 25 )

 

عندما يعود لا يجد في نهاية الشارع غير الغبار المتصاعد وراء سيارة أبيه. ينظر إلى هذه الحيلة ، يستمر في مكانه ، يجزع يصيح : إنك خداع كذاب إنه يصدق فقد كذب عليه أبوه ، وإن فرصة تعوّده على الكذب حتمية » (1).

في جميع الدول الغريبة والشرقية في العالم آباء وأمهات كثيرون غافلون عن التربية الصحيحة لأطفالهم ، يلوثونهم ـ عن علم أو جهل ـ بالصفات الذميمية. فالآباء والأمهات الذين يكذبون وينقضون عهدوهم ، ويخدعون أطفالهم ، ولا يفون بوعودهم تجاههم يعلّمونهم دروس الانحراف ، ويجرمون في حقهم وحق المجتمع الذي يقوم عليهم.
إن قلب الطفل كعدسة تصوير ، يلتقط الصور المختلفة من أفعال والديه وأقوالهما ، وتعتبر مشاهداته ومسموعاته في دور الطفولة منهاجاً لحياته المقبلة ، وهكذا يجب أن نهتم بالتعاليم الصالحة وغير الصالحة التي يتلقاها الطفل من والديه او معلّميه ، فقد يـأثر الطفل بمشاهدة عمل ما أو سماع كلام ما الى درجة أنها تبعث أعمق الجذور في نفسه ، ولا تزول آثار ذلك مدى الحياة ، وربما أدت الى قلب مجرى الحياة بصورة تامه.

التهم الباطلة :

يركن بعض الزعماء في نشاطاتهم السياسية ، وفي الحرب الباردة التي يشنونها ضد رقبائهم الى اسلوب الدجل والافتراء وإلصاق التهم الباطلة بمعارضيهم. ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب المنحرف كان موجوداً في العصور السابقة وعصرنا هذا ، وقد وقعت فيه الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، قليلاً أو كثيراً.
لقد أقدم على هذا الأسلوب المنحرف معاوية بن أبي سفيان ، بغية الحفاظ على
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص67.


 

( 26 )


كرسي الخلافة الإسلامية لبضعة أيام ، ولغرض الوصول الى الامارة على الناس... فأخذ يلصق التهم الباطلة بالمثل الأعلى للإيمان والإنسانية علي بن أبي طالب عليه السلام.
لقد سحق معاوية الأصول الإنسانية والإسلامية ، واتهم علياً بترك الفرائض والانحراف عن الطريق المستقيم ، وصرف في سبيل ذلك قسطاً عظيماً من بيت مال المسلمين. أمر جميع الموظفين والعسكريين أن يشتموا علياً في خطبهم بعد حمد الله والثناء على نبيه... الخطباء على منابرهم ، والمعلمون في مدارسهم ، واكثر الناس في أنديتهم ومجالسهم أخذوا يعتبرون سب علي من واجباتهم اليومية ، وكانت هذه الخطة المشؤومة قدوة لجميع الرعية.
كان في أرجاء الدولة رجال شرفاء ومؤمنون يعرفون علياً حق المعرفة وكانوا على علم واسع بمكائد معاوية وأساليبه في الدعاية ، ولكنهم كانوا يفضلون السكوت خوفاً على أرواحهم من أن تزهق ، وعلى دماءهم أن تراق. وإذا صادف أن صرح بعضهم بما يحمله من شعور تجاه ذلك الإمام العظيم في بعض الظروف والمناسبات ، فقد كان يلاقي مصيره الأسود على يد معاوية أو جلاوزته ! (1).
هذه البدعة الخائنة كانت قد بعثت بجذورها في قلوب مختلف الطبقات إلى درجة أنها ظلت عالقة بأذيال الناس حتى بعد موت معاوية بسنوات طوال ، فقد كان سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام متمثلا بصورة واجب ديني عندهم.
وعندما تولى عمر بن عبد العزيز زمام الأمر ، وجلس على كرسي الخلافة ، قام بكل عزم وقوة لاقتلاع جذور هذه الوصمة التأريخية الكبيرة فبدأ ـ بأسلوب حكيم ـ يجلب شعور وزرائه وقواده الكبار الى جانبه وتحمل في سبيل ذلك صعوبة بالغة ، ثم أمر جميع ولاته على الأمثار بأن يقاوموا كل حركة تحاول أن تذكر الإمام
____________
( 1 ) في التاريخ شواهد ناصعة على الصراحة التي اتبعها ثلة من المؤمنين بحقيقة الإسلام بالنسبة إلى تفنيد التهم الباطلة التي كان يلصقها أعداؤه إلى أعظم قائد من قادة المسلمين ، وأول إمام من أئمتهم... إن فات المؤرخين حصرها فلم يفتهم تدوين طرف من أخبار تلك الثلة الخيّرة أمثال : ميثم التمار وحجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري وغيرهم.


 

( 27 )


علياً عليه السلام بسوء ، وحثهم على معاقبة من يخالف هذا الأمر... وتوفق بعد جهد طويل الى استئصال جذور هذه الوصمة من أذيال المجتمع الإسلامي : وبهذا استطاع من أن يكسب شعبية منقطعة النظير ، واسترت الندوات والمجالس تذكره بخير وتمجد فعلته تلك.

تأثير كلام المعلم :

هذا الكفاح المقدس الذي غير وجه الأمة الإسلامية ، وحول مجرى السياسة العامة للدولة آنذاك ، كان مستنداً إلى عزم الخليفة عمر بن عبد العزيز ، وهو نفسه يعزو السبب في ذلك الى أيام طفولته ، وإلى كلمة سمعها من أستاذه. والآن إليكم القضية كما يحكيها لنا بنفسه :
« كنت أطلب العلم في المدينة وكنت ملازماً لخدمة عبيد الله بن عبد الله ابن عقبة بن مسعود ، فبلغه أني أسبّ علياً عليه السلام كسائر الأمويين. فأتيته يوماً وهو يصلي ، فأطال الصلاة. فقعدت انتظر فراغه فلما فرغ من صلاته إلتفت إلي. فقال لي :
ـ متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم ؟!
قلت : لم اسمع ذلك.
قال : فما الذي بلغني عنك في علي ؟!
فقلت : معذرة إلى الله وإليك...
وتركت ما كنت عليه » (1) .
الحوار الذي جرى بين الاستاذ والتلميذ في المدينة كان قصيراً جداً ، ولم يكن أحد منهما يتصور أن هذه الجمل ستكون منشأ لانقلاب عظيم في الأمة الاسلامية.
____________
( 1 ) الكامل لأبن الاثيرج5|17.


 

( 28 )


ولكن كلام الأستاذ في ذلك اليوم أثر في قلب الطفل تأثيراً بالغاً... ومرت الأعوام وإذا بالطفل يشب ويصبح في عداد الرجال البارزين في المجتمع. ثم تقع الحوادث المفاجئة وتحدث تحولات عظيمة في الدولة ، ويجلس طفل الأمس على كرسي الخلافة ويأخذ بزمام الملايين من الناس !
كان كلام المعلم بمنزلة البذرة التي بُذرت في قلب الطفل آنذاك ، ثم جاءت عوامل الرئاسة والسلطة فعملت على تنمية تلك البذرة ، وأخيراً فاظهرت بصورة حقل كبير للسعادة ، واستفاد ملايين الناس من ذلك وتخلصوا من البدعة الجائرة المتمثلة في سب علي بن أبي طالب عليه السلام.
يستفاد من هذه القضية وقضايا مماثلة لها أن الواردات الفكرية للأطفال تمثل المنهاج العام لحياتهم الإجتماعية ، وإن الخواطر الصالحة أو الفاسدة التي تستقر في ذهن الطفل لا تمحى ، بل تظهر آثارها الخيرة او الشريرة في دور الشباب.
يجب على الآباء والأمهات أن يتنبهوا الى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عواتقهم ويحذروا من الكلام أو السلوك البذيء أمام الأطفال ، ويربوا أفلاذ اكبادهم منذ البداية على الطهارة والصدق ، ويؤدوا واجبهم الديني المقدس من هذا الطريق.
يجب على المعلمين والمدرسين أن يلتفتوا في الصف إلى ما يقولون ويفعلون ، وعليهم أن يحذروا من كل ما يشين ، فكما أن الكلمة الفاضلة والمناسبة التي صدرت من معلم لائق استطاعت أن تؤثر في نفس عمر بن عبد العزيز عندما كان طفلاً ، وظهرت ثمار ذلك بعد عدة أعوام في انقاذ ملايين الناس مما كان أصابهم من انحراف... كذلك الكلمة الشريرة تستطيع أن توجد انحرافاً في فكر الطفل وتؤدي إلى مآس عظيمة لا تجبر ، له وللمجتمع الذي يعيش فيه.


 

( 29 )

 

21

 

المحاضرة السابعة عشرة

تدريب الطفل على الصدق

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( واللهُ يشهدُ إن المنافقين لَكاذُبون اتخذوا أيمانَهم جُنَّة ) (1) .

الصدق :

الصدق من الصفات الحميدة التي تنسجم والطبيعة الإنسانية. كل انسان يميل بفطرته إلى الصدق ، وإلى أن يعتبر الكلام الذي يسمعه من الآخرين صادقاً ، فالكذب إنحراف عن صراط الفطرة المستقيم.
إذا كسر طفل نافذة في أثناء اللعب ولم يصبه خوف شديد وارتباك زائد من جراء ذلك ، فعندما يسأل : من الذي كسر النافذة ؟! فإنه سيشرح الحادثة بكل هدوء واتزان ، ويجيب على الأسئلة دون أي إضطراب ذاكراً كيف كسرت النافذة في أثناء اللعب. أما عندما يخاف الطفل فإنه يحاول أن يستعين لإثبات براءته بالكذب ، حينئذٍ يكون الوضع الشاذ للطفل واضحاً تماماً ، فالحركات غير المتزنة للعين ، واضطراب الهندام ، وجفاف الفم ، وسرعة النبض ، والكلمات المتقطعة والغامضة... كل ذلك يدل على كذب الطفل وعمله المنافي للفطرة.
لقد جاء الأنبياء ، والقسم الأهم من واجباتهم يتمثل في إحياء الفطريات عند الإنسان ، يدعون الناس الى الصدق ، ويحذرونهم من الكذب بشدة. إن الإسلام يعتبر الكذب عاملاً هداماً للإيمان ، ويعده أفظع من كثير من المعاصي الكبيرة.
____________
( 1 ) سورة المنافقين | 1.


 

( 30 )


1 ـ عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « إن الكذب هو خراب الإيمان » (1).
2 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام : « لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده » (2).
3 ـ وعن الرسول الأعظم ( ص ) : « قال رجلٌ له صلّى الله عليه وآله : المؤمن يزني ؟ قال : قد يكون ذلك. قال : المؤمن يسرق ؟ قال : قد يكون ذلك. قال : يا رسول الله ، المؤمن يكذب ؟ قال : لا ، قال الله تعالى : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون ) (3).
4 ـ وعن الإمام الرضا عليه السلام : « سئل رسول الله : يكون المؤمن جباناً ؟ قال : نعم. قيل : ويكون بخيلا ؟ قال : نعم ، قيل : ويكون كذاباً ؟ قال : لا » (4).

أسوأ من كل سوء :

5 ـ عن الإمام الصادق عليه السلام : « قال أمير المؤمنين : ولا سوءة أسوأ من الكذب » (5) يفهم من هذا أنه مهما اشتد قبح الشيء فلا يبلغ قبح الكذب.
مما لا شك فيه أن الكذب مخالف للوجدان الأخلاقي الفطري ، وكذلك مخالف للوجدان الأخلاقي التربوي. فالكذب قبيح في نظر جميع الشعوب والأمم في العالم ، وفي تعاليم رسل السماء كافة.
ومما يبعث على الأسف أن هذا الداء الوبيل لا يختص بالكبار ، بل إن الأطفال الصغار يقعون في أسر هذا المرض الهدام أيضاً ، فيعتادون على الكذب من الصغر ،
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|339.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|340.
( 3 ) سفينة البحار للقمي ص 473. مادة ( كذب ).
( 4 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|232.
( 5 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|100.


 

( 31 )


وقد يستأنسون بهذه الصفة الذميمة الى درجة أنهم يتلذذون باختلاق كذبة ، ويرتاحون كثيراً عندما يرون أن الغير قد خُدع بأكاذيبهم.

24

مفتاح الجرائم :

إن الكذب يقرب الإنسان الى سائر الذنوب فيقدم الكذاب على المعاصي الأخر ، وعندما يُسأل منه فإنه يكذّب ذلك بكل وقاحة ويظهر نفسه بمظهر البريء ولكنه في الواقع جعل الكذب والخديعة ملجأ لفراره من الجرائم. « عن أبي محمد العسكري عليه السلام قال : حُطت الخبائث في بيت ، وجُعل مفتاحه الكذب » (1) :

« الكذب احد النقائض التي لا يخفى قبحها ، فإن الكذب هو الذي يجر وراءه سلسلة من الرذائل الأخر ويفتح باباً على الجرائم الباقية. إن عجزنا عن الوقاية من انتشار هذه الصفة ، وضعفنا عن مقاومتها جريمة لا تغتفر » (2).


شرب الخمر والكذب :

إن شرب الخمر عامل كبير في ارتكاب الجرائم. ما اكثر الناس الذين لا يرتكبون بعض الذنوب في الحالات الإعتيادية ، ولكنهم يفقدون عقولهم في حالة السكر فلا يتورعون عن القيام بأي جريمة خطيرة وأي عمل مناف للعفة (3).
____________
( 1 ) المصدر السابق.
( 2 ) ما وفرزندان ما ص 59.
( 3 ) أحطت ـ وأنا أعدّ هذه المسودات للمطبعة ـ بحادثة أليمة رأيت من المناسب ذكرها هنا :
توفي أحد الاشراف في النجف الأشرف عن زوجة وولد وبنت ، وكانت الزوجة ثرية قد ورثت مالا عظيما من أبيها ، وبعد عدة سنين توفي ولدها الشاب وهو في مقتبل دراسته الجامعية ، وبقيت الأم المسكينة تندب حظها العاثر ، وخصت ابنتها الوحيدة بكل حبها وحنانها حتى أنها تنازلت عن جميع أملاكها لها =


 

( 32 )


إن أثر الظلمة التي يوجدها الكذب في عقل الإنسان وروحه أشد بكثير من أثر الظلمة التي يوجدها شرب الخمر ! فالشخص المعتاد على الكذب أشد استهتاراً من شارب الخمر ولا يتورع من أي جريمة. فعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : « إن الله عز وجل جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شر من الشراب » (1).
وكما أن الكذب يلوّث الإنسان بكثير من الذنوب ، فان التوبة الحقيقية عنه تعصم الإنسان عن كثير من الذنوب أيضاً.
« أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله رجلٌ ، فقال : إني رجل لا أصلي وأنا أزني واكذب ، فمن أي شيء أتوب ؟! قال من الكذب فاستقبله فعهد أن لا يكذب فلما أنصرف وأراد الزنا فقال في نفسه : إن قال لي رسول الله ( ص ) : هل زنيت بعدما عاهدت ؟ فان قلت : لا ، كذبت. وإن قلت : نعم ، يضربني الحد » (2).
وفي حديث آخر نجد ترك الكذب داعياً إلى ترك بقية المعاصي. « قال رجل لرسول الله ( ص ) : يا رسول الله دلّني على عمل أتقرب به إلى الله تعالى فقال : لا تكذب. فكان ذلك سبباً لاجتنابه كل معصية لله لأنه لم يقصد وجهاً من وجوه
____________
بلغت الفتاة مبلغ الزواج فتقدم لخطبتها الكثيرون ، وأخيراً تم الزواج بينه وبين شاب مدمن على الخمرة. وتقرر أن يسافر العروسان إلى البصرة لقضاء شهر العسل هناك.
وفي البصرة استأجرا غرفة في فندق فخم ، وجلسا يتسامران ، وقام الزوج ليتناول الخمر كعادته وقدّم شيئاً من ذلك لزوجته التي لم تكن قد ذاقت طعم الخمر ، فتغيّر حالها واحسّت بحاجة الى القذف... خرجت إلى المرافق الصحية وهي بكامل زينتها لتقذف ، اظلمت الدنيا في عينها فلم تعد تحس بشيء ، حاولت أن تعود الى الغرفة ، والزوج الغرّ جالس في مكانه ، وفتحت ـ وهي فاقدة الوعي ـ باب غرفة فدخلت والقت بنفسها في حضن شاب كان قد استأجر غرفة مجاورة لغرفتهم... وجد هذا الشاب في العروس لقمة سائغة فنال منها وطره... ولم تستيقظ إلا عند الصباح حيث الشرف المهدور ونظرات الاتهام والريبة من الزوج وتنكره لها... وعادت الى أمها تندب حظها العاثر وشبابها الزائل وكرامتها المهدورة.
( 1 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|232.
( 2 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|101.


 

( 33 )


المعاصي إلا وجد فيه كذباً ، أو ما يدعو إلى الكذب ، فزال عنه ذلك من وجوه المعاصي » (1).

تنمية الصدق في الحديث :

إن من أهم واجبات الوالدين في تربية الطفل هو تنمية فطرة الصدق المودعة عنده. على الوالدين أن يسلكا في محيط الأسرة سلوكاً يجعل الأطفال يعتادون على الصدق والإستقامة ، ولا ينحرفون الى طريق الكذب والتزوير والدجل ، وهذا الأمر أصعب من تنمية كثير من الصفات في الأطفال ، وللوصول الى هذه الغاية لا بد من ابتاع كثير من الرقابات العلمية والعملية !

« يبدو لي أن الوالدين لا يملكان تلك السلطة التي يملكانها في مكافحة الكسل والخروج على النظام بالنسبة الى الكذب والخلاصة أن من بين العيوب التي نسعى الى اقتلاعها من كيان الأطفال يمتاز الكذب بأنه اكثرها إغضاباً وإزعاجاً لنا ، والسبب في ذلك يعود الى أن من الصعب أن يتصور الإنسان تصوراً صحيحاً وواقعياً عن الكذب والكاذب ».
« يجب أن لا نعتبر الكذب للأطفال عملاً بسيطاً ، لانّه في الحالات الاعتيادية وعند الأطفال السالمين ـ على الأقل ـ يجب أن ينعدم الكذب. إن فشلنا وعجزنا وخطأنا في مكافحة الكذب ينشأ من أننا نحكم على هذا العمل من زاوية نفسه ، دون أن ننظر الى علة الكذب والغاية منه ، ونوعه ، وحالة الكذاب ، وأوضاعه » (2).


أساس داء الكذب :

ان أول طريق لمكافحة الكذب هو معرفة أساس هذا الداء الوبيل. مما لا
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|100.
( 2 ) ما وفرزندان ما ص 59.


 

( 34 )


شك فيه أن حالة نفسيّة خاصة توجد في باطن الشخص الذي يكذب مما يدفعه إلى هذا العمل ، وما لم تقتلع جذور هذه الحالة النفسية العارضة لا يمكن معالجة الكذب.
الخوف ، الضعف ، العجز ، الإحساس بالحقارة ، عقد الحقارة ، أو بعض الحالات النفسية المشابهة لذلك ، تستطيع أن تنحرف بالإنسان عن الطريق المستقيم المتمثل في الصدق ، وتبعثه على الكذب. « عن النبي صلّى الله عليه وآله : لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه » (1).

28

الضعف والظلم :

الكذب أحد أنواع الظلم ، والظلم من الناحية النفسية معلول لضعف الظالم. إن الشخص الذي يهرق الدماء البريئة ، والذي يظلم الناس بسبّهم وشتمهم ، والذي يتجاوز على أموال الناس ، وبصورة موجزة كل من يمد يداً للجور والظلم فلا شك في أن ذلك للنقص الذي في باطنه والضعف الذي يحسّ به. يقول الإمام السجاد عليه السلام في بعض أدعيته : « وقد علمتُ أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة ، وإنما يعجل من يخاف الفوت ، وإنما يحتاج الى الظلم الضعيف. وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علواً كبيراً » (1).

الحقارة والكذب :

إن المدين العاجز عن وفاء مبلغ الدين يجلس في البيت ويقول لولده ـ كذباً ـ أن يقول للدائن : إن أبي ليس في البيت. والجاهل الذي يحس بالحقارة في مجلس العلماء ويجد نفسه عاجزاً عن الدخول في البحث والمناقشة يدّعي كذباً أن حالته الصحية لا تساعد على ذلك. والموظف الذي تغيب عن واجبه بلا عذر مشروع
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|100.
( 2 ) الصحيفة السجادية ـ دعاؤه يوم الأضحى والجمعة.


 

( 35 )


يلتجىء إلى الكذب خوفاً من العقوبة أو الغرامة فيدّعي أن أخاه قد مات وكان مشغولاً بتجهيزه... والخلاصة أن الكذابين يلجأون الى الكذب بسبب الحقارة والعجز اللذين يحسون بهما ليدرأوا التهم عن أنفسهم.
لقد عظم أمر المسلمين في المدينة ، وبلغ المؤمنون غاية عزهم ومجدهم... كانت الفتوحات المتتالية تعود لصالحهم يوماً بعد يوم. أما غير المؤمنين فقد كان ينظر إليهم بنظر الاحتقار في المجتمع ، وهذا ما أدى إلى إضعاف روحياتهم ، فأخذوا يحسون بالحقارة والضعفة من جهة ، ومن جهة أخرى كانوا يمتنعون عن الإيمان. فاضطروا إلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون ، ويتظاهروا بالإيمان حتى يجبروا حقارتهم بذلك. وجاء القرآن الكريم كاشفاً عن سرائرهم وفاضحاً نواياهم حيث قال : « إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد أن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنّة » (1).
الكذب عبارة عن ردّ فعل لعقدة الحقارة أو الخوف أو الحالات النفسية الاخر. وبعبارة أخرى فان هذه العقد النفسية والإنهيارات الداخلية للناس هي التي تظهر بمظهر الكذب في الصور المختلفة.
كلما كانت عقدة الحقارة في حياة الفرد أو الاسرة أو الأمة أشد كان رواج الكذب فيهم اكثر. إن من يصاب بالفشل في القضايا السياسية أو الاقتصادية وتنحط منزلته في أنظار الناس يكون الدافع إليه نحو الكذب أقوى ، والاسرة التي تسوء سمعتها لانحراف خلقي أو لسبب آخر فتصبح مبغوضة في نظر المجتمع ويحس أفرادها بالحقارة والضعة في نفوسهم تلجأ الى الكذب لتدارك النقائص التي أصابتها. وفي الدول التي تنعدم فيها العدالة والحرية ويديرها الحكام بنظام استبدادي مطلق ، ويتملك الناس فيها خوف ورعب شديدان تروج سوق الكذب ، وكذلك الأمم التي خضعت لسنين طوال الى الظلم والاضطهاد ولم تذق طعم الاستقلال يكون تلوثها بالكذب اكثر... وبصورة موجزة فان الكذابين لا يكذبون الا للحقارة التي يحسون بها ، كما صرح بذلك الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله حين قال : « لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه ».
____________
( 1 ) سورة المنافقين | 1 ـ 2.


 

( 36 )


داء الكذب :

الكذب مرض خطير يمكن أن يصيب الإنسان من أولى أدوار حياته ويظل مصاباً به حتى نهاية العمر. ومما يؤسف له أن بعض الأسر تنظر إلى هذا الداء الخطير نظرة عارية من أي اهتمام. إذا أصيب الطفل بحمى في ليلة من الليالي أو أخذ يعطس اكثر من المعتاد يتألمون لذلك كثيراً ، ولكنهم لا يعيرون أي اهتمام لكذبة الطفل. وهناك أناس آخرون يعرفون ـ إن قليلاً أو كثيراً ـ خطورة الكذب ويتألمون إذا وجدوا الطفل يكذب ولكنهم يجهلون طريق معالجة ذلك وتكون النتيجة أن يلوث الكذب أغلب الأسر ، ويظل الجميع يئنون من ويلات هذا الداء الفتاك :

عوامل ظهور الداء :

لأجل أن يهتم اولياء الأطفال في سبيل تربيتهم بهذا الموضوع الحساس ويعوّدوا أفلاذ أكبادهم على الصدق والاستقامة نتكلم في هذه المحاضرة عن عوامل ظهور هذا الداء في الأطفال راجين أن تكون مفيدة للجميع.

أساليب وقائية :

1 ـ « عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال رسول الله ( ص ) : رحم الله من أعان ولده على بره.
قال : قلت : كيف يعينه على بره ؟
قال : « يقبل ميسورة. ويتجاوز عن معسورة ، ولا يرهقه. ولا يخرق به » (1).
إن من علل كذب الأطفال ، ثقل عبء الواجبات التي يكلفون بأداءها ، إن تشديد الأولياء وتوقعاتهم الشاذة التي هي فوق طاقة الأطفال يقودهم إلى الكذب
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|50.


 

( 37 )


ويوقظ فيهم هذه الصفة الرذيلة.

« يقول ديموند بيج : أعرف فتاة شابة تأصل الكذب في نفسها بحيث لا يقبل العلاج. إنها عندما كانت في السن السابعة كانت تذهب كل يوم الى المدرسة وكان عدد الطالبات التي يدرسن معها لا يتجاوز الـ 25. كان لها مربية تأخذها الى المدرسة كل يوم ، وتأتي بعدها انتهاء الدرس لأخذها الى البيت. كانت هذه المربية مكلفة بمراقبة الطفلة في واجباتها ودراستها ، وبصورة موجزة كانت مسؤولة عن تربيتها بصورة تامة. في تلك العصور كان الأسلوب المتداول ـ الذي تعده التربية الحديثة فاشلاً تماماً ـ يقضي بأن يصنّف الطلاب كل يوم على حسب الدرجات التي حصلوا عليها في الامتحانات التحريرية ، وهكذا كان يعين الطالب الأول والثاني والثالث. كان الطفلة بمجرد أن تخرج من الصف حاملة حقيبتها بيدها تقابل بالسؤال الرتيب للمربية التي كانت تقول : ( ما هي مرتبتك في الصف ) ؟ فإن قالت : ( الأولى ) أو ( الثانية ) كان الأمر يجري على ما يرام. ولكن صادف مرة أن كانت مرتبتها الثالثة لثلاث مرات على التوالي ، وبالرغم من أن الحصول على المرتبة الثالثة بين 25 طالبة أمر مستحسن ، فإن المربية لم تكن تفهم ذلك. لقد حاولت أن تهدىء على نفسها في المرة الأولى والثانية ، ولكنها في المرة الثالثة لم تستطع أن تتمالك على نفسها ، ففي الوقت الذي كانت الطفلة قد تملكتها الحيرة والذهول صاحت بوجهها : ألا ينتهي حصولك على المرتبة الثالثة ؟ يجب أن تكوني الأولى غداً هل تسمعين ؟ الأولى... يجب أن تصبحي الأولى !
لقد أشغل هذا الأمر الصعب والجاد بال الطفلة طوال اليوم ، وفي اليوم الثاني كانت فريسة العب والتفكير ، بذلت كل عنايتها ودقتها في أداء واجباتها ، كانت العمليات الحسابية التي أجرتها صحيحة ، وأجابت على الأسئلة بنجاح ، وكانت نتائجها مرضية الى قبيل الظهر عندما حان درس الاملاء ، فقد وقعت لها أربع خطآت في امتحان الاملاء ، وأخيراً حازت على المرتبة الثالثة في

 

( 38 )

 

ذلك اليوم أيضاً... وكانت هذه هي الطامة الكبرى.
عندما رنّ جرس الدرس الأخير كانت المربية واقفة بباب الصف منتظرة الطفلة ، وما أن وقعت عينها عليها حتى صاحت : ما الخبر ؟
كانت الطفلة مذهولة لا تستطيع بيان الحقيقة ، فقالت : ( صرت الأولى ). وهكذا بدأت تكذب.
كثيرون هم الآباء والأمهات الذين يسلكون مثل هذا السلوك ، وبهذه الصورة يتحملون مسؤولية انحراف الأطفال وإصابتهم بداء الكذب » (1).


الاعتدال في العبادة :

من تعاليم الإسلام الاعتدال في العبادة. إن علماء الحديث يوردون في هذا الصدد روايات كثيرة نذكر هنا بعضها :
1 ـ « عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال رسول الله ( ص ) : أن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تكرهوا عبادة الله الى عباد الله » (2).
2 ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام : « لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة » (3).
3 ـ عن الإمام الصادق أيضاً : « اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي : يا بنيّ دون ما أراك تصنع ، فإن الله إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير » (4).
4 ـ قال رسول الله صلّى عليه وآله : يا علي ، هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربك » (5).
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 61.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|86.
( 3 ) المصدر السابق ج2|86.
( 4 ) المصدر السابق ج2|87.
( 5 ) المصدر السابق ج2|87.


 

( 39 )


5 ـ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « إن للقلوب إقبالاً وإدباراً. فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض » (5).
يظن بعض الآباء والأمهات الجهلاء أن عليهم في سبيل تربية أطفالهم تربية دينية أن يحملوهم فوق طاقتهم ، ويكلفوهم بأداء النوافل ، ويوصومهم باحياء الليل وقراءة القرآن والأدعية المأثورة ، ويتصورون أنهم يحسنون صنعاً بذلك. يقولون له : لا تنس قراءة جزء من القرآن بعد صلاة الصبح ! لا تترك دعاء كميل في ليالي الجمعة ! اقرأ الذكر الفلاني ألف مرة يومياً... وامثال ذلك. إن هؤلاء غافلون عن أن هذه التكاليف الشديدة ليست مرغوباً فيها في الإسلام فقط ، بل انهم بعملهم هذا يجعلون الولد ينظر الى الدين نظرة ملؤها التشاؤم ، ويؤججون نار البعد عن الإسلام في قلبه... هذا مضافاً إلى أن الولد سيقع في مأزق حرج ، فإن الإتيان بجميع تلك النوافل والعبادات المستحبة بصورة مستمرة مما لا يتحمل عادة ، ومن جهة أخرى فإنه يخاف من استياء والديه ويحذر من إزعاجهما ، ولذلك فإنه يلجأ الى الكذب ، فبينما ينام الليل الى الصباح يحاول إرضاء والديه فيدعي كذباً أنه أحيي الليلة حتى الصباح ، وصلى كذا ركعات ، وقرأ كذا من القرآن... الخ.
لو كان الوالدان يعملان بنصيحة الرسول الأعظم ( ص ) حيث يقول : « يقبل ميسوره ، ويتجاوز من معسوره » ولم يكونا يحمّلان الولد فوق طاقته من العبادات لم ينشأ على الكذب والتشاؤم نحو الدين.
يجب على الآباء والامها ـ بالإضافة إلى العناية بالنواحي العلمية والدينية ـ أن يقيسوا القابليات الوسطى للأطفال ، ولا يحملوهم فوق ما يطيقون ، لأن الطفل يخاف من إغضاب والديه ، ويحاول أن لا يعرفه المربي بالكسل وعدم الكفاءة. وعندما يعجز عن أداء العمل الذي يفوق طاقته ومقدرته يلجأ في سبيل الحفاظ على شخصيته الى الكذب ، ويتكرر هذه الحالات ينشأ كذاباً. نستنتج مما تقدم أن أحد العوامل المؤثرة في تعود الطفل على الكذب هو تكليفه بالأعمال التي تفوق مقدرته وإجباره على أداء ما لا يطيق.
____________
( 5 ) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 251.