درس الجلد والثبات :

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الطفل بين الوراثة والتربية القسم الثاني ص 201 ـ ص 220

الحياة ، ويعجز عن إيجاد مفرّ من الآلام التي تعتريه ، ولا يريد أن يتحمل عبء المسؤولية... وهكذا نخلص إلى أن الانتحار كالاجرام مظهر من مظاهر الشعور بالانانية وعبادة الذات » (1).


درس الجلد والثبات :

يجب أن يلقن الطفل منذ اليوم الأول درس الجلد والثبات ويعوّد على كيفية مجابهة مشاكل الحياة برحابة صدر. يجب أن يتربى شجاعاً وصلباً ، وعلى الوالدين أن يهتما بذلك أيما إهتمام ، فإن الإعجاب بالنفس لا ينسجم وقوة الإرادة بحال من الأحوال.
إن غريزة حب الأولاد حجاب يُسدل على العقل فيمنعه عن مشاهدة الحقائق ، فإذا انضم إلى ذلك الجهل والإهمال من قبل الوالدين في تطبيق الأساليب التربوية الصالحة ، أدى ذلك الى انحرافهما عن الصراط المستقيم الذي يجب عليهما أن يسلكاه في التربية ، فتجدهما يهملان الجوانب الدينية والعلمية المهمة ، ويفرطان في معاملة الطفل بالحب والحنان ، الأمر الذي يتضمن بين طياته آلاف المشاكل والصعوبات. وفي الحقيقة فإن هذا الإفراط في المحبة لا يعدو أن يكون عداءً في مظهر الحب.
إن تربية كهذه لا يرضى بها الدين ولا يوافق عليها العلم. إن الآباء والأمهات الذين يظلمون اولادهم بالافراط في المحبة تجاههم يتسببون في نشأتهم على الإعجاب بالنفس ، ولذلك فهم مسؤولون أمام الله في تعريض أطفالهم الى الانحراف والشفاء.
تذكروا دائماً حديث الإمام الباقر عليه السلام ، يحث يقول : « شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط ».
____________
( 1 ) چه ميدانيم ؟ جنايت ص 24.


 

( 202 )

 


 

( 203 )

 

المحاضرة الرابعة والعشرون

الاعتماد على النفس

قال الله تعالى في كتابه الحكيم : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهُم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، كلّ امرىء بما كسب رهين ) (1) .
يتضمن الإفراط في الحب من قبل الوالدين تجاه الطفل عوارض وخيمة له ، فإنه يؤدي الى شقائه وتعاسته طيلة أيام عمره. من هذه العوارض الوخيمة أن الطفل ينشأ معجباً بنفسه ومدللاً. وقد بحثنا عن مساوىء ذلك بالتفصيل في المحاضرة السابقة.
ومن عوارض الإفراط في المحبة تجاه الطفل أيضاً أنه ينشأ طفيلياً وعالة على غيره ، ولا يشعر بالاعتماد على النفس ، ولا ينزع الى الاستقلال. إن خطر هذه الصفة البذئية للأطفال إن لم يكن أكبر من خطر الإعجاب بالنفس ، فليس أقل منه.

الشعور بالمسؤولية :

إن الشعور بالمسؤولية والإعتماد على النفس أحد الأركان المهمة لسعادة الفرد والمجتمع. إن الإنتصارات العظيمة التي أحرزها الرجال الأفذاذ في العالم ، والترقيات العلمية والإجتماعية والاقتصادية التي حصلوا عليها ، مدينة الى وعي المسؤولية الفردية من قبلهم وما يستتبع ذلك من نشاط دائب وجهد متواصل.
____________
( 1 ) سورة الطور | 21.


 

( 204 )


إن الإنتصارات العلمية إنما تنال الأشخاص الذين يطمئنون الى أنفسهم بالمواصلة والسهر والجد والجهد. والطالب الذي لم يدرس جيداً ، ولم يجهد نفسه بالمقدار الكافي ، ثم يدخل قاعة الإمتحان معتمداً على الآخرين ، ومستنداً على مساعدة المصحّح ، وتسامح المراقب لا ينال المدارج العلمية الراقية.
وهكذا فالتقدم الإقتصادي يكون من حصة أولئك الذين يعتمدون على جهودهم فقط ، ولا يتوقعون المساعدة من أحد. إن من يفقد الإعتماد على النفس ويكون عالة على غيره ، ويرتزق من حصيلة غيره لا يستطيع أن ينال التقدم الإقتصادي مطلقاً.

« الاعتماد على النفس أساس كل تقدم وترقٍ. فإن اتصف اكثر أفراد الشعب بهذه الفضيلة كان ذلك الشعب قوياً وعظيماً ، وكان السرّ في إرتقائه وتقدمه وقدرته هو تلك الخصلة فقط. لأنّه في هذه الصورة يكون عزم الإنسان قوياً ، وفي صورة الإعتماد على الآخرين ضعيفاً. إن المساعدات التي تصل الفرد من الخارج تضعف فيه روح المثابرة والعمل غالباً ، لأن الإنسان في هذه الالة لا يرى داعياً للجد والعمل خصوصاً عندما تتجاوز المساعدات الخارجية عن الحد الضروري... حينئذٍ تفقد الاعصاب قوتها ، وتموت روح العزيمة والمثابرة في نفسه. إن أحسن الشرائع والقوانين ، هي تلك التي تجعل الانسان مختاراً في حياته ، وتمنحه الحرية في الاعتماد على نفسه وإدارة حياته » (1).


الإعتماد على النفس :

إن المراد من الإعتماد على النفس ، الذي شاع في الآونة الآخيرة بين الناس ، ويلوح للعين في الكتب النفسية والتربوية دائماً ، هو أن يعتمد كل فرد في
____________
( 1 ) اعتماد بنفس ص 14.


 

( 205 )


ضمان سعادته المادية والمعنوية على نفسه ، ويستند الى إرادته وعمله ، فيقطع الأمل عن الجار والصديق وجميع الناس ، ولا يلتجىء الى أحد في ذلك.
الإعتماد على النفس عبارة عن أن يرى كل فرد نفسه مسؤولاً عن أعماله ، فيقوم بواجباته خير قيام ، ويعلم أن مثابرته وجهده ، ومواصلته واستمراريته... كل ذلك أساس نجاحه وتقدمه ، وعلى العكس فإن تسامحه وكسله ، ويأسه وتهاونه أساس شقائه وتعاسته.
ليس هذا الأمر بالجديد تماماً ، حتى يتصور البعض أن عالم الغرب هو الذي توصل إليه وأكد عليه أمام سكان العالم... بل إن الشريعة الإسلامية الغراء علّمت معتنقيها هذه الحقيقة الناصعة التي هي أساس سعادة الفرد والمجتمع بكل صراحة ، وذلك قبل أربعة عشر قرناً... وإن الإنتصارات الباهرة التي أحرزها المسلمون في ذلك العصر المظلم مدينة الى هذه الثروة العظيمة ـ وهي الإعتماد على النفس والشعور بالمسؤولية الفردية.

المسؤولية الفردية :

إن التعليم والتربية في الإسلام يرتكزان على المسؤولية الفردية ، وأداء الواجب ، والاعتماد على النفس. لكل مسلم تكاليف معينة في شؤونه الدينية والدنيوية ، ويجب عليه لضمان سعادته أن يعتمد على نفسه ، وعلى نيته ، ويقتصر على عمله في مراعاة تطبيق تلك الوظائف.
ترتبط سعادة كل فرد في الإسلام بعقائده وأعماله ، وإن المآسي التي يلاقيها الانسان تستند الى نواياه الفاسدة وأعماله المنحرفة... كذلك المكافآت والعقوبات الدنيوية والأخروية التي يحصل عليها الأفراد تعود إلى الأعمال الصالحة أو الفاسدة التي ارتكبوها. هذا الموضوع من أوضح المسائل الدينية وأشدها بداهة ، وقد وردت في ذلك آيات وأحاديث كثيرة ، نذكر بعضها على سبيل الشاهد.


 

( 206 )


1 ـ قال تعالى : ( لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (1).
2 ـ وقال تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (2).
3 ـ وقال تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ) (3).
من هذه الآيات الثلاث ندرك بوضوح المسؤولية الشخصية ، وقيمة أفعال كل شخص بالنسبة إليه. إن الله تعالى يصرح في هذه الآيات بأن تبعة الأفعال الصالحة أو الطالحة لكل فرد إنما تعود عليه نفسه ، وأن سعادة كل فرد رهينة بعمله ، وهو هو المعنى الكامل والجامع للإعتماد على النفس ، والشعور بالمسؤولية الفردية.
4 ـ يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « قَدرُ الرجل على قد همته » (4).
أي أن قيمة شخصية كل فرد يجب أن يُبحث عنها في مستوى اعتماده على نفسه ، ودرجة علو همته ، وكلما كانت حصة الإنسان من هذه الفضيلة الخلقية اكبر كانت قيمته اكثر. وبهذا الصدد يقو الشاعر :

كن كالشمس في استنادك إلى نفسك... فإن نور الشمس يشع من نفسه

يعتبر الإسلام كل فرد مسؤولاً عن سعادته وشقائه... فهو الذي يستطيع أن يقوم بواجباته خير قيام في ظل جده وسعيه فيقود نفسه الى شاطىء السعادة والنجاح ، وهو الذي يستطيع أن يحطم شخصيته بالأعمال السيئة والنوايا الفاسدة وينتهي بنفسه الى الشقاء واستحقاق العذاب الإلهي.
____________
( 1 ) سورة البقرة : 286.
( 2 ) سورة المدثر : 38.
( 3 ) سورة النجم : 39.
( 4 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الاصفهاني ص 1100.


 

( 207 )


النهي عن الإعتماد على الناس :

لم يكتف الإسلام في سبيل إيجاد الإعتماد على النفس ، ببيان المسؤولية الفردية وضرورة إحياء كل فرد شخصيته ، بل نهي كثيراً عن النقطة المقابلة لذلك وهي عبارة عن الإعتماد على الناس ، وحذر الجميع عن هذه الصفة الذميمة. وبهذا الصدد يقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام : « رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عما في ايدي الناس » (1).
إن الاعتماد على النفس ، والإستناد الى الجهد الشخصي ، والسعي وراء تحقيق السعادة المادية والمعنوية اسس استقلال الشخصية ، والمحبوبية عند الله والناس. وعلى العكس فإن الإعتماد على الناس ، والطفيلية ، وانتظر العون والمساعدة من الآخرين أساس الحرمان المادي والمعنوي للشخص ، ويسبب الذل والهوان عند الله ، وفي أنظار الناس.
عن أبي عبدالله عليه السلام : « اليأس ممّا في أيدي الناس عز للمؤمن » (2).

القدرة على المقاومة :

إن الأفراد الحقراء والمتقاعسين لا يملكون القدرة على المقاومة في خضم الحياة وصراعها... إنهم يندحرون بسرعة ، وينسحبون من المعركة بأتم الخذلان والفشل. أما ذوو الهمم العالية ، الذين يعتمدون على أنفسهم فإنهم يقاومون صاعب الحياة ومشاكلها ببسالة وبطولة ، يتحملون الآلام بكل جلد ، وينجحون في نهاية الجولة.
1 ـ عن علي عليه السلام : « الحلمُ والاناةُ توأمان ، ينتجهما عُلّو الهمّة » (3). أي أنه إذا كانت همة الإنسان عالية ظهرت عنده خصلتان الحلم والأناة.
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|148.
( 2 ) المصدر السابق.
( 3 ) نهج البلاغة شرح الفيض الاصفهاني ص 1287.


 

( 208 )


2 ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام : « ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال : وقورا عند الهزاهز ، صبوراً عند البلاء... » (1).
( 3 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله : « المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظمُ أجراً من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم » (2).

الفرار من المسؤولية :

إن الأفراد الذين يتميزون بضعف النفس ، والفاقدين للإعتماد على النفس ، المصابين بالحقارة يتهربون من المسؤولية بالإنزواء وبالتطرف ويعيشون حياة ملؤها الحرمان. أما الأفراد ذوو الشخصية ، والمعتدون على أنفسهم المتميزون بالبسالة والبطولة فإنهم بتحملهم المسؤولية وإلتزامهم الصبر والأناة في مواجة مصائب الحياة ، ينالون النجاح الباهر في ما يبغون من الأمور الدنيوية من جانب ، ويستحقون الأجر والثواب الكبير عند الله تعالى على حد تعبير الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.
إن ركائز الاستقلال والاعتماد على النفس تصب منذ أولى أدوار الطفولة في روح الطفل... وكذلك الطفيلية والإعتماد على الناس فإنهما ينبعان من التربية الخاطئة التي تعود إلى أيام الطفولة. على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تحقيق السعادة الحقيقية لأولادهم أن يكونوا واعين في جميع تصرفاتهم ، ويحذروا من القيام بما من شأنه تعويدهم على الطفيلية وانعدام الشخصية.

الأولاد الصالحون :

لقد ورد التعبير في القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية عن الطفل الذي أحسنت تربيته بـ ( الولد الصالح ). على الآباء والأمهات أن يربوا أولاداً صالحين. ومعنى الصلاح أن يكون واجداً لجميع الصفات الخيرة الجسمية والروحية.
____________
( 1 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج1|47.
( 2 ) مجموعة ورام ج1|9.


 

( 209 )


إن الآباء والأمهات الذين يكونون صالحين من الناحية النظرية والعملية يستطيعون تربية أطفال صالحين ، لأن مجموعة اقوالهم وأفعالهم هي التي تعتبر قدوة للطفل بحيث تبني صفاته وعاداته وسلوكه. فإن كانت صالحة وطيبة نشأ صالحاً ، وإن كانت فاسدة وبذيئة نشأ ـ بموجبها ـ فاسداً.
عن أبي جعفر عليه السلام : « يُحفَظ الأطفال بصلاح آبائهم » (1).
وفي حديث آخر عن إسحاق بن عمار قال : « سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إن الله ليُفلحُ ليفلح بفلاح الرجل المؤمن وُلَده وولُده » (2) .
من صفات الأولاد الصالحين إحساسهم بالمسؤولية واعتمادهم على أنفسهم. إن الآباء والأمهات الذين يتميزون بشخصية رصينة يستطيعون أن يلقنوا اولادهم هذا الدرس التربوي القيم ، ويجعلوهم ينشأون على الإعتماد على النفس. نسأل الله عز اسمه أن تكونوا جميعاً واجدين لهذه السجية الخلقية الحميدة ، وأن توفقوا في ظل تعاليم الإسلام القيمة الى تربية أبنائكم تربية صحيحة.

ضعف الطفل :

إن الطفل في رحم أمه ، موجود طفيلي وقائم بوجود أمه ، ولا يملك استقلالاً وإرادة من نفسه. إن حياته ترتبط بحياة أمه ، يتغذى من الغذاء الذي تناوله ، ويتبعها في القوة والضعف. أما بعد الولادة فإنه وان انفصل عن أمه وحصل على استقلال عضوي ، لكنه لا يزال ضعيفاً ، ولضعفه فهو مضطر إلى أن يعيش طفيلياً على أمه لمدة ، لا يدرك فيها الخير أو الشر ، ولا يستطيع دفع الضرر عن نفسه أو جلب النفع اليها.. إنه يحتاج أمه في غذاءه ، ونظافته ، وطرد العدو عنه ، وبصورة موجزة في جميع الحاجات الحياتية ، في حين يوجد في باطن الطفل استعداد للتكامل ونيل الاستقلال ، وبالتدريج يحصل على استقلاله.
هناك تضاد لا مفر منه في وجود الطفل ، فمن جهة يفقد الإطمئنان الى نفسه
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج15|178.
( 2 ) نفس المصدر.


 

( 210 )


لما يشعر به من الضعف والذلة ، ولذلك فهو يحتاج دائماً الى من يملك القدرة على تحقيق ما يريد ، ويحب أن يكون في حمايته وكنفه ، وهذا الأمر يضطره الى التسليم لأوامر صاحب القدرة دائماً.. ومن جهة اخرى فإنه يميل بفطرته الى التفوّق والحصول على القدرة ، يجب أن يصبح مستقلاً ، وأن يعتمد على نفسه ، ويتخلص من الذلة والحقارة ، وهذا لا يتحقق إلا في ظل القوة والقدرة.

التكامل التدريجي :

إن التكامل الطبيعي للطفل ورشده يمنحانه القوة بصورة تدريجية. ذلك أن الميل نحو الإستقلال يدفع الطفل إلى استغلال القوى المكتسبة ، وبالتدريج يصبح الميل الفطري نحو الإستقلال والتفوق فعلياً فيخلص الطفل من كونه عالة على غيره وطفيلياً ، وينجو به بهذه الصورة من الشعور بالحقارة وكلما إزدادت قوة الطفل كان قد خطأ خطوة في طريق الاستقلال ، وفتّت قيداً من قيود الاعتماد على الغير.
لا توجد للطفل لذة أعلى من لذة الإحساس بالقوة والحصول على الإستقلال ، فكلما حصل على قوة ووجد أنه استطاع القيام بعمل ما لوحده كان ذلك مبعث سرور وارتياح في نفسه. عندما تتفتح أصابعه ويستطيع أن يمسك شيئاً بيده يفرح كثيراً... وعندما يحرك بيده الصغيرتين ( خرخاشته ) فينبعث الصوت منها يضحك من دون اختيار ، وتظهر أمارات الفرح والسرور على عينيه ووجهه :

يقول برتراند رسل : « عندما يستطيع الطفل أن يثبّت عينيه نحو الأشياء فإنه يلتذ كثيراً من مشاهدة الأشياء المتحركة ، والذرات المتقلبة عند هبوب الرياح. في هذه المرحلة بالذات يفرح الطفل للأصوات الرتيبة والجديدة ».
« تعتبر حركة الأصابع في بداية الأمر من الأفعال الإنعكاسية فقط. لكن الطفل يكتشف فيما بعد أنه يستطيع أن يحركها متى شاء. أنها يبعث الفرح والسرور في نفس الطفل بقدر ما يبعث استيلاء امبراطور مستعمر على دولة من الدول الإرتياح في نفسه. في هذه

 

( 211 )

 

الحالة تخرج الأصابع عن حالتها المغتربة وتصبح جزء من الوجود. لقد لاحظت هذه الحالة في ولدي بصورة قطعية في السن الخامسة الأول مرة ، وذلك عندما استطاع بعد محاولات عديدة أن يرفع الجرس الذي كان ثقيلاً نوعاً ما من فوق المنضدة ويضعه على نحو ينبعث منه الصوت... وإذ توصل الى هذه النتيجة السارة أخذ ينظر الى من حوله بابتسامة ذات مغزى » (1).

يعتبر كل من خروج الأسنان ، والقدرة على مضغ الطعام ، والتكلم والمشي ، والشروع في الجري.
يعتبر كل من خروج الأسنان ، والقدرة على مضغ الطعام ، والتكلم والمشي ، والشروع في الجري ، واللعب نجاحاً مستقلاً سحصل عليه الطفل بالتدريج ، ويبعث فيه السرور واللذة كلّ على حدة.
يجب على الآباء والأمهات الذين يرغبون في تنشئة أطفالهم على الاستقلال بالإعتماد بالنفس أن يستفيدوا من هذا القانون الفطري المودع في الطفل بالأمر الإلهي ، وأن يؤسسوا منهجهم التربوي على أساس الميل الفطري له ومن الضرروي أن يربياه على الاستقلال التربوي جنباً الى جنب مع الإستقلال الطبيعي ليقف ذلك أمام أي اضطراب أو فوضى.

إحياء فطريات الطفل :

على الوالدين أن يمنحا الطفل شيئاً من الحرية مراعيين في ذلك درجة وعيه وتكامله ينبغي أن يسمحا له بإحياء حس الإبتكار والميل نحو الإستقلال الفطري في أثناء اللعب والجري... وفي نفس الوقت ينبغي أن يراقباه مراقبة جدية ، بحيث لا تخرج الحرية عن الحد المسموح به ، ولا يسيء التصرف في ذلك.
إن الآباء والأمهات الواعين يتركون الطفل حراً في مثل هذه المناسبات حتى تخرج استعداداته الكامنة الى حيز الفعلية ، وتتفتح أكمام الشعور بالإبتكار في
____________
( 1 ) در تربيت ص 63.


 

( 212 )


باطنه ، وينشأ إنساناً مستقلاً ومعتمداً على نفسه. أما الآباء والأمهات الجاهلون فإنهم بتشددهم أو إهمالهم يتسببون في شقاء الطفل وتعاسته... إنهم يفسحون المجال له كثيراً أحياناً ، ويضيقون عليه كثيراً أحياناً أخرى ، وبذلك يوردون نقصاً كبيراً على استقلاله واعتماده بنفسه.

الإفراط في فسح المجال :

هناك بعض الآباء يفرطون في فسح المجال لأطفالهم فراراً من عبء المسؤولية أو رغبة في التظاهر بالحب الفارغ ، فيتركونهم وشأنهم في جميع أفعالهم وأقوالهم... ولكن لا يمضي زمن طويل حتى يترعرع الطفل وهو جاهل لأبسط واجبات الحياة. عند ذاك يقوم الوالدان بتنبيهه على واجباته واحدة بعد الأخرى ، ومن دون أن يؤدي ذلك الى نتيجة مرضية ، لأن أوان التربية قد فات.

« هناك أطفال يجب تكرار كل موضوع عدة مرات معهم : قم ، انظر ، لا تقتل نفسك ، نظف أظفارك وأذنيك ، إعتن بنظافة أنفك ، سر مستقيماً ، لا تمزق كتبك ، لا توسخ دفاترك ، كن مؤدباً في حديثك مع الفرّاش ، لا تتلكم كثيراً.. وغير ذلك. هؤلاء ـ وحتى أولياؤهم ـ يتعبوننا ، إننا لا نعلم من هو الذي يستحق اللوم. لكنه لا ريب في ضرورة توجيه اللوم للوالدين لأنهما لم يبدءا في تربية طفلهما في الوقت المناسب ، ولم يعيرا أهمية تذكر لأفعاله. وبهذه الصورة فإن الأطفال الذين كان بالإمكان أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع ، ويصبحون عالة على الغير ، ومما يؤسف له أنهم ليسوا قابلين للإصلاح » (1).

هؤلاء الأطفال لا يملكون اعتماداً على أنفسهم ، ويفقدون الشعور بالإستقلال ، بل هم يعيشون عالة على غيرهم في حياتهم دائماً على أثر سوء التربية التي اتخذها الوالدان بحقهم... إنهم مصابون بعقدة الحقارة ، ويظلون يئنون من ويلات ذلك مدى العمر.
____________
( 1 ) جه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 72.


 

( 213 )


الوالدان المتزمتان :

في النقطة المقابلة للآباء الذين ذكرنا فسحهم المجال للطفل ، يوجد آباء وأمهات متزمتون لا يسمحون للطفل بالحرية بالمقدار الكافي ، ويسدّون طرق طرق الإبتكار والنشاط الفردي عليه... يتدخلون في جميع شؤون الطفل ـ صغيرها وكبيرها ـ فيقتلون بذلك الشعور بالإستقلال والإعتماد على النفس عنده... وهذا بدوره يؤدي الى أن يقف الطفل في مستوى محدود من التكامل ، وهو بلا شك عداء في لباس الحب. هؤلاء الآباء والأمهات يقودون أطفالهم نحو الحضيض بتزمتهم وسلوكهم ذاك.

وبالمناسبة يقول ( جلبرت روبين ) : « لا ريب في أن الطفل زينة حياتنا ، ولكن يجب أن لا ننظر إليه كنظرتنا الى فاكهة أو ورودة على الشجرة ، لأنه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا ، لكنه ليس جزء من شجرة ، لأنّه وإن كان يأخذ عصارته النباتية وغذاءه منا ، لكنه ليس جزء من شجرة وجدونا ، بل انه نبتة مستقلة ، يجب أن نقطع الجذور والأغصان الصغيرة التى تربطنا به حتى لا نقف أمام نموه ، ونمنع ـ بدورنا ـ من وصول العصارة النباتية إليه »
« إن الأم الشابة تقول بكل غرور : ( انه من دمي ولحمي ) ولكن ما يؤسف له أنه لا يمضي وقت طويل حتى تتحسر بآهة من أعماق قلبها لأن هذا الإرتباط قد قطع. إننا نسمع هذه الجملة غالباً : ( إني أحبه كثيراً لأني لا أملك في الدنيا أحداً غيره ) في حين أنه يجب إبعاد الطفل عن مثل هذه العواطف. يجب أن لا نكون أنانيين ولكن ينبغي أن نعلم بأن طفلنا يملك حياة مستقلة تماماً... حتى أدركنا أنه ليس لنا ، بل هو متعلق بشخصه ، وله حياة مستقلة تدعوه الى نفسها. وبصورة موجزة فاإنه يجب أن يتربى لنفسه لا للآخرين... هلموا إذن للتخلي عن اعتبار الطفل ملكاً لنا ، لمّا لم نكن أكثر من حلقة وصل في هذه الحياة » (1).

____________
( 1 ) چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 61.


 

( 214 )


المساعدة المعقولة :

إن المساعدة المعقولة التي يبذلها الوالدان للتلميذ الذي لم يستوعب الدرس من معلمه في المدرسة هي أن يدرساه في البيت مرة ثانية ويحاولا إفهامه الدرس تماماً. أما عندما يعمد الأب أو الأم بقصد مساعدة الطفل الى حلّ التمارين الرياضية التي كلّف بحلها من قبل المعلم ، أو كتابة القطعة الإنشائية بدلاً منه وإعطاؤها له لينقلها في دفتره ، فإنه يستحيل أن يصبح هذا التلميذ في عداد العلماء فيما بعد... ولا شك أن هذه المساعدة ظلم لا يُتدارك بالنسبة الى الطفل.
إن المساعدات غير المعقولة للوالدين تجاه الطفل تعود على الطفل بالضرر وتمنع من نمو شخصيته. فالحب التافه والمساعدة غير المتزنة يطفئان جذوة الإستقلال والإعتماد على النفس في ضمير الطفل ، وبالتالي ينشضأ إنساناً طفلياً وتافهاً.

« إحذروا من أن تحرموا الطفل من الفرص المناسبة التي يستطيع من خلالها أن يتعلم بعض التجارب بنفسه ، بمعنى أن لا تساعدوه في أداء كل عمل. هذه المساعدات التي تتجاوز الحد المقرر لها أحساناً تعوّده على مساعدة الآخرين دائماً ، ونشوئه عالة على الغير ، فيفقد قدرته الشخصية في النهاية ، ويعجز عن إنقاذ موقفه المتأزملوحده بسبب من هذا الضعف والتعوّد على مساعدة الآخرين له » (1).

إن أفضل الفرص لاحياء الشعور بالمسؤولية الفردية ، وإيجاد الاستقلال والاعتماد على النفس هو دور الطفولة. يجب على الوالدين أن يعلما أن طفلهما إنسان واقعي ومستقل ، وعليهما أن يعاملاه معاملة إنسان حقيقي ... ويؤسسا قواعد التربية على هذا المنهج المستقيم ، حتى ينشأ الطفل مستقلاً وشاعراً بالمسؤولية منذ البداية.
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص41.


 

( 215 )


التشجيع والتوبيخ :

على الوالدين أن يقوما بنصيحة الطفل في الأعوام الأولى من عمره حسب رشده وإدراكه ويفهماه بأنه هو المسؤول عن أفعاله الصالحة أو الفاسدة... عليهما أن يشجعاه على الأفعال الحسنة بالمقدار الذي يستحقه ، ويوبخاه على الأفعال السيئة بالمقدار المناسب... كما عليهما أن يحذرا من الإفراط في المحبة ، والإكثار من الشدة. عليهما أن يكررا هذا الأسلوب التربوي بكل صراحة حتى يطمئن الطفل الى استقلاله ويقف على مسؤوليته. إن طفلاً يتلقى تربية كهذه ، عندما يبلغ العاشرة من عمره يصبح إنساناً معتمداً على نفسه ، ويدرك معنى الشخصية بصورة واضحة.

« إن المربي يعدّ الطفل للحياة ، إذن يجب ترجيح الطفل على تصوراته الخاصة. إن المربي سوف يصغي الى اوامر قلبه وعقله ، وسيسلك مع الطفل سلوكاً إنسانياً ، ذلك أنه يجب ألا نترك الجانب الإنساني مطلقاً... يجب أن نسلك سلوكاً إنسانياً من دون أي إثرة أو أنانية ، يجب أن نكون إنسانيين ومحايدين في آن واحد »
« إن الوالدين والمربي العادل هم القادرون على أن يهبوا الطفل نصائح محايدة ، وأن يجعلوا منه إنساناً كاملاً لا إتكالياً ، إنهم يحبون الأطفال لا حباً أعمى بل حباً معقولاً يقودهم نحو الطريق الصحيح في الحياة ».
« إن محبة كهذه لا تغفل عن أسس عملها أبداً ، بل تحافظ على الإعتدال دائماً ، ذلك أن العدل والإنصاف هما بمنزلة الملجأ للطفل ».
« إذا كان الأب عادلاً فإن جدّه وتشدّده لا يخلفان أثراً سيئاً في الحياة. إن طريق الطفل يمكن أن يكون مليئاً بالعقبات

 

( 216 )


والعراقيل ، لكن لما كان أساسه التربوي متيناً فإنه لن يتضرر من ذلك » (1).

التأدب في الصغر :

لقد أكد الأئمة عليهم السلام ضمن بيان المناهج التربوية للأطفال على أهمية احياء المسؤولية الشخصية ، والتنشئة على الاستقلال ، وأوصوا أتباعهم بجميع التعاليم اللازمة في هذا الصدد.
يقول الإمام الصادق عليه السلام : « قال لقمان : يا بنيّ ، إن تأدبت صغيراً انتفعت به كبيراً. ومن عنى بالأدب اهتم به. ومن اهتم به. ومن اهتم به تكلّف علمه. ومن تكلف علمه اشتد له طلبه. ومن اشتدّ له طلبه أدرك به منفعة » (2).
ثم يستمر في نصائحه فيقول : « يا بُنّي ، ألزم نفسك التوءدة في أمورك. وصبّر على مؤنات الاخوان نفسك. فإن أردت أن تجمع عزّ الدنيا فاقطع طمعك مما في أيد الناس فإنما بلغ الأنبياء والصدّيقون ما بلغوا بقطع طمعهم » (3).
وفيما يتعلق بالقيام بالواجبات والحرص على أدائها يقول : « يا بُنيّ ، إنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ، ووُعدت عليه اجراً. فأوف عملك واستوف أجرك » (4).
هذه الجمل القصار للإمام عليه السلام تتضمن بيان قيمة التربية في دور الطفولة ، والسعي في تلقي التربية ، وإسداء الأب النصائح للولد ، وإيجاد الشعور بالمسؤولية الشخصية ، وإحياء روح الاستقلال عند الطفل ، وتنمية الاعتماد على النفس والإنقطاع عن الناس ، والجدّ في أداء الواجبات ، وأجر القيام
____________
( 1 ) جه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص 60.
( 2 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج5|323.
( 3 ) نفس المصدر والصفحة.
( 4 ) المصدر نفسه ح5|324.


 

( 217 )


بالواجب... وجميع الدقائق التربوية التي تتعلق بالشخصية والإعتماد على النفس.

ظهور الاستعدادات :

يعتبر الاستقلال في الإرادة والإعتماد على النفس منشأ لظهور الإستعدادات الداخلية. هذا الخلق الفاضل يجبّ صاحبه الى الناس ويمنحه جمالاً اجتماعياً خاصاً. وعلى العكس من ذلك فان الطفيلية تكبح المواهب والقابليات الباطنية ونسبب الكراهية للفرد من قبل الالاخرين. اإن الوالدين الواعيين مؤولان عن تربية طفلهما على الإستقلال والإرادة بحيث يستطيع من العيش بكل فخار وعز... وهذه التربية إنما هي من الحقوق الدينية للأولاد على آبائهم.
قال الإمام السجاد عليه السلام : « ... فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا » (1) أي عليك أن تسلك مع الطفل سلوكاً يسبب الإفتخار والمباهاة له في المجتمع.

النشاط الفردي :

يستند ضمان السعادة الروحية والوصول الى الكمال المعنوي الى المسؤولية الفردية شأنه في ذلك شأنه في ذلك شأن السعادة الدنيوية. فكما أن النجاح المادي لكل انسان يرتبط بنشاطه الفردي ومقدار الجهد الذي يبذله ، كذلك نجاحه المعنوي وتكامله الروحي فإنه يرتبط بمستواه من الإيمان والجهد الذي يبذله في ذلك المجال.
والى هذا المعنى يشير القرآن الكريم : ( وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ) (2).
كما أننا نلاحظ في الدنيا أخوين ، يحصل أحدهما على الدرجات العالية بفضل اعتماده على نفسه وبذله الجهود المتواصلة ويعيش في النهاية حياة ملؤها العز والفخار ، ويسقط الآخر عن أنظار الناس على أثر تسامحه وكسله فيعيش فقيراً
____________
( 1 ) تحف العقول عن آل الرسول ص 263.
( 1 ) سورة مريم 95.


 

( 218 )


محتقراً... كذلك في الآخرة. فمن الممكن أن يصل أحدهما الى أعلى عليين في ظل الإيمان بالله وأداء الواجب ، وينحط الالاخر الى أسفل سافلين نتيجة لانحرافه وتلوّثه بالاجرام والذنب.
إن الأب الذي قام بواجباته المادية معتمداً بنفسه ومستنداً الى شخصيته ، وحصل على أثر ذلك على سمعة طيبة ‘ ودرجة رفيعة ، ومنزلة سامية... لو قام بتربية طفله على ما هو عليه من الاستقلال والإعتماد على النفس والجدّ في أداء الواجب ، فإن الطفل سيسعد في حياته أيضاً.
إن السعادة المعنوية للأب والابن والقيام وبالواجبات الروحية تتطابق مع السعادة المادية والقيام بالوجبات الدنيوية من حيث المسؤولية الفردية. فلو قام الوالدان المؤمنان بتربية أولادهما على الإيمان بالله والاستقامة في العمل ، وقام الأولاد مع النظر الى مسؤوليتهم الشخصية بين يدي الله تعالى بأداء واجباتهم فلا شك في أنهم سيكونون كأبويهم مشمولين لرحمة الله عز وجل ، وعنايته التي تفوق كل عناية وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم حيث قال :
( والذين آمنوا واتبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ، كل امريء بما كسب رهين ) (1).

ركيزة السعادة :

نستنتج مما تقدم أنه حسب المقاييس الدينية والعلمية فإن الشعور بالمسؤولية الشخصية ، والإعتماد على النفس ، الجد في أداء الواجب... تشكل ركائز السعادة المادية والمعنوية للإنسان. إن كل فرد يحصل على نتيجة عمله ، وكل شخص رهين بأعماله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ. إن الوالدين اللذين يدركان هذا الأمر بنفسهما ويربّيان الطفل على الشعور بالمسؤولية الشخصية منذ الطفولة يكونان قد أدّيا خدمة جبارة له ، وأخذا بيده نحو طريق السعادة والتكامل والفلاح.
____________
( 1 ) سورة الطور : 21.


 

( 219 )


التفاخر بالآباء :

لقد كان الناس في الجاهلية (1) يتفاخرون بآبائهم وأجدادهم ، بدلاً من التفاخر بالعلم والفضل ، وكانوا يستندون إلى أمجادهم أسلافهم والانتصارات التي أحرزوها بدلاً من التفاخر بالجهود والنشاطات الخاصة بكل منهم. وعندما جاء نبي الإسلام العظيم بتعاليمه القيمة كافح ضد هذه الفكرة الخاطئة التي كانت العامل الأكبر لانحطاط المجتمع حينذاك ، وبذلك الجهود المضنية في سبيل تحويل الأفكار العامة عن الاعتماد على الغير والتفاخر بالآباء الى الاعتماد على النفس. لقد أكد الإسلام للجميع بأن الكمال الإنساني والتفاخر بالشرف إنما يستند الى ما يبذله كل فرد من جهد في طريق التكامل والتعالي.
قال علي عليه السلام : « الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية » (2).

الإتكال على الأمل :

من المناسب أن أنبّه المستمعين الكرام ، والشباب منهم بالخصوص إلى مسألة ضرورية ، وهي أن المراد من الاعتماد على النفس أن يستند كل فرد في طريق الوصول الى سعادته على علمه وأخلاقه الفاضلة وجهوده ، لا على آماله الفارغة ، وأمنياته غير الناضجة. وبعبارة أوضح فإن آمال كل شخص ناشئة من حالاته النفسية الخاصة به ، ولكن ليس المراد من الإعتماد على النفس ، الإتكال على هذه
____________
( 1 ) هناك تفسيرات عديدة للجاهلية : ـ
أ ـ فيذهب البعض إلى أن المراد منها الجهل الذي هو في مقابل العلم.
ب ـ ويذهب البعض الآخر إلى أن المراد منها الجهل الذي هو في مقابل الحلم ، فيكون بمعنى السفه أيضاً.
ج ـ ويذهب آخرون إلى أنها اصطلاح خاص بالعرب قبل الإسلام.
ولكن هذه التفسيرات الثلاثة بعيدة عن الواقع والصحيح أن يعتبر مصطلح ( الجاهلية ) خاصاً خاصاً بكل ما يخالف الإسلام في نظرته الى الكون والنفس والوجود ، سواء كان ذلك متداولاً بين العرب أم غيرهم من الأقوام ، وسواء كان ذلك قبل ظهور الإسلام أم بعده. ويدل على ذلك قوله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما ».
( 2 ) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 87.


 

( 220 )


الآمال النفسية الواهية. إن الذين يعمرون قلوبهم بالآمال فقط ، ويتعهدون ضمائرهم بالأماني الطوال بدلاً من أن يعمروها بالعلم والفضائل ، ويتعهدوها بالجد والعمل... افراد حقراء تافهون ، ويستحيل عليهم أن يحصلوا على السعادة والكمال.
عن علي عليه السلام : « إيّاك والإتكال على المنى ، فإنّها بضائع النوكى » (1).
وعنه عليه السلام أيضاً : « العاقل يعتمد على عمله ، والجاهل يعتمد على أمله » (2).

* * *


عندما نتصفح التاريخ الإسلامي نجد أن الأسر التي طبقت تعاليم الإسلام في أسلوب تربية الطفل ، والتزمت بأفضل النصائح الواردة من الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في هذا الصدد ، توصلت الى نتائج لا معة حيث أثبت الأولاد من الجدارة ما يؤيد ذلك. وعلى سبيل المثال نستعرض قضيتين تاريخيتين لطيفتين : ـ

1 ـ الطفلة الجريئة :

غضب عبد الملك بن مروان على عباد بن أسلم البكري يوماً ، فكتب إلى واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بأن يقتله ويبعث برأسه الى الشام. فأرسل الحجاج الى عباد يطلب حضوره لتنفيذ أمر عبد الملك بشأنه. لقد تألم عبّاد من معرفة الخبر. واضطرب كثيراً وأقسم على الحجاج في أن يتخلى عن قتله لأنه يعيل أربعاً وعشرين امرأة وطفلاً ، وبقتله سوف تختل شؤونهم وتضطرب حياتهم. فرقّ الحجاج لكلامه وأمر باحضار عائلته الى دار الامارة. وعندما حضر أولئك الى دار الامارة واطلعوا على ما صمم عليه الحجاج ، وشاهدوا الحالة المزرية التي كان عليها وليهم ، بدأوا بالبكاء والعويل... وفجأة قامت طفلة صغيرة من بينهم ، كانت في غاية الجمال وأرادت أن تتكلم ، فقال لها الحجاج : ما هي صلتك بعبّاد ! ؟
____________
( 1 ) نهج البلاغة ، شرح الفيض الإصفهاني ص 922.
( 2 ) غرر الحكم ودرر الكلام للآمدي ص 43.