تحقير الطفل :

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الثاني ص 40 ـ ص 60


تحقير الطفل :

2 ـ والعامل الآخر من العوامل النفسية التي تؤدي إلى تعوّد الطفل على الكذب إحساسه بالإهانة والتحقير. يجب على الآباء والأمهات حسب التعاليم الدينية والعلمية أن يحترموا شخصية الأطفال ، وهذا الموضوع أحد المسائل المهمة في البحوث التربوية. إن الأطفال الذين يهملون من قبل أفراد الأسرة ولا يحترمون من قبل الناس ، يسخرون بهم أو يخدعونهم تارة ، ويؤنبونهم بلا مبرر تارة أخرى ، وبصورة موجزة يسلك معهم بحيث يحس الأطفال بالحقارة ، ويدركون بان أفراد الأسرة يحتقرونهم ولا يحسبون لهم حساباً... هؤلاء يفكرون في الثأر لكرامتهم ، ولذلك تظهر فيهم صفات ذميمة بالتدريج فيقدمون على أعمال مضرة.

« توجد الإنحرافات المكتسبة عقيب الإخفاقات ، والخدع والأحقاد وفي الغالب عقيب الضربات العاطفية التي تخدر الطفل ، هذا كله دون أن يقف الطفل على حقيقة ما وقع. واحياناً يكتسب الطفل سلوكاً جديداً وطبعاً ثانوياً ، قد يقضي على الطبع الأولى له.
« يتحول قلب الطفل على اثر الصدمات التي تؤلمه الى قلب مريض ومنكسر. إن الشخص المنحرف يزى نفسه قبل أي شخص صغيراً وحقيراً ، علم بذلك أم لم يعلم. وهكذا يكتسب الطفل أو المراهق الذي يتأثر لاحساسه بالحقارة عادات غريبة وسلوكاً جديداً... يمكن اعتبارها ردود الفعل لتلك الحالة النفسية » (1).


رد الفعل للحقارة :

إن الطفل الذي يقع موقع السخرية والاحتقار وتهتضم شخصيته ، يسعى لإظهار نفسه بأي طريقة كانت ، أن يعمل عملاً يلفت انظار اعضاء الأسرة ـ
____________
( 1 ) چه ميدانيم اطفال دشوار ص 51.


 

( 41 )


والآخرين أحياناً ـ إلى نفسه ، أن يدخلوه في حسابهم ، ويعترفوا بشخصيته... وهكذا يستغل الفرص المختلفة للوصول الى هدفه.
عندما يكون الوالدان مشغولين باكرام بعض الضيوف المحترمين ، ويصرفان كل اهتمامها الى العناية بهم غافلين عن الطفل... يقدم الطفل على الأعمال غير الإعتيادية ، يطرق الباب بقوة ، يقلب إناء الفواكه ، ويبعثر الفواكه على الأرض ، يصيح بأعلى صوته ، يضرب أمه ، وبصورة موجزة يقوم بأعمال تجلب انتباه الوالدين والضيوف إليه. إن الطفل لا يقصد من هذه الأعمال غير جلب انتباه الأخرين ، انه يحتاج الى اظهار نفسه وابراز شخصيته ، يريد أن يقول : أنا أيضاً موجود ، انتبهوا لي ، إحسبوا لي حساباً.
الطفل يريد أن ينفذ الى قلوب الآخرين. وعندما لا يستجيب الوالدان لمتطلباته الطبيعية المتمثلة في احترام شخصيته ، يسلك طريقاً معوجاً ، وينفذ الى قلوب الآخرين بالفوضى والشغب والايذاء.
من الأعمال الخطيرة التي يقدم عليها أمثال هؤلاء الأطفال : الكذب. الطفل الذي لم يلاق احتراماً في الأسرة ولم يُعتن بشخصيته ، الطفل الذي يُهمل ويُحتقر ويعيش حياة ملؤها الحرمان والإخفاق ، تكون لذته العظمى إظهار شخصيته وجلب انتباه الآخرين. إنه لا يستطيع أن يجلب إهتمام الناس نحوه بالصدق وبيان الحقائق ، فيضطر إلى الكذب ، واختلاق قضايا مدهشة ، وكذبات تحير الأذهان لعدة دقائق ، وتبعث القلق والحيرة في أعضاء الأسرة... يتصنع الاضطراب والذهول فيصيح : إلتهمت النيران دار عمي ! سقطت أختي في الساحة القريبة من بيتنا تحت عجلات السيارة !
عندما يركض أعضاء الأسرة ـ رجالاً ونساءً ـ نحو الحادث وقد علاهم الإرتباك والإضطراب ، ينتعش الطفل الكذاب ، يتلذذ لأن كلامه أوجد هذا الاضطراب ، والإهتمام... إنه يفرح لأنه خدع أعضاء الأسرة وشفى قلبه مما كان يلاقيه منهم من احتقار وسخرية.
إن السلوك السيء للوالدين هو الذي يدعو الطفل إلى الكذب ، وإن الأعمال التافهة لهما هي التي تؤدي إلى هذا الانحراف.


 

( 42 )


يجب على الآباء والامهات الذين يرغبون في تربية أطفالهم على الإستقامة وتدريبهم على الصدق في الحديث أن يحترموا شخصيتهم منذ البداية بصورة معقولة ، ويحذروا من احتقارهم الذي يؤدي إلى إنحرافهم. عليهم أن يتذكروا نصيحة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله : « ولا يرهقه ولا يخرق به ».
إن الأطفال الذين يحسون بالحقارة والصّغار على أثر اهمال الآباء لهم قد يلجأون إلى الكذب لتدارك ذلك ويصابون بهذا الداء الخطير ، فيظلون يتجرعون المآسي والمشاكل ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل تتجاوزهم الأضرار إلى الآخرين أيضاً.

الخوف من العقوبة :

3 ـ والعامل الثالث من عوامل الكذب عند الأطفال هو الخوف من العقوبة. فعندما نسأل الطفل : أنت كسرت النافذة ؟ وعلم أن اعترافه يستلزم العقاب الشديد ، فإن غريزة صيانة الذات تدفعه الى أن يقول كذباً : لم أكسرها. إنه يجد نفسه ضعيفاً أمام صفعات الأم والأب ولحفظ نفسه لا يجد مفراً إلا بالإلتجاء إلى الكذب وإنكار كل شيء. وبديهي أنه كلما كانت العقوبة أشد ، كان إصرار الطفل على الكذب اكثر.
وكما أن الناس في الحكومات الإستبدادية يكثرون من الكذب خوفاً من العقوبات الشديدة والاعمال غير الإنسانية الصادرة من الحكام ، كذلك الأطفال في الأسر التي يشدّد الآباء والأمهات فيها العقوبة فان كذبهم يكثر.
إن علاج هذه الكذبات ينحصر في لين أولياء الأطفال في تربيتهم. فإن كان الآباء والامهات يربون أولادهم على أساس الحب والحنان ، وإن كانت الأسرة مثالاً للرأفة والعطف ، وإن كان الأولياء منصفين وعارفين بواجباتهم الشرعية في تربية الأطفال دون أن يلجأوا إلى العصا والضرب الذي يستوجب الدية ، فإن الأطفال إذا كسروا نافذة أو قاموا بمخالفة النظام لا يدفعهم ذلك إلى الكذب ولا ينشأون كذابين.
يلاحظ الطفل أن أباه أو أمه قد يغفل فيسكر النافذة ولا يحاسبه أحد على

 


 

( 43 )


ذلك ، إنه يرى أخاه الأكبر لا يتعرض لعقوبة أو توبيخ عندما يسقط كأس من يده فيتحطم ، بينما يجد أنه إذا كسر النافذة أو سقط الكأس من يده يُعاقب بشدّة ويحاسب حساباً عسيراً ، فيأثر لكرامته ويلجأ الى الكذب للفرار من العقوبة.

اسداء النصيحة للطفل :

عندما يتخلى الأبوان عن التشديد على الطفل ويعتبر انه مثلهما إنساناً يجب أن تصان كرامته ، ويصادف أنه يكسر النافذة في أثناء اللعب في الغرفة ، فسيبادران الى اسداء النصح له ويقولان له : الغرفة ليست محلا للعّب ، حاول أن لا تتكرر منك أمثال هذه الفعلة. بهذا الأسلوب يكون الطفل قد عوقب بمقدار خجله ، مضافاً إلى أنه لم يكذب... في حين أن من المحتمل أن لا يتكرر منه هذا العمل بعد ذلك.
هنا قد يتصور السادة المستمعون أننا نريد القول بأن الرقابة التربوية الصحيحة في الأسرة يجب أن تكون على درجة من الدقة بحيث يتربى الطفل على أن لا يكذب حتى مرة واحدة طيلة أيام عمره ، ومثل هذا قد يكون مستحيلاً بالنسبة الى الإنسان الاعتيادي. غير أن الغاية من بحثنا هذا هو أن ننبه الآباء والأمهات الذين يريدون تدريب الطفل على الصدق والاستقامة إلى ضرورة الإهتمام بواجباتهم الشرعية والعلمية في إرساء قواعد الأسرة منذ البداية على أساس الفضيلة والاستقامة حتى يكونوا بهذا الطريق قد أدوا ما عليهم تجاه اطفالهم.
وبعبارة أوضح فإن الكذب ـ سواء كان قليلاً أم كثيراً ـ يعد معصية عظيمة ، ولكن هناك فرق عظيم بين من تصدر منه كذبة أو عدة كذبات على أثر الغفلة أو بعض الظروف الحرجة في الحياة ، وبين من بين كيانه على أساس الكذب والخديعة ونشأ ( كذاباً ). إن الخطر العظيم والداء الوبيل يتوجه نحو الصنف الثاني ، إن هدف التربية الصحيحة هو أن لا ينشأ الأطفال وأن لا يضرب هذا الداء الفتاك بجذوره في أرواحهم.
هذا المسألة التربوية والنفسية تعرضت لها الروايات والاحاديث الإسلامية ويهتم لها العلماء المعاصرون أيضاً ، ولمزيد الاطلاع نعرض على المستمعين الكرام نماذج من كلا الصنفين.

 


 

( 44 )


1 ـ « قال ابن مسعود : قال النبي صلّى الله عليه وآله : « لايزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذباً » (1).
2 ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : « قلت لأبي عبدالله ( ع ) : الكذاب هو الذي يكذب في الشيءٌ قال : لا ، ما من أحد إلا أن يكون ذلك منه ، ولكن المطبوع على الكذب » (2).
3 ـ عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « إن العبد ليكذب حتى يكتب من الكذابين » (3).

الكاذب والكذاب :

يستفاد من هذه الاحاديث الثلاثة أن هناك فرقاً بين الكاذب والكذاب. الكاذب هو الذي تصدر منه كذبة أو كذبات على أثر الغفلة أو الحوادث المختلفة ، وجميع الناس قد يصدر منهم ذلك. أما الكذاب فهو تركز الكذب في مخه ، ونفذ هذا الداء الفتاك الى أعماقه.
أما العلماء المعاصرون فإنهم يشيرون إلى هذا المعنى أيضاً في كتبهم ، وها أنا ذا أقرأ لكم عبارة مقتبسة من أحدها.

فن الخديعة :

 

« وهذا أمر بسيط وطبيعي جداً ، ذلك أن الأطفال يكذبون على أثر الضعف الذي يحسون به في مقابل الكبار دون أن يكون هناك انحراف أو تخطيط أو تفكير سابق. إنهم يكذبون ليصونوا أنفسهم من الحملات المباشرة التي يتنبأون لها ، فإن الكذب والخديعة يستلزمان تخطيطاً سابقاً ، وتفكيرا في تورط الآخرين ، ولا يكفي

____________
( 1 ) المحجة البيضاء في إحياء الأحياء ، للفيض الكاشاني ج5|239.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|340.
( 3 ) الوسائل للشيخ الحر العاملي ج2|232.


 

( 45 )

 

أن يكذب شخص في مورد ما مترسلا ونحكم عليه بالانحراف ».
« يتكامل علم الكذب ( أو فن الكذب على الأرجح ) بالممارسة والتدرب على الكذب. إذن نستنتج من ذلك أن جهود الوالدين أو القائمين على شؤون التربية يجب أن تنصرف إلى عدم فسح المجال للأطفال في التعلق بالكذب ، ويجب أن لا يكون سلوكنا على نحو يضطرهم الى الالتجاء إلى الكذب ».
« يجب أن نعرف الكاذب الحقيقي أولا ، أي يجب أن نميز بين من يكذب على أثر تطبعه على الحيلة والخديعة ، وبين من يكذب عفواً. إن الكاذب العفوي لأجل أن يتخلص من عقوبة العمل الذي عده ذنباً في نفسه يعمد الى أول كذبة تمر بخاطره وتجري على لسانه إنه لا يفكر في عواقب ذلك ، في حين أن صدقه الذاتي والطبيعي غالباً ما يخونه دون علم منه... الصوت الفاقد للتطامن ، والوجه المحمر ، والنظرات الزائغة ، كل ذلك علائم تفضح أمر مثل هذا الكاذب ».
« الحقيقة تعلن عن نفسها من خلال الكلمات التي يجريها على لسانه ، إنها تحرق شفتيه ، فلا يستطيع أن يلقي حجاباً ساتراً على الحقيقة التي تفصح عن واقعها. إن من السهولة بمكان أن نستكشف من مثل هذا الشخص أنه لم يصبح كذاباً بعد ، بل يستطيع أن يصنع بعض الكذبات المفضوحة ، غاية ما هناك أنه لكي يتقن هذا العمل ، ولكي يصبح ماهراً في فن الكذب ، يكفي أن يوضع في محيط فاسد أو يقابل مربيّاً دون مستوى المسؤولية ، لاجل أن ننقذ مثل هذا الطفل من الغرق والوقوع في هذه الهوة السحيقة يجب أن نوجه وجدانه نحو الصدق والشهامة ، وعندئذ لا يستطيع الكذب أن ينشر جذوره في نفسه ولا يصبح داً مزمناً عنده ».
« أما بالنسبة إلى الكذاب الأصيل فالأمر ليس كذلك. هذا الشخص الذي يمتهن التزوير والاحتيال وإن بدأ عمله بكذبات

 

( 46 )

 

تافهة ومفضوحة لكنه استمر على ذلك فترة طويلة حتى أصبح الآن يكذب بسهولة ، يصور الباطل في لباس من الحقيقة ، وهنا يجب أن نهتم بالأمر. إنه لا يصدر عن الكذب بصورة عفوية بل يفكر ويخطط ويصمم لما يريد إطاراً جميلاً ، يغير في الموضوع كيف يشاء ، ويظهره بالمظهر الذي يريده من جمال أو قبح ، لأنه يعلم أنه إذا ألبس الباطل لباساً جميلاً من التبريرات والاحتيالات كان ذلك عاملاً مساعداً على عدم انفضاح سره » (1).


الكذابون الماهرون :

كان إخوة الصديق يوسف كذابين ماهرين. فإنهم عندما رموا به في البئر جاءوا الى ابيهم يبكون ، يذرفون الدموع الحارة ، وقد حملوا معهم ثوباً ملطخاً بالدم ، وهكذا كانوا قد صمموا للحادثة تصميماً مضبوطاً يخيل للناظر معه أن ذلك هو الحقيقة ، وأن الذئب هو الذي أكل يوسف. هذه الكذبات خطيرة جداً ، ولذلك فإن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يستعمل كلمة ( الكذاب ) في حقهم :
« لا تلقنوا الكذاب فتكذَبوا. فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الانسان حتى لقنهم أبوهم » (2).
ان الآباء والأمهات الذين يربون أطفالهم تربية صحيحة ويدربونهم على الصفات الفاضلة والسجايا الحميدة يستطيعون أن يقفوا أمام الزلات المحتملة لهم بالنصح والارشاد ، وبذلك يمنعونهم من التلوث ببعض الكذبات التي يمكن أن تلوث أذيالهم.
« عن أبي جعفر عليه السلام. قال : كان علي بن الحسين يقول لولده : اتقوا
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 62.
( 2 ) سفينة البحار للقمي ـ مادة كذب ـ ص 474.


 

( 47 )

الكذب ، الصغير منه والكبير ، في كل جد وهزل ، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير » (3).

المحيط التربوي :

4 ـ من أهم العوامل المؤثرة في تنمية فطرة الصدق عند الأطفال المحيط التربوي الذي يعيشون فيه ، فعندما يكون الوالدان ملتزمين بالصدق بعيدين عن الكذب والاحتيال ، فإن الطفل ينساق تلقائياً إلى طريق الصدق والاستقامة ، ومن السهل جداً إزالة العوائق التي تقف في طريقه من الناحية النفسية.
وعلى العكس من ذلك فإن الوالدين اللذين لا يتورعان عن الكذب يعودان الطفل على هذه الصفة الذميمة من حيث لا يشعران ، في أسرة كهذه يصبح الإهتمام بالظروف والعوامل النفسية للوقاية من الكذب عقيما. إن المحيط التربوي اهم العوامل الصانعة لكيان الطفل ، ولا يمكن مقايسة أي من العوامل النفسية به ، ذلك أن الطفل ينسجم مع المحيط الذي ينشأ فيه بصورة لا شعورية ، وتنطبع في ذهنه صور الأشياء التي يشاهدها أو يسمعها.

 

« إن محيط الصدق والشهامة المطلقة أهم عوامل الكفاح ضد الكذب. فإذا كانت الاستقامة مسيطرة على جو الأسرة أو المدرسة لم يقترب الطفل من الكذب ، واذا صادف أن جرت كذبة على لسانه فإن التجارب تثبت أن هذه الكذبة لا تصل إلى حد الخيانة والاجرام ولا تبعث بجذورها في قلبه ».
« إن الضمائر الحية لهؤلاء الأحداث تشبه الأعشاب الربيعية في النعومة واللطافة ، فلأجل أن تلاقي تنمية مناسبة ومتكافئة يجب أن تبقى في مأمن من هبوب الرياح الشديدة والميول التي قد تدحرها الى الأبد ، ومن المؤسف أن نجد أن هذه الفسائل الغضة كثيراً ما تجابه بالرياح الهوجاء ».
« كثيراً ما يصادف وجود أخاديد واسعة بين أفعالنا ونصائحنا.

____________
( 3 ) الوسائل للشيخ الحر العاملي ج 3|232.


 

( 48 )

 

هناك بون شاسع بين ما يلاحظه الطفل في أفعالنا ويدركه من سلوكنا ، وبين الأوامر والنصائح التي نصدرها في تقبيح عمل معين وذمه ! ».
« قد اعتاد الكثيرون على أن يقولوا للأطفال : ( افعل ما أقوله لك ! لا تلتفت الى ما أفعل ) في حين أنهم يجهلون أن هذه النصيحة تستتبع مأساة عظيمة ، ان الطفل لا يخضع للنصيحة التي لا يعيرها الوالدان أهمية ما وعلى فرض أنه استطاع أن يتوصل من عمل الكبار الى أن السلوك المفضل للأطفال يختلف عن السلوك المفضل للكبار فإنه سيحطم تلك القيود في أول فرصة يدرك فيها الحرية ، ويخرج على تلك التعاليم التي وجهت اليه في صباه » (1).

ان محيط الأسرةّ هو المدرسة الأولى للطفل ، وإن سلوك الوالدين يمكن أن يصبح مقياساً لازدهار الأسرة أو انحطاطها. ان امرأة أو رجلاً بغض النظر عن عنوان الأمومة أو الأبوة عندما تصدر منه كذبة يكون قد ارتكب معصية كبيرة واستحق بذلك عقوبة. أما عندما يكون هذا الرجل أباً أو عندما تكون المرأة أماً فإن الكذبة الصادرة منه أمام عيني الطفل النافذتين ، وأذنيه الواعيتين لا يمكن أن تعد ذنباً واحداً. ففي هذه الصورة يكون ذنب آخر غير ذنب الكذب قد ارتكب... ذلك هو ذنب التعويد على الكذب وهذا أعظم بكثير من الذنب الأول.

داء الكذب :

ان الأطفال أمانة الله عزّ وجل في أعناق الوالدين ، فهما إن قصرا في أداء واجبهما نحوهم كانا خائنين للأمانة. إن ما لا شك فيه هو أن الكذب احد الأمراض الإجتماعية الكبيرة ، ومن المؤسف أن أغلب الناس مصابون بهذا الداء الفتاك إن قليلاً أو كثيراً. هذا الخلق الذميم يوجب شقاء الدنيا وعذاب الآخرة. إن جميع الصفات الذميمة تعد أمراضاً نفسية من وجهة نظر العلم والدين ، ولكن الكذب
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 65.


 

( 49 )


أشدها. ففي وصية أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن : « وعلة الكذب أقبح علة » (1).
إن الكذب يزلزل الكيان الخلقي والاقتصادي والقانوني في المجتمع. لأن الشخص الكاذب يجعل الناس يسيء بعضهم الظن الى الآخر ، ويسلب الاعتماد منهم. إن الكذب يحرق جذور الفضيلة ويميت الروح الإنسانية.
« عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن أبي حدثني عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أقل الناس مروءة من كان كاذباً » (2).
يتصور البعض أحياناً أن الكذب هو الوسيلة الوحيدة للنجاح ، في حين أن النبي ( ص ) يفنّد هذا التصور ويعتبر هذا النوع من النجاح المزعوم فشلاً واخفاقاً. فقد قال صلّى الله عليه وآله : « إجتنبوا الكذب وان رأيتم فيه النجاة فإن فيه الهلكة » (3).
وفي حديث آخر يقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لهشام : « يا هشام ، ان العاقل لا يكذب وان كان فيه هواه » (4).

الصدق والنجاة :

ما اكثر الأفراد الذين التزموا الصدق في المواقع الحرجة والمآزق الشديدة وكان ذلك سبب خلاصهم.
لا يجهل أحد مدى الجرائم التي قام بها الحجاج بن يوسف الثقفي والدماء التي أراقها من غير حق. في يوم من الأيام جيء بجماعة من اصحاب عبد الرحمن مأسورين وكان قد صمم على قتلهم جميعاً. فقام أحدهم واستأذن الأمير في الكلام
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|100.
( 2 ) المصدر السابق ح2|100.
( 3 ) المصدر السابق ج2|100.
( 4 ) تحف العقول ص 391.

 


 

( 50 )


ـ إن لي عليك حقاً ! فأنقذني وفاء لذلك الحق.
قال الحجاج : وما هوٌ
قال : كان عبد الرحمن يسبّك في بعض الأيام ، فقمت ودافعت عنك.
قال الحجاج : ألك شهود ؟
فقام أحد الأسرى وأيّد دعوى ذلك الرجل. فأطلقه الحجاج ، ثم التفت الى الشاهد ، وقال له : ولماذا لم تدافع عني في ذلك المجلس ؟!
أجاب الشاهد في أتم الصراحة : لأني كنت أكرهك.
فقال الحجاج : أطلقوا سراحه لصدقه (1).
« وخطب الحجاج ذات مرة فأطال ، فقالم رجل فقال : الصلاة ، فان الوقت لا ينتظرك ، والرب لا يعذرك. فأمر بحبسه ، فأتاه قومه وزعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله فقال :
ـ إن أقرّ بالجنون خلّيته.
فقيل له ، فقال : معاذ الله ، لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني ، فبلغ ذلك الحجاج ، فعفا عنه لصدقه » (2).

***


وكما أن الصدق يجلب العزة والكرامة ، فإن الكذب يسبب الذلة والصغار لصاحبه. يقول الرسول الأعظم : « إياك والكذب ، فإنه يسود الوجه » (3).
بلغ المنصور الدوانيقي أن مبلغاً ضخماً من أموال بني أمية مودعة عند رجل ، فأمر الربيع باحضاره. يقول الربيع : فأحضرت الرجل وأخدته الى مجلس
____________
( 1 ) قاموس دهخدا الفارسي ـ حرف الحاء.
( 2 ) المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج2|7.
( 3 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|100.


 

( 51 )


المنصور. فقال له المنصور : بلغني ان أموال بني أمية مودعة عندك ، فيجب أن تسلمني إياها بأجمعها.
فقال له الرجل : هل الخليفة وارث الأمويين ؟!
فأجاب : كلا.
فقال : هل الخليفة وصي الأمويين ؟!
فأجاب : كلا.
فقال الرجل : فكيف تطالبني بأموال بني أمية ؟!
فأطرق المنصور برهة ثم قال : إن الأمويين ظلموا المسلمين وانتهكوا حقوقهم وغصبوا أموالهم ، وأنا الآن خليفة المسلمين ووليهم ، أريد أن استرد أموال المسلمين وأودعها في بيت المال.
فقال الرجل : إن الأمويين امتلكوا أموالاً كثيرة كانت خاصة بهم وعلى الخليفة أن يقيم شاهداً عدلاً على أن الأموال التي في يدي لبني أمية إنما هي من الأموال التي غصبوها وابتزوها من غير حق.
ففكر المنصور ساعة ، ثم قال للربيع ، ان الرجل يصدق ، فابتسم بوجهه وقال له : ألك حاجة ؟!
قال الرجل : لي حاجتان. الأولى : أن تامر بإيصال هذه الرسالة إلى أهلي بأسرع وقت ، حتى يهدأ إضطرابهم ويذهب روعهم. والثانية : أن تأمر بأحضار من أبلغك بهذا الخبر ، فو الله لا توجد عندي لبني أمية وديعة أصلاً. وعندما أحضرت بين يدي الخليفة وعلمت بالأمر تصورت أني لو تكلمت بهذه الصورة كان خلاصي أسهل. فأمر المنصور الربيع بإحضار المخبر ، وعندما حضر نظر اليه الرجل نظرة ثم قال : إنه عبدي سرق مني ثلاثة آلاف دينار وهرب. فأغلظ المنصور في الحديث مع الغلام وأيّد الغلام كلام سيده في أتم الخجل وقال : إنّي اختلقت هذه التهمة لأنجو من القبض علي. هنا رق قلب المنصور لحال العبد وطلب من سيده أن يعفو عنه ، فقال الرجل : عفوت عنه وسأعطيه ثلاثة آلاف أخرى.


 

( 52 )


فتعجب المنصور من كرامة الرجل وعظمته ، وكلما ذكر اسمه كان يقول : لم أر مثل هذا الرجل » (1).
____________
( 1 ) ثمرات الأوراق ، لابن حجة الحموي ص 233.


 

( 53 )

 

المحاضرة الثامنة عشرة

احترام شخصية الناس ـ احترام شخصية الطفل

قال الله تعالى في كتابه الحكيم : ( وقُل لِعبادي يقولوا التي هي أحسنُ ) (1).

غريزة حب الذات :

حب الذات من الغرائز الفطرية التي أودعها الله تعالى في باطن كل انسان بالقضاء الإلهي الحكيم ، كل فرد يحب نفسه قبل كل شيء وكل شخص ، ولا شيء في نظر الإنسان أغلى وأهم من ذاته.
إن حب الذات أحد الركائز المهمة والأساسية الثابتة في تربية الطفل والمربي الكفء يستطيع أن يستغل هذه الثروة الفطرية استغلالاً طيباً وينمي في الطفل كثيراً من الفضائل والصفات الخيرة في ظل غريزة حب الذات.
هذه الغريزة تشكل قوة عظيمة في مزاج الطفل ، فلو استغلت بصورة معقولة وتبعاً لأساليب صحيحة ، كانت أساس سعادته ، وإن أسيء التصرف فيها عادت عليه بالويل والشقاء.
إن من طرق إرضاء غريزة حب الذات ، تكريم الأطفال والإهتمام بشخصيتهم. ان الطفل الذي يلتقي قدراً كافياً من الاحترام في الأسرة ، وتلبي غريزة حبه للذات بالمقدار المناسب يملك روحاً سليمة ، ولذلك يمكن أن نتوقع من هذا الطفل سلوكاً مفضلاً وأخلاقاً حميدة , وعلى العكس فإن الطفل الذي لا يلاقي احتراماً وتكريماً من والديه ، ولم يلاق استجابة فعليه لهذه الرغبة الطبيعية يحس بالحقارة والذلة في نفسه ، ويملك روحاً مندحرة ونفساً مخفقة ، ومما لا شك


 

( 54 )


فيه أن هذه الحالة النفسية تكشف عن نفسها خلال أقوال الطفل وأفعاله بصورة غير مرضيه... وطفل كهذا يكون معرضاً لأخطار كثيرة ان احترام الشخصية ليس ركناً من الأركان الأساسية لتربية الطفل في محيط الأسرة فحسب ، بل ان هذا السلوك المفضل يشكل أساساً من أسس النظام الإجمتاعي الصالح ، وهو بعد ذلك واجب ديني مقدس. ولأجل أن يتبين المستمعون الكرام منهج أئمة الإسلام وقادته في احترام شخصية الناس ، نخصص قسماً من بحثنا في هذه المحاضره لهذا الموضوع.

احترام الناس :

كان احترام الناس في جميع الأحيان جزء من النهج الثابت للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في معاشراته ، ويمكن أن نقول ـ ولم نكن في ذلك مبالغين ـ أن هذا السلوك المفضل كان من أهم عوامل تقدمه ونجاحه. كان الرسول الأعظم ( ص ) يهتم بجميع الدقائق النفسية للناس في سبيل احترامهم ، ولم يكن ليتخلى عن أبسط الوظائف... « كان يكرم من يدخل عليه ، حتى ربما بسط ثوبه ، ويؤثر الداخل بالوسادة التي تحته » (1) وفي هذا مثال فذّ للتواضع واحترام الناس.
ومثال آخر نجده في القصة التالية : « دخل رجل المسجد وهو ( أي النبي ) جالس وحده فتزحزح له. فقال الرجل : في المكان سعة يا رسول الله. فقال ( ص ) : ان حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له » (2).
« وكان إذا لقيه واحد من أصحابه قام معه ، فلم ينصرف حتى يكون الرجل ينصرف عنه. وإذا لقيه احد من أصحابه يتناول يده ناولها إياه فلم ينزع عنه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع عنه » (3) أي انه كان لا يسحب يده من المصافحة حتى
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|151.
( 2 ) المصدر السابق ج6|153.
( 3 ) المصدر السابق ج6|152.

 


 

( 55 )


يسحب الآخر يده ، وفي ذلك معنى سامٍ من معاني الإسلام العظيمة. « وكان رسول الله يقسم لحظاته بين اصحابه ينظر الى ذا وينظر الى ذا بالسوية » (1).
كما ورد في صفاته ( ص ) : « اإن رسول الله لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه ، فإن أبي قال : تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد » (4).

غضب الانصار :

كان يصادف في بعض الموارد أن العمل الصادر من النبي صلى الله عليه وآله ـ وان استند الى المصلحة والواقعية ـ يوجد ردّ فعل غير مرغوب فيه في قلوب بعض الناس ، فكانوا يحملون عمله على قصد الاحتقار والإيذاء. ولذلك فان النبي ( ص ) كان يعمد إلى رفع تلك الغشاوة عن أبصارهم يتوضيح اعماق الموضوع وأبعاده مظهراً ما يكنّه لهم من احترام وتقدير.
لقد وزع رسول الله ( ص ) غنائم حنين تبعاً لمصالح معينة على المهاجرين فقط ، ولم يعط الانصار سهماً واحداً.. ولما كان الأنصار قد بذلوا جهوداً عظيمة في رفع لواء الإسلام ، وخدمات جليلة في نصرة هذا الدين فقد غضب بعضهم من هذا التصرف وحملوه على التحقير والاهانة. فبلغ الخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله فأمر بأن يجمع الأنصار في مكان ما وأن لا يشترك معهم غيرهم في ذلك المجلس. ثم حضر هو وعلي عليه السلام وجلسا في وسط الأنصار. ثم قال النبي ( ص ) لهم : أريد أن أسألكم عن بعض الأمور فأجيبوني عليها.
قال الأنصار : سل يا رسول الله.
قال لهم : ألم تكونوا في ضلال مبين ، وهداكم الله بواسطتي ؟!
قالوا : نعم يا رسول الله.
____________
( 1 ) روضة الكافي لثقة الإسلام الكليني ص 268.
( 2 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|153.

 


 

( 56 )


قال : ألم تكونوا على شفا حفرة من الهلاك والدمار ، والله انقذكم بي ؟
قالوا : نعم.
قال : ألم يكن بعضكم عدو بعض ، فألّف الله بين قلوبكم على يدي ؟
قالوا : نعم.
فسكت لحظة ، ثم قال لهم : لماذا لا تجيبونني بأعمالكم ؟
قالوا : ما نقول ؟
قال : أما لو شئتم لقلتم : وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك ، وجئتنا خائفاً فآمنّاك ، وجئتنا مكذَّباً فصدقناك...
هذه الكلمات الصادرة من الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله أفهمت الأنصار أنه لا ينكر فضلهم ولا ينسى جهودهم ، ولم يكن ما صدر منه تجاههم صادراً عن احتقار أو إهانة... ولذلك فقد أثر فيهم هذا الكلام تأثيراً بالغاً وارتفعت أصواتهم بالبكاء. ثم قالوا له : هذه اموالنا بين يديك ، فإن شئت فاقسمها على قومك. وبهذا أظهروا ندمهم على غضبهم واستغفروه. فقال النبي ( ص ) : اللهم اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار ، ولأبناء أبناء الأنصار (1).

رعاية العواطف :

من هذا الحديث ندرك مدى اهتمام قادة الاسلام برعاية عواطف الناس ، وعدم جرح شعورهم. وفي حديث آخر مشابه : أتى النبي بشيء فقسمه ، فلم يسع أهل الصفة جميعاً ، فخص به أناساً منهم. فخاف رسول الله أن يكون قد دخل قلوب الآخرين شيء. فخرج اليهم فقال : معذرة إلى الله عزّ وجل واليكم. يا اهل الصفة إنا أوتينا بشيء فأردنا أن نقسمه بينكم فلم يسعكم فخصصت به أناساً منكم خشينا جزعهم وهلعهم (2).
____________
( 1 ) الإرشاد للشيخ المفيد ص 67.
( 2 ) fبحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|160.

 


 

( 57 )


قد كان احترام الناس وتكريمهم مهماً في نظر الرسول الأكرم الى درجة أنه كان يحاسب كل من يتخلف عن أداء هذا الواجب المقدس. ففي إحدى الغزوات كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يصلي في معسكره فمّر بالمسكر عدة رجال من المسلمين فتوقفوا لحظة وسألوا بعض الصحابة عن حال النبي ( ص ) ودعوا له ، ثم اعتذروا من عدم تمكنهم من انتظار النبي حتى يفرغ من الصلاة فيسلموا عليه لأنهم كانوا على أمر عاجل ومضوا الى سبيلهم « فانفتل رسول الله صلّى الله عليه وآله مغضباً ، ثم قال لهم : يقف عليكم الركب ويسائلونكم عني ويبغلوني السلام ولا تعرضون عليه الغذاء ؟ » (1) ثم أخذ يتحدث عن جعفر الطيّار وعظمة نفسه وكمال ادبه واحترامه للآخرين...

آداب الصحبة :

ليست فضيلة احترام الناس وتكريمهم في الشريعة الإسلامية الغراء خاصة بالمسلمين فيما بينهم ، فإن غير المسلمين أيضاً كانوا ينالون هذا الاحترام والتكريم من المسلمين ، فقد تصاحب الإمام أمير المؤمنين ( ع ) مع رجل ذمي خارج الكوفة في أيام حكومته. وكان الذمي لا يعرف الإمام فقال له : أين تريد يا عبدالله ؟
قال الإمام علي عليه السلام : أريد الكوفة !
ثم وصلا إلى مفترق طريقين فتوجه الذمي الى الطريق الذي يريده وانفصل عن الإمام عليه السلام... ولكنه لم يكن قد خطا اكثر من بضع خطوات حتى شاهد أمراً غريباً ، فقد رأى رفيقه الذي كان قاصداً الكوفة ترك طريقه وأخذ يتبعه.
فسأله : ألست تقصد الكوفة ؟
قال الإمام : نعم.
قال : ذلك الطريق هو الذي يؤدي الى الكوفة.
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|159.

 


 

( 58 )


قال الإمام : اعلم ذلك.
فسأل الذمي باستغراب : ولماذا تركت طريقك ؟
فقال له الإمام عليه السلام : هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه. وكذلك أمرنا نبينا.
فقال : هكذا أمركم نبيكم ؟
قال : نعم.
فقال الذمي : لا جرم أنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة.
ثم ترك طريقه الذي كان يقصده وتوجه مع الإمام عليه السلام إلى الكوفة وأخذا يتحدثان عن الإسلام وتعاليمه العظيمة فأسلم الرجل (1).

سلوك قادة الإسلام :

إن سلوك قادة الإسلام مع الناس واحترامهم لهم ، أحد العوامل المهمة في تقدم هذا الدين العظيم وانتشاره. وعلى المسلمين أيضاً أن يلتزموا بواجب احترام الناس في أحاديثهم وسلوكهم وأن لا يصدر منهم ما يوجب تحقير الآخرين. وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) (2).
عن الإمام عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذه الآية : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » (3) وكما أن الرجل منا يستاء للكلمات السيئة والمستهجنة الصادرة من الآخرين أيضاً. « كان أبو جعفر عليه السلام يقول : عظموا أصحابكم ووقروهم ، ولا يهجم بعضكم على بعض » (4).
____________
( 1 ) سفينة البحار للقمي ـ مادة خلق ص 416.
( 2 ) سورة الاسراء : 53.
( 3 ) الوسائل للحر العاملي ج4|93.
( 4 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|173.

 


 

( 59 )


وبهذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام : « من أتاه أخوه المسلم فاكرمه فإنما أكرم الله عزّ وجل » (2).
وفي الحديث الشريف ، قال رسول الله ( ص ) : « من أكرم اخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله المدود عليه الرحمة ما كان في ذلك » (4).
كما ورد النهي¨ عن تحقير الناس في كثير من الروايات كقوله ( ع ) : « لا تحقرن أحداً من المسلمين فإن صغيرهم عند الله كبير » (4).
هذه نبذة يسيرة من تعاليم الإسلام القيمة بشأن احترام شخصية الناس وتكريمهم نكتفي بها ، لننتقل بعد ذلك الى مسألتنا الأساسية وهي احترام شخصية الطفل.

احياء شخصية الطفل :

إن سلوك جميع أفراد البشر وأساليب معاشرتهم مع الناس إنما هو خلاصة للأساليب التربوية التي اتخذت معهم في دور الطفولة من قبل الآباء أو الأمهات في الأسرة أو من قبل المعلمين في المدرسة. فكل خير أو شر لقنوه إياهم في أيام الطفولة يظهر على سلوكهم عند الكبر وعندما يصبحون أعضاء في هذا المجتمع الانساني الكبير وبعبارة أخرى فإن الوضع الروحي والخلقي والسلوكي للناس في كل عصر إنما هو حصيلة البذور التربوية التي نثرت في أدمغتهم أيام الطفولة.
الشخصية وحرية الأرادة والاعتماد على النفس.. وكذلك الحقارة ، والإعتماد على الغير ، والخسة ، صفات تصب ركائزهم في حجر الأم وحضن الأب. فعلى الآباء والأمهات الذين يرغبون في تنشئة اطفال ذوي شخصية أن يهتموا بذلك منذ الأدوار الأولى من حياتهم وينموا هذا الخصلة الطيبة في نفوسهم منذ البداية. ان
____________
( 1 ) الوسائل للحر العاملي ج4|97.
( 2 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16 : 84.
( 3 ) مجموعة ورام 1|31.

 


 

( 60 )


الطفل الذي نشأ في الأسرة على الخسة والحقارة ، ولم يعامله أبواه معاملة انسان ، ولم يعترفا به كعضو محترم من أعضاء الأسرة لا يستطيع في الكبر أن يبدي الاستقلال في تصرفاته والرصانة في شخصيته. انه لا يرى نفسه كفؤاً للاضطلاع بالمسؤوليات التي تلقى على عاتقه ، ولا يرى لنفسه شخصية أصلاً ، أنه موجود شقي نشأ على الخسة منذ البداية ، ومن الصعب جداً أن تستأصل جذور ذلك من كيانه.
إن التربية الصحيحة وتنمية الصفات الفاضلة عند الطفل تتوفر في ظل الأساليبت العلمية والتطبيقية الصحيحة فقط ، على الوالدين أن يستوعبا ذلك ، وأن يتابعا حركات الطفل خطوة خطوة ، محاولين تطبيق تلك الأساليب عليه. أما الأسر التي تهمل هذا الجانب فإنها تعجز عن أن تقوم بتربية صالحة لأطفالها.

التكامل النفسي للطفل :

 

« ليس التكامل النفسي والعصبي للطفل أمراً يحدث بالصدفة ، يل انه يحصل وفقاً لقواعد معينة ، ويجب أن لا نتهاون في مقاومة اندحار احد القوى النفسية التي تقوم كيانه ، بل يجب أن نعتبر النقص العصبي والنفسي الحادث عنده مرضا فنخضعه الى رقابة خاصة. ان الطفل يتعلم منذ الصغر كيف يستخدم جهازه العصبي ، وان الرضيع ليس إلا مجموعة من الانعكاسات ، ثم يأخذ في المشي بالتدريج ، يتكلم ، يدرك ، يقفز ، ويحصل على معلومات سمعية وبصرية ، وفي هذه الحالة يمكن أن يقال : انه قد تولد واقعاً ».
« كثير من الآباء والأمهات يتركون أطفالهم لوحدهم بمجرد أن يجدوهم قد اصبحوا قادرين على المشي والتكلم فيكون الطفل في هذه الصورة كساعة مكوّكة تسمع دقاتها ولكنها لا تملك عقارب » (1) .

____________
( 1 ) چه ميدانيم ؟ تربية اطفال دشوار ص 65.