دين تجاه الأطفال :

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الثاني ص 140 ـ ص 160

« ان ما يدفع الإنسان الى مصيره النهائي يكمن في المشاعر لا العقل.
فالنفس تقبل التكامل بواسطة الألم والشوق اكثر من مساعدة العقل.
وفي هذا السير العنيف عندما يصبح العقل حملاً ثقيلاً تلجأ النفس الى الجوهرة الثمينة التي تنطوي عليها وهي عبارة عن الحب ».
« إن كثيراً من الأشخاص المعاصرين يقتربون الى الحياة الحيوانية الى درجة أنهم يحصرون اهتمامهم بالقيم المادية ولذلك فإن حياتهم أخس من حياة الحيوانات ، لأن القيم المعنوية فقط هي التي تستطيع أن تمنحنا النور والسرور » (1).
« ليس المبدأ الأول عبارة عن تنمية القوى العقلانية ، بل البناء العاطفي الذي تستند اليه جميع العوامل النفسية. ليست ضرورة الشعور الخلقي بأقل من ضرورة السمع والبصر. يجب أن نتعوّد على أن نميز بين الخير والشر بنفس الدقة التي نميز بها بين النور والظلمة ، والصوت عن السكوت... ومن ثم يجب علينا أن نعمل الخير ونحذر الشر ».
« إن النمو القياسي للروح والجسد لا يحصل بغير تزكية النفس. هذا الوضع الفسيولوجي والنفسي وإن بدا غريباً في نظر علماء التربية والاجتماع المعاصرين لكنه يصنع الركن الضروري للشخصية ، وفي نفس الوقت فهو المطار الذي تحلق منه النفس » (2).


دين تجاه الأطفال :

إن تنمية الإيمان والفضائل في نفس الطفل حق له على عاتق أبيه ، وقد وردت روايات كثيرة في هذا الصدد : ـ
____________
( 1 ) راه ورسم زندگي ص64.
( 2 ) راه ورسم زندگي ص99.


 

( 141 )


1 ـ يقول الإمام السجاد عليه السلام : « وإنك مسؤول عما ولّيته به من حسن الأدب والدلالة على ربه » (1).
2 ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : « حق الولد على والده ـ إذا كان ذكراً ـ أن يستفره أمّه ، ويستحسن اسمه ، ويعلمه كتاب الله ويطهره » (2).
3 ـ وعن النبي ( ص ) أيضاً : « إن المعلم إذا قال للصبي بسم الله كتب الله له وللصبي ولوالديه براءة من النار » (3).
4 ـ وفي الحديث عن الإمام العسكري عليه السلام : أن الله تعالى يجزي الوالدين ثواباً عظيماً.
فيقولان : يا ربنا أنى لنا هذه ولم تبلغها أعمالنا ؟
فيقال : « هذه بتعليمكما ولدكما القرآن وبتبصيركما إياه بدين الإسلام » (4).

حق المعلم :

5 ـ كان عبد الرحمن السلمي يعلم ولداً للإمام الحسين عليه السلام سورة الحمد ، فعندما قرأ الطفل السورة كاملة أمام والده ، ملأ الإمام عليه السلام فم معلمه دراً بعد أن أعطاه نقوداً وهدايا آخر : فقيل له في ذلك. فقال عليه السلام : « وأين يقع هذا من عطائه » (5) يعني تعليمه.
لقد استأثر موضوع التربية الدينية للاطفال بقسط وافر من اهتمام الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، إلى درجة أنه كان يتبرأ من الآباء الذين يهملون القيام بذلك الواجب ، ولا يرضى بانتسابهم له. وهذا ما يظهر من الحديث الآتي : ـ
____________
( 1 ) تحف العقول ص 263.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|49.
( 3 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|625.
( 4 ) نفس المصدر ج1|290.
( 5 ) المصدر نفسه ، والصفحة نفسها.


 

( 142 )


6 ـ « روى عن النبي ( ص ) أنه نظر الى بعض الأطفال فقال : ويلٌ لأولاد آخر الزمان من آبائهم ! فقيل : يا رسول الله من آبائهم المشركين ؟ فقال : لا ، من آبائهم المؤمنين لا يعلمونهم شيئاً من الفرائض وإذا تعلموا أولادهم منعوهم ورضوا عنهم بعرَضٍ يسيرٍ من الدنيا ، فانا منهم بريء وهم مني بُراء » (1).

ضرورة التربية الإيمانية :

لقد اكد علماء الغرب على أهمية التربية الدينية ، وضرورة ذلك لضمان سعادة الأطفال وحسن تربيتهم.

« يقول ريموند بيج : لا شك في أن المهمة الأخلاقية والدينية تقع على عاتق الأسرة قبل سائر المسائل ، ذلك أن التربية الفاقدة للأخلاق لا تعطينا سوى مجرمين حاذقين. ومن جهة أخرى فإن قلب الإنسان لا يمكن أن يعتنق الأخلاق من دون وجود دافع ديني ، ولو حاول شخص أن يتفهم الأصول الخلقية بمعزل عن الدين فكأنه يقصد تكوين موجود حي لكنه لا يتنفس ».
« إن أول صورة يرسمها الطفل في ذهنه عن الله تنبع من علاقاته مع والديه. وكذلك أول فكرة ترتسم في مخيلته عن الطاعة والسماح والاستقامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك الأسرة... كل هذه المسائل يجب أن تتم في الأعوام فقط بيدي استعداداً لضبط ما يدركه اكثر من أي وقت آخر.
« لا يملك الوالدان الفرصة المناسبة لتربية نفس الطفل وتنقية أفكاره فحسب ، بل عليهما أن يعرّفا الله لأطفالهما بأحسن صورة وقوة ، وبكل إرادة ومتابعة. وهما في هذا السبيل يستطيعان أن يستعينا بمصدرين فياضين ، أولهما الدين والثاني الطبيعة » (1).

____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2|625.
( 2 ) ما وفرزندان ما ص 8.


 

( 143 )


أثر الإيمان في الطفل :

إن الطفل الذي يتربى على أساس الإيمان منذ البداية يمتاز بارادة قوية وروح متطامنة ، تظهر عليه أمارات الشهامة والنبل منذ الصغر ، وتطفح كلماته وعباراته بحقائق ناصعة وصريحة.
وكمثل على ذلك نأخذ الصديق يوسف ، فقد كان ابن النبي يعقوب. هذا الطفل المحبوب تلقى درس الإيمان بالله من أبيه العظيم ، ونشأ طفلاً مؤمناً في حجر يعقوب... لقد نقم إخوته الكبار منه وصمّموا على إيذائه ، فأخذوا الطفل معهم الى الصحراء وبعد أساليب مؤلمة ووحشية فكروا في قتله ، ثم انصرفوا عن هذه الفكرة الى القائه في البئر... وكانت النتيجة أن بيع الطفل الى قافلة مصرية ، وبصدد معرفة عمره عندما ألقي في البئر يقول أبو حمزة : « قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام : ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب ٌ فقال : ابن تسع سنين » (1).
ماذا يتوقع من طفل لا يتجاوز عمره التسع سنوات في مثل هذه الظروف الحرجة والمؤلمة ؟ أليس الجواب هو الجزع والاضطراب ؟ ! ! في حين أن قوة الإيمان كانت قد منحت يوسف حينذاك مقدرة عجيبة وتطامناً فائقاً ، ففي الحديث : « لما أخرج يوسف من الجب واشتري قال لهم قائل : استوصوا بهذا الغريب خيراً. فقال لهم يوسف : من كان مع الله فليس في غربة » (2).
ونظير هذا نجده في قصة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله مع مرضعته حليمة السعدية. تقول حليمة : لما بلغ محمد ( ص ) الثالثة من عمره قال لي :
ـ أماه ، أين يذهب إخوتي نهار كل يوم ؟
فأجبته : يخرجون الى الصحراء لرعي الأغنام.
قال : لماذا لا يصحبوني معهم ؟
فقلت له : هل ترغب في الذهاب معهم ؟
____________
( 1 ) تفسير البرهان ص 495.
( 2 ) مجموعة ورام ج1|33.


 

( 144 )


قال : نعم.
فلما أصبح دهنّته وكحّلته وعلّقت في عنقه خيطاً فيه جزَع يمانية ، فنزعها ثم قال لي : « مهلاً يا أماه ، فإن معي من يحفظني » (1).
الإيمان بالله هو الذي يجعل الطفل في الثالثة حراً وقوي الإرادة بهذه الصورة.

المبادرة الى تنمية الإيمان :

تشبه روح الطفل في تقبلها للتعاليم الدينية والاخلاقية الأرض الخصبة القابلة لاحتواء البذرة في بطانها. وعلى الوالدين أن يبادرا إلى زرع بذور الإيمان والفضائل في نفس الطفل وأن لا يفرّطا بشيء من الفرصة السانحة لهما. من الضروري أن يبكر المربي في تنشئة الطفل نشأة دينية صالحة.
« عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : بادِروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة ».
إن تزكية النفس والاهتمام بالجوانب المعنوية من الواجبات اليومية لجميع الأفراد. ومن اللازم ـ في سبيل الوصول الى الكمال الانساني اللائق به ـ أن يهتم كل فرد منا بالجوانب الروحية الى جانب النشاطات المادية واشباع الغرائز ، ويفكر كل يوم في احراز التقدم المعنوي والكمال الروحي.
وقد جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد : « للمؤمن ثلاث ساعات : فَساعةٌ يناجي فيها ربه ، وساعة يَرمُّ معاشه ، وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذتها فيما يحلّ ويجمل » (3) .
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|92.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|47. والمرجئة طائفة ضالة تخالف الرأي الإسلامي الصحيح في القضاء والقدر القائم على : ( لا جبر ولا تفويض ). وكأن الحديث يشير الى ضرورة ملء افكار الطفل بالعقائد الصحيحة ليتحصن بها ضد التيارات المضلة اتي تستغل الفراغ العقائدي في أذهان الناشئة.
( 3 ) نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 1261.


 

( 145 )


أساس تقدم الإنسان :

إن السعي وراء الطعام وجلب اللذائذ خاصة مشتركة بين الانسان والبهائم ، أما ما يكون مائزاً للانسان ، وأساساً لتقدمه فهو الجوانب الروحية التي يمكنه إحرازها ، والكمالات العقلية والعاطفية التي يستطيع بلوغها.
قال أبو عبدالله عليه السلام : « إقصر نفسك عما يضرها من قبل أن تفارقك ، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك ، فإن نفسك رهينة بعملك » (1).

محاسبة النفس :

كما أن حفظ الصحة يحتاج الى النشاط الإقتصادي المستمر والرقابة الصحية ، كذلك الحفظ على سلامة الروح يحتاج الى الجهد المتواصل. فمن يرغب في تكامل نفسه ويهتم بصفاء باطنه ، عليه أن يراقب أقواله وأفعاله مراقبة دقيقة ، ولا يحوم حول الذنب والاجرام ، ولا يعود لسانه على الكلمات البذيئة. عليه أن يحاسب نفسه كل يوم على ما صدر منه من حسنات وسيئات فيستمد العون من الله تعالى في المزيد من الحسنات ، والإقلال من السيئات.
« عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : ليس منا من لم يحاسب نفسه في يوم » (2).
إن المقر الأصيل للإيمان عبارة عن أعماق قلوب الناس وزوايا أرواحهم. والشخص المؤمن هو الذي يؤمن في بطانه بخالق الكون ، ويعتقد بتعاليم الأنبياء ، ولكن بالنظر إلى التماثل الموجود بين الروح والجسد ، وتأثير كل منها في الآخر فمن الضروري أن تظهر آثار ذلك الإيمان على جوارحه. ومن هنا نجد الروايات الإسلامية تعرف الإيمان كمجموعة من الإعتقادات القلبية ، والإقرار باللسان ، وظهور أثر ذلك على الجوارح أيضاً.
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|455.
( 2 ) المصدر السابق ج2|453.


 

( 146 )


وكما أن قيام أستاذ بعلمية التدريس ، ومزاولة جراح للعمليات الجراحية يقوّي الجذور العلمية في باطن كل منهما ، كذلك العبادات الجسدية والأذكار فإنها مدعاة لتركز الإيمان واستحكامه (1).
وبهذا الصدد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ الإيمان ليبدو لمعة بيضاء ، فإذا عمل العبد الصالحات نما وزاد حتى يبيضّ القلب كله » (2).
إن ما لا شك فيه هو أن الاستمرار في العبادة والحصول على حالات من الخضوع والخشوع والاستغفار بين يدي الله تعالى أعظم العوامل لترسيخ اسس الإيمان وإضاءة القلب وبعث النور فيه.

المناجاة في السحر :

يتلخص جانب من تعاليم الإسلام في منهاجٍ التكامل النفسي في العبادات والمناجاة مع الله. هناك بعض العبادات والأذكار في صورة صلوات واجبة ومندوبة مشرّعة بكيفيات خاصة ، وهناك عبادات غير مقيدة بكفيفيات معينة بل تندرج ضمن إطار واسع هو ذكر الله والدعاء. لا بدن الجهر في بعض العبادات تحقيقاً لبعض المصالح ، وفي قبال ذلك يرد التأكيد على التخفّي في عبادات أخرى. قال الإمام الصادق عليه السلام : « قال رسول الله ( ص ) : أعظم العبادات أجراً أخفاها (3) ».
فعندما يسدل الليل أستاره ويغط الناس في النوم ، ويسود الكون ظلام وسكون ، يقوم المؤمنون للتضرع بين يدي الله تعالى... « تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدّعون
____________
( 1 ) وجد علماء النفس من التجارب العديدة التي أجريت على عملية التعلم أن هذه العملية تسير وفقاً لقوانين معينة. وأول من وضع هذه القوانين في صيغة شاملة هو العالم الشهير ( ثورندايك ). وأهم تلك القوانين ثلاثة : أحدها قانون التدريب. ويعني منه أن كلّ تجربة تمر بذهن الإنسان أو مسألة علمية تطرق باله تزداد قوة باستعمالها ، وتضعف باهمالها. ومن هنا قيل : ( الدرس حرف والتكرار الف ).
( 2 ) المحجة البيضاء في أحياء الاحياء للفيض الكاشاني ج1|277.
( 3 ) قرب الاسناد ص 64.


 

( 147 )


ربّهم » (1) . العشق الإلهي يلتهب في أعماقهم ويُضاء سراج الإيمان في قلوبهم ، فينهضون بشوق ورغبة شديدين ، ويتوضأون ويتجهون نحو الله تعالى بكل خضوع وخشوع ، يستغفرون ربهم ، وينيبون اليه ، يذرفون الدموع ، ويفقدون الوعي ، يتذكرون زلاتهم ، ويعتذرون إلى الله تعالى ، ويعاهدونه على عدم العود اليها ، ويستمدون العون منه في جميع أمورهم.

الآثار النفسية للمناجاة :

هذه الحالة النفسية التي طرأ على الرجال الإلهيين في اعماق الليل حقيقة يعجز العلم عن وصفها ، ولا يستطيع العقل إدراكها... أما آثارها العظيمة فتبدو من جميع ذرات وجود الرجل... فتقيم ثورة في روحه وجسده ، وتسيطر على جميع قواه ، وتبعث الطمأنينة الى قلبه ، وتمنحه الشهامة والشجاعة ، تكبح غرائزه الثائرة ، وتمنعه عن الاجرام والتلوث بالذنب تمنحه روح التضحية والإيثار.. وبصورة موجزة تجعله إنساناً كاملاً وتوقط فيه جميع الفضائل الحميدة والسجايا الخلقية... هذه الحالة المعنوية اللامعة ، وهي حقيقة التقوى التي تهدف اليها تعاليم الإسلام القيمة.
« عن أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عز وجل : ( اتقوا الله حق تقاته ) قال : يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر » (2) فالتقى الحقيقي هو الذي يطيع أوامر الله تعالى دائماً ولا يعصيه ، ويذكر خالقه على كل حال.

« لقد اشربت الإنسانية بالوحي الديني اكثر مما أشربت بالتفكير الفلسفي... فقد كان الدين هو أساس الأسرة والحياة الاجتماعية في المدنية القديمة. فما زالت الكتدرائيات وبقايا المعابد التي أنشأها أسلافنا تغطي ارض أوروبا.. بالطبع ، ان معناها قلما يكون مفهوماً في الوقت الحاضر.. ومهما يكن من أمر فإن الاحساس الديني لا يزال حتى اليوم نشاطاً لا مفر منه بالنسبة لشعور عدد من الأفراد ، كما أنه يظهر نفسه بين الأشخاص المثقفين ثقافة عالية.

____________
( 1 ) سورة السجدة : 16.
( 2 ) معاني الأخبار ص 240.


 

( 148 )

 

« وللنشاط الديني جوانب مختلفة مثل النشاط الأدبي.. وهو يتكون في أبسط حالاته من تطلع مبهم نحو قوة تفوق الأشكال المادية والعقلية لعالمنا.. إنه نوع من الصلاة غير المنطوقة ، إنه بحث عن جمال اكثر نقاء من الجمال الفني أو العلمي ، وهو مماثل لنشاط الجمال ».
« ما زال الجمال الذي ينشده المتصوفون اكثر غني واتساعاً من المثل الأعلى الذي ينشده الفنان.. إنه لا شكل له ، ولا يمكن التعبير عنه بأية لغة ، ويختفي بداخل اشياء العالم المنظور ، وقلما يظهر نفسه.
ويتطلب السمو بالعقل نحو الذات العلية التي هي مصدر جميع الأشياء ، نحو قوة ، بل مركز القوى ، نحو الله ـ جل جلاله ـ ففي كل حقبة من حقب التاريخ وفي كل شعب من الشعوب ، أشخاص يتمتعون بهذا الأحساس العجيب في درجة عالية.. » (1).


العبادات التمرينية :

لضمان التربية الدينية للأطفال يجب أن يكون هناك تماثل بين أرواحهم وأجسامهم من الناحية الإيمانية. ولهذا فإن الإسلام أوجب على الوالدين من جهة أن يعرّفا الطفل بخالقه ويعلماه الدروس الدينية المتقنة ، ومن جهة أخرى أمرهما بتدريب الطفل على العبادات والصلاة بالخصوص.
1 ـ عن معاوية بن وهب قال : « سألت أبا عبد الله عليه السلام : في كم يؤخذ الصبي بالصلاة ٌ فقال : بين سبع سنين وست سنين » (2).
2 ـ عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : « مُروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً » (3).
3 ـ يذكر الإمام الباقر عليه السلام في حديث طويل واجبات الوالدين في إلهام
____________
( 1 ) الإنسان ذلك المجهول ، تعريب : عادل شفيق ص 120.
( 2 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج2|3.
( 3 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج.


 

( 149 )


أطفالهما بالقضايا الدينية حسب التدرج في السن ، فيجب عليهما أن يعلما الطفل كلمة التوحيد لثلاث سنين ، وفي الرابعة يعلماه الشهادة بالرسالة ، وفي الخامسة بوجهاه الى القبلة ويأمراه بالسجود... « فإذا تمّ له ست سنين عُلّم الركوع والسجود حتى يتم له سبع سنين. فإذا تمّ له سبع سنين قيل له : اغسل وجهك وكفيك ، فإذا غسلهما قيل له : صل » (1).

دعاء الطفل :

إن العبادات التمرينية للطفل ، ودعاءه ووقوفه بين يدي الله تعالى ، يترك أثراً عظيماً في نفسه. قد لا يفهم الطفل العبارات التي يؤديها في اثناء الصلاة ، ولكنه يفهم معنى التوجه نحو الله ، ومناجاته ، والإستمداد منه ، بكل جلاء. إنه ينشأ مطمئن البال مستنداً الى رحمة اگ الواسعة وقدرته العظيمة. هذا الإطمئنان والاستناد ، والإلتجاء نحو القدرة اللامتناهية اعظم ثروة للسعادة في جميع أدوار الحياة ، فهو يستطيع في الظروف الحرجة ان يستفيد من تلك القدرة العظيمة ويطمئن إليها ، ويبقى محتفظاً على توازنه واعتداله في خضم المصاعب والمشاكل... « الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئنُ القلوب » (1).

« لتحصيل الكمال النفسي لا يلزم أن لا يكون الإنسان عالماً أو ذكياً ، بل يكفي أن يكون مختاراً لذلك... يكفي أن يختلي كل فرد منا كل يوم صباحاً ومساءاً لبضع دقائق ، بعيداً عن الضوضاء ويجعل ضميره حكماً في تصرفاته فيعرف أخطاءه ويخطط لسلوكه. وفي هذه الفرصة يجب أن يتوجه الى الدعاء إن كان يعرف ذلك فللدعاء أثره حتى ولو لم يكن هذا الأثر ذلك الذي نريده. ولهذا يجب تعويد الأطفال منذ البداية على أن يقضوا فترات قصيرة في سكوت وهدوء خاص للدعاء ومن توفق لذلك مرة واحدة يستطيع أن يصل الى العالم الهادىء الذي يفوق الصور والكلمات المألوفة متى شاء.. عند ذاك يزول الظلام

____________
( 1 ) مكارم الاخلاق للطبرسي ص 115.
( 2 ) سورة الرعد : 28.


 

( 150 )

 

تدريجياً ، ويظهر إشعاع خلاق يهدي صاحبه إلى الطريق الأمثل » (1).


مثال الإنسان الكامل :

إن أعلى مثال للإنسان الكامل ، والفرد المؤمن من نجده في مولى الموحدين علي بن ابي طالب عليه السلام ، ذلك الرجل العظيم الذي يصادف اليوم ذكرى استشهاده ، تلك الشخصية الفذة التي عجز الدهر أن يلد مثله ، ذلك الإنسان الذي لم يستطع تعاقب الأعوام والقرون أن يمحو حرفاً واحداً من اسمه الكبير ، أو يسلّمه الى عالم النسيان.
علي بن أبي طالب مع ألمع النجوم الساطعة في سماء الإنسانية. إن حياته تكشف لنا عن جانب عظيم من التقوى والفضيلة ، والعدالة والشجاعة والتضحية والجود ، والثابت والاستقامة ، وبصورة موجزة جميع الفضائل والسجايا الحميدة. لقد سلك علي عليه السلام جميع مدارج الكمال ونال الشرف العظيم في هذا المجال.
لقد تربّى علي عليه السلام في حجر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله. وخضع منذ الصغر للرقابة التربوية الدقيقة المليئة بالدفء والحنان والعف من قبل النبي العظيم. وقد منحه جميع ما يحتاجه طفل لائق في تربيته وتنمية روحه وجسمه... فنشأ عليه السلام عظيماً من كل جانب.
كان عمر علي عليه السلام عشر سنوات عندما بعث الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله بالدعوة الإسلامية. فعرض الرسول الإسلام على الصبي الفطن العاقل ودعاه لاعتناق ذلك الدين السماوي. فآمن علي عليه السلام وصار هو وخديجة زوجة النبي ( ص ) أول مسلمين اتبعا محمدا واعتنقا دينه وقبلا دعوته... وتكونت نواة الدعوة الإسلامية من هذا الثالثوث المقدس.
في المراحل الأولى من الدعوة لم يكن ليطرق الأسماع نبأ الدين الجديد فكان الجميع يجلهون عن دين الله الذي أتى به محمد ( ص ) كل شيء.. إلا أنهم كانوا يرون شاباً يقف للصلاة بين يدي الله ، ويقف الى يمينه صبي ، ومن خلفهما امرأة فإذا ركع الشاب ركعا
____________
( 1 ) راه ورسم زندگى ص 98.


 

( 151 )


معه ، وإذا سجد سجدا وفي بعض المرات رأى أحد كبارالعرب هذا المنظر وتعجب منه فقال للعباس بن عبد المطلب الذي كان حاضراً هناك : أمر عظيم !
فقال العباس : أمر عظيم ! أتدري من هذا الشاب ٌ هذا محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام ؟ هذا علي بن أبي طالب ـ إبن اخي ـ أتدري من هذا المرأة ٌ هذا خديجة بنت خويلد. إن إبن أخي هذا حدثني أن ربه رب السماوات والأرض ، أمره بهذا الدين الذي هو عليه. ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (1).
إن دافع علي عليه السلام لهذه المؤاساة هو الإيمان بالله. لقد سيطر الحبّ الإلهي على جميع جوانحه وجوارحه ، فيؤمن بمحمد ( ص ) ويعتنق الدين الذي بشر به ، ويدافع عن ذلك الدين دفاعاً مستميتاً... في ذلك الظرف الحاسم والجو الخطر تتجه الأخطار والمشاكل المتوالية نحو النبي وتهدده فينبري علي للدفاع عنه مستخدماً جميع قواه وطاقاته. وكلما كثر المسلمون وزاد عددهم ، وأقبلوا على اعتناق دين الله زرافات ووحداناً ، ازداد حنق المشركين وعداءهم ، ومضوا في التصميم لدحر الدين الجديد وقتل النبي المبشر به أكثر. فيضطر الرسول الأعظم ( ص ) للهجرة الى المدينة ، فيهاجر علي أيضاً ، يلازم النبي في مشاكله قبل الهجرة وفي غزواته بعدها ، مدافعاً عن دين الله ، ومنافحاً عن رسوله العظيم... ثم هو يقول : « والله ما زلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً » (1).

شجاعة علي :

لقد كانت تضحيات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تسير جنباً الى جنب مع شجاعته وشهامته ، وتبرهن على ثباته واستقامته حتى قال : « ما ضعفتُ ولا جبنتُ » (3).
إن من ينشأ على الإيمان والإستقامة ، ويستند في جميع أموره الى القدرة الإلهية اللامتناهية لا يخاف أبداً ولا يجبن في موقف مهما كان حرجاً.
____________
( 1 ) الإرشاد للشيخ المفيد ص 13.
( 2 ) المصدر السابق ص 136.
( 3 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 102.


 

( 152 )


لقد شهدت أيام خلافة الإمام عليه السلام في الكوفة موجة من الإضطربات والفتن ، وفي بعض الأحيان كان يصمم الحزب المجرم المتمثل في ( الخوارج ) في وضع خطة لاغتيال الإمام ، ومع ذلك فقد كان يخرج في أواخر الليل الى نقطة هادئة من المدينة ويناجي ربه. وكان يخرج ( قنبر ) الخادم الوفي وراءه حاملاً سيفه مختفياً عن أنظار الإمام. وفي إحدى الليالي نظر علي عليه السلام الى خلفه فرأى قنبر...
فقال له : يا قنبر ما لكَ ؟
قال : جئت لأمشي خلفك ، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.
فقال له الإمام : إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عز وجل ، فارجع. فرجع (1).

الإيمان والنفس المطمئنة :

إن علياً عليه السلام رجل الله ، ومعتمد على ذات الله عز وجل. ومن كان معتمداً على الله كان ذا نفس مطمئنة وروح هادئة ، لا طريق للاضطراب والقلق الى ضميره. إنه يختلي بربه كل ليلة ، في مكة والمدينة ، في الكوفة والبصرة ، في المدينة والصحراء... الأمر سواء عنده. إنه يخصص ـ أينما كان ـ ساعة من أواخر الليل لمناجاة ربه ، والتكلم معه بخشية وتضرع ، وبكاء وخشوع... يتكلم بكلمات منبعثة من أعماق القلب ، ويسأل الله العون والمدد لجعل قلبه النير اكثر اشعاعاً ، وضميره الطاهر أكثر صفاءً.
لقد كانت الصورة الباطنية والتحولات الروحية التي تطرأ على الإمام علي عليه السلام في مناجاته مع ربه على درجة من الدقة والعمق بحيث يعجز العقل عن إدراكها ، ويقصر اللسان عن وصفها. وكان يصادف أن يطلع عليه أحد فيرى ما هو فيه من الفناء في ذات الله والتوجه نحوه فيصف بعض ذلك بعبارات تقصر عن بيان الحقيقة ، فيقول أحدهم :
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج9|510.


 

( 153 )


« إذ نحن بأمير المؤمنين في بقية الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله » (1).
ويقول آخر : « ... فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة فحركته فلم يتحرك. فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات والله علي بن أبي طالب » (2).

الحكومة واقامة الحق :

إن الطاقة العظيمة التي دفعت علياً عليه السلام منذ الصغر نحو أعلى مدارج الكمال الانساني هي إيمانه بالله ، فقد كان تحقيق مرضاة الله والإنقياد لأوامره الهدف المائل نصب عينيه ، وكان يوجه حركاته وسكناته طبقاً لذلك الهدف المقدس. لقد خضعت جميع مشاعر الإمام أمير المؤمنين ( ع ) لإطار الإيمان... وعليه فقد كان يقيم وزناً للمال والجاه ، والعاطفة ، والحياة ، ولكل شيء في حدود مرضاة الله.
وعندما جلس على كرسي الخلافة وأصبح الحاكم الأعلى للأمة لم يكن يهدف الى المقام والجاه أو ضمان الغذاء واللباس والمسكين والمركب الفاخر لنفسه ، بل كان هدفه الأول والأخير تحقيق مرضاة الله وإحقاق الحق وإقامة العدالة بين الناس.
« قال عبد الله بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة له : فقال عليه السلام : والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً او أدفع باطلاً » (3).

133

التألم من الظلم :

لقد كان علي عليه السلام يبدي ثباتاً منقطع النظير أمام الحوادث والمشاكل الجمة
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج.
( 2 ) نفس المصدر ج9|510.
( 3 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 102.


 

( 154 )


التي كانت تواجه ، وكان يظهر من الجلد والصبر تجاه الآلام ما يفوق الوصف ، لكنه كان يتألم من تجاوز الغاصبين واعتداء المعتدين ، ويتأثر كثيراً لأنين المظلومين. فعندما بلغه نبأ غارة جنود معاوية على الأنبار ، وقتل والي الإمام عليها ( حسان بن حسان البكري ) ، ونهب حلي النساء ، هتك أعراضهن سواء منهن المسلمات والمعاهدات... تألم لذلك كثيراً وخطب في قومه خطبة عظيمة ابتدأها بذكر وجوب الجهاد وفوائده ، وذم التقاعس والتماهل إلى أن قال : « فلو أن امراءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديراً » (1).

وصية على فراش الموت :

لقد اضعفت ضربة السيف المسموم الإمام عليه السلام وطرحته على فراش الموت ، وأفقدت عينيه بريقهما ، وخفت صوت.... بينما كانت روحه الطاهرة وضميره النيّر في أتم الأشعاع.. يتكلم ، يوصي أولاده ، كل جملة من وصاياه درس عظيم للمجتمع البشري. ومن جملة ما أوصى به أن أكد على حماية الضعيف ومقاومة الظالم فقال : « وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً » (2).
ومن هنا نفذ حب علي عليه السلام إلى قلوب الأصدقاء والأعداء. وها هي حياته صفحة مشرقة في غرة الدهر وجبين الإنسانية... تحتذي به في كل صغيرة وكبيرة أملاً في النجاح والتقدم.
____________
( 1 ) نفس المصدر ص 86.
( 2 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 968.


 

( 155 )

المحاضرة الثانية والعشرون

عقدة الحقارة

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( ... ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ) (1).
تهدف المناهج الدينية والعلمية في تربية الطفل الى الإهتمام بجسده وروحه اهتماماً بالغاً. وكما أن جسد الطفل وروحه مرتبطان ارتباطاً وثيقاً فإن الصلة وثيقة أيضاً بين تربيته البدنية والروحية. وكما أن الحالات النفسية تؤثر في الجسم ، والجسد يؤثر في الروح ، فإن العناية بصحة الجسم أو إهمالها تترك أثراً مماثلاً على الوضع الروحي والعكس بالعكس. وكما أن جسد الصبي يصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في المواد الغذائية أو الإفراط فيها كذلك روحه فإنها تصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في الحنان والعناية أو الإفراط في ذلك.
يجب عن الآباء والامهات الذين ياخذون على عاتقهم تربية أطفالهم أن يهتموا في جميع مراحل حياة الطفل الى المصالح الجسمية والروحية جنباً الى جنب ، ويحاولوا إرضاء الغرائز التي تتعلق بها حسب منهج مستقيم.

الإحساس بالحقارة :

الإحساس بالحقارة أحد الحالات النفسية الشاذة التي قد تصيب الإنسان منذ الأدوار الأولى من حياته. فإن اشتدت هذه الحالة الروحية وأوغلت في الضمير الباطن.
____________
( 1 ) سورة الحجرات : 11.


 

( 156 )


ظهرت بصورة عقدة نفسية ربما جرت وراءها سلسلة من الآثار الوخيمة والنتائج المؤلمة والمآسي الكثيرة.

« عندما يستمر الصراع الروحي بين شخص ما وعقدة معينة فإن الاعصاب تفقد قدرتها بالتدريج ويصاب الإنسان بمرض خاص.
من الواضح أن هذا الضعف الحاصل في الاعصاب نتيجة للالتهابات والإثارات الروحية ، وليس وليد الضعف الصحي. أي أنه رد فعل روحي قبل أن يكون رد فعل جسمي. ولذلك فإنه لا يعالج بالتنزه واستعمال الأدوية والعقاقير... فكل علاج لا يعدو أن يكون موقتاً ، إلا أن يحدث تغيير جذري في أسلوب تفكير الشخص ».
« في خضم هذا الوضع ، يبلغ الصراع الروحي في الإنسان درجة لا تستطيع الأعصاب معها أن تقاوم ، فهي قد استنفدت قدرتها على المقاومة ، وتكون النتيجة أن يصاب الإنسان بالصرع والرعشة العصبية ».
« إن العوارض الظاهرية لهذه الحالة المضطربة عبارة عن انقباض العضلات والأرق والضعف المفرط... وإذا حاولنا البحث عن رابطة العلية والمعلولية لهذه الظواهر فإن جذورها توجد في حوادث دور الطفولة أوالحوادث القريبة الوقوع. لا شك في أن اكتشاف علة ذلك أمر عسير جداً لأنه يقع بواسطة تمحيص القوى الباطنية للمريض فقط. وأحياناً نجد جذوره في الإستياء من تحقير سابق أو محالة مجابة ذلك. وفي أحيان أخر توجد جذوره في الخوف من انهيار الشخصية وفقدان السمعة » (1)


إنهيار الشخصية :

إن الحوادث المؤلمة والخواطر المرة التي تحطم شخصية الفرد ، وتوجه ضربة قاصمة اإلى أنانيته وغروره الذاتي تؤدي الى إحساسه بالحقارة. قد يولد الاحساس بالحقارة على
____________
( 1 ) عقدة حقارت ص 31.


 

( 157 )


أثر الاهانة أوالضرب المبرح ولكنه يزول بعد عدة ساعات أو بضعة أيام... في حين توجد عوامل ثابتة ورصينة تتسبب أحياناً في إيجاد الشعور بالحقارة فينفذ هذا الشعور الى الأعماق ، ثم يتحول إلى عقدة الحقارة ويلازم المريض بصورة مرض مزمن :
هناك عوامل وأسباب كثيرة تتسبب في إيجاد هذه العقدة النفسية. من ذلك العاهات العضوية ، والنقائص التربوية.

« يرى ( آدلر ) أن عقدة الحقارة توجد في الغالب عند ثلاث طوائف من الأشخاص :
1 ـ ذووالعاهات العضوية ، أي الأفراد المصابون ينقص عضوي منذ الطفولة. هذا النقص يتسبب في أن يرى الطفل نفسه دون مستوى الآخرين دائما ، وهذا ما يلاحظ بوضوع عند الطفل المصاب بشلل ، فإنه يحرم من اللعب مع مجموعة الأطفال ».
« 2 ـ الأفراد الذين يخضعون منذ الصغر الى رقابة مشددة من قبل الوالدين ، ويمكن تقسيم هذه الطائفة بدورها الى صنفين :
أ ـ الأطفال المدللون ـ وهم الذين يقابلون بالحنان المفرط والعناية البالغة لأنفرادهم واستئثارهم بمحبة الوالدين.
ب ـ الأطفال المكبوتون. وهم الذين يلاقون ضغطاً شديداً ، وكلما حاولوا إثبات وجودهم وجدوا الكبح والقمع من الكبار الذين يضطرونهم للسكوت والتزام الصمت ».
« 3 ـ الأطفال المهملون ، فالاطفال الذين كان نصيبهم من العناية قليلا منذ الصغر يشعرون بأنهم أفراد تافهون في المجتمع ، عديمو الفائدة » (1).


العاهات العضوية :

إن من أعظم النعم الإلهية سلامة ولادة الطفل. فالطفل الذي يتولد سالماً
____________
( 1 ) روح بشر ص 240.


 

( 158 )


طبيعياً ، ذا روح مستوية وهندام منسجم يكون قد نال 50% من سعادته حين ولادته. وإنسان كهذا يملك من ناحية البناء الطبيعي ، واعتدال اخلقة ، روحاً هادئة وفكراً مطمئناً. أما الطفل الذي يتولد أعمى ، أو أصم ، أو أشلّ ، وبصورة عامة يكون ذا عاهة عضوية عند ولادته ، أو تصادفه حوادث تفقد بعض أعضائه أو تقف في سبيل نموه الطبيعي ، فإنه يكون شقياً ومتذمراً ، يحس بالحقارة والضعفة في نفسه ، وأخيراً يصاب بعقدة الحقارة. وبعبارة أخرى فإنه كما تتسبب العيوب والعاهات العضوية حين الولادة في نشوء عقدة الحقارة عند الإنسان ، كذلك العمى والصمم والبكم الحاصل للإنسان بعد أعوام من البصر والسمع والتكلم.
قال علي عليه السلام : « اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي ، وأوّل وديعة ترجعها من ودائع نعمك عندي » (1) ويعني هذا أن يبقى سالماً عن العوارض والعاهات حتى الموت .
وللإمام الحسين عليه السلام من دعائه في عرفات : « ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني » (2) أي تحفظني من العمى والصمم والعاهات العضوية الى آخر يوم من عمري.

« هناك أطفال يعيشون في ألم مستمر لضعف أو نقص في أجسامهم. هذا النقص يشمل مختلف الحالات كظهور خال أو بعقة صغيرة في وجه فتاة حسناء ، أو تقوس الساقين ، أو انحناء العمود الفقري وغير ذلك ».
« كل هذه النواقص وما يشبهها يمكن أن تؤذي الإنسان طيلة عمره وتجعله تحت ضغط ( عقدة الحقارة ) وقد تؤدي به الى الجنون والانتحار ».
« لا مناص للطفل الضعيف أو المصاب بنقص في بدنه من تحمل سخرية أقرانه وتحقيرهم إياه ، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه للنقص الموجود فيه إلا بعدم الاعتناء بسخريتهم. ولكن هذا بحد

____________
( 1 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 670.
( 2 ) بلاغة الحسين ـ دعاؤه في عرفات.


 

( 159 )

 

ذاته مدعاة للذلة له ، وكبت لغرائزه وجرح لمشاعره ، ويسبب الشقاء والقلق له فيما بعد. لأن مشاعره المتألمة التي لم تجبر بشيء وغرائزه المكبوتة لا بد أن تؤدي في النتيجة الى القلق واضطراب الفكر ».
« يشير التحليل الذي أجري على استاذ جامعي الى أن عقدة الحقارة التي كان يكابدها قد نشأت منذ دراسته الابتدائية ، وذلك أنه كان أطول التلاميذ قامة في الصف وكان يلوح دائماً ـ عند اللعب والاستراحة ـ لأعين المعلمين قبل غيره ، ولذلك فإنه كان يخرج من الصف عند وقوع حادثة ليعتبر به الآخرون. وبالرغم من أن ذلك كان يحدث في احيان قليلة جداً فإنه ظل يحس بأنه قد ظلم كثيراً ، وليس إلا لطول قامته فحسب » (1).


التحقير والسخرية :

يتألم الأطفال او الكهول الذين يكابدون من نقص عضو أو عيب في بناء أجسامهم من جهتين : الأولى ـ النقص والحرمان الذي يلاحظونه في أنفسهم والثانية ـ استهزاء الآخرين بهم وسخريتهم منهم.
فمثلا يرى الابكم أن الآخرين يتكلمون ويلتذون من محاوراتهم فيما بينهم لكنه بسبب العيب الموجود في لسانه عاجز عن النطق ، فشعوره بهذا العجز يجعله تحت ضغط روحي فيحس بالضعة والحقارة ، ويتألم من حرمانه هذا وتألمه الآخر ناتج من تحقير الأفراد السالمين إياه واستهزاءهم منه... ذاكرين عجزه ذاك بصورة إهانة وتحقير. ولعل هذا الألم الناشيء من استهزاء الناس منه اكثر من أمله الناج من شعوره بالنقص والحرمان.
عاش الجاحظ (2) في القرن الثالث الهجري ، وله كتب وآثار كثيرة. ولقد كان قبيح المنظر جداً ، مقرباً عند الخلفاء العباسيين لعدواته لعلي بن أبي طالب عليه السلام. وقد قال يوماً لتلاميذه : إنه لم يخجلني طيلة عمري أحد كما فعلت امرأة ثرية ، فقد لقيت
____________
( 1 ) عقدة حقارت ص 12.
( 2 ) سمي بذلك لجحظ في عينيه.


 

( 160 )


امرأة في بعض الطرق وسألتني في أن أصحبها ففعلت. حتى أتت بي الى محل صائغ للتماثيل ، وقالت له مشيرة إلي : كهذا الشيطان... فبقيت حائراً من أمرها ، ولما انصرفت سألت الصائغ عن القصة ، فقال : لقد استعملتني هذه المرأة لأصوغ لها تمثال شيطان. فقلت لها : إني لم أر الشيطان كي أصوغ تمثاله ، فطلبت مني أن انتظر حتى تجيء لي بتمثاله... واليوم جاءت بك إليّ وأمرتني أن أصوغه طبق منظرك » (1).

القاضي الدميم :

ونموذج آخر ي السخرية بالاشخاص المصابين ببعض العيوب الظاهرية نجده في قصة القاضي المصري رشيد بن الزبير. فقد كان من القضاة الماهرين والكتّاب العظام في عصره ، وكان ذا خبرة كافية في علوم الفقه والمنطق والنحو والتأريخ... عاش في القرن السادس الهجري. لقد كان ذا قامة قصيرة ، أسود اللون ، ذا شفتين غليظتين ، وأنف كبير ، ومنظر قبيح جداً. كان يعيش في شبابه في القاهرة ، ويسكن مع عبد العزيز الأدريسي وسليمان الديلمي في بيت واحد.
فخرج يوماً وتأخر في العودة الى منزله ، وعندما عاد سأله زملاؤه عن سبب تأخره فأبى يجيبهم حتى الحوا عليه فقال : كنت أعبر من المحل الفلاني فصادفت امرأة ذكية جميلة ، كانت تنظر إلى بعين الرأفة والعطف ، فذهلت من شدة الفرح ، وبت أرقب سيرها فأشارب إليّ بطرف عينها فتبعتها في السكك الواحدة بعد الاخرى ، حتى انتهينا الى دار ، ففتحت الباب ودخلت ، وأشارت إلي بالدخول دخلت ، فكشفت النقاب عن وجهها وإذا به قطعة من القمر... لم تمض فترة طويلة حتى صفقت بيدها ونادت باسم فتاة ، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت من الطابق العلوي ، فخاطبتها المرأة قائله : لو تبولت في فراشك هذه المرة فسأعطيك الى هذا القاضي ليأكلك ، فبلغ الخوف والهلع من الطفلة مبلغة وبلغ الارتباك والاضطراب مني مبلغه أيضاً. ثم إلتفتت إلي قائلة : لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه... فخرجت من الدار مطأطئاً برأسي خجلاً ، ولفرط ما أصابني من خجل وذهول ، ولشدة تأثري تهت الطريق الى البيت ، وبقيت أجوب الأزقة... ولهذا تأخرت في العودة » (2).
____________
( 1 ) تتمة المنتهى ص 370.
( 2 ) قاموس دهخدا الفارسي ص 1224.