أئمتنا عليهم السلام حول تربية الطفل وسائر الموضوعات ولكنها لم تصل إليها لصعوبة التدوين والكتابة !
إن الهدف من تربية الطفل في هذه المحاضرات أمران : الأمر الأول أن يدرك المستمعون الكرام ـ والطبقة المثقفة منهم بالخصوص ـ إلى عظمة التعاليم الإسلامية ومدى شمولها لمختلف جوانب الحياة ، ويطلعوا على القيمة العلمية لهذه الحقائق فيتبعوها بإيمان أعمق واعتقاد أقوى. والأمر الثاني هو أن يتنبه أولياء أمور الأطفال إلى المسؤولية الدينية والوطنية الخطيرة الملقاة على عواتقهم بالنسبة الى تربية الصبيان المودعين بأيديهم ، ويقوموا بواجبهم هذا خير قيام.
مما لا ريب فيه أن شطراً كبيراً من المأسي والمشاكل الإجتماعية وجانباً مهماً من الانحرافات الخلقية لشبابنا يعود الى سقم الأساليب التربوية المتبعة بحقهم في أيام الطفولة ، ولسوء التربية في الأسرة جذور مختلفة بحسب المستوى الذي يبلغه الآباء والأمهات من حيث التكامل الروحي أو الانحطاط المعنوي.
مضار التربية الفاسدة :
يتميز بعض الآباء والأمهات بكونهم فاسدين وذوي أخلاق سيئة ، فهؤلاء لا يربون أولادهم إلا على الفساد والإنحراف ، لأن الأطفال يتعلمون دروس الإنحراف وسوء الخلق من آبائهم وأمهاتهم فينشأون على ذلك السلوك المتطرف ، ومن البديهي أن هذا السلوك لا يعكس في المجتمع إلا آثاراً فاسدة.
كما يتميز بعض الآباء والأمهات بأنهم يصرفون جل اهتمامهم إلى ضمان الغذاء واللباس والمأوى لأطفالهم ، ولعدم توفر النضج العقلي الكافي فيهم فإنهم يهملون الجوانب التربوية والخلقية للطفل ، وحتى لو حاولوا أن يقوموا بهذا الواجب العظيم فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ؟ وماذا يقولون ؟ وكيف يرشدون الطفل ؟ لأنهم لم يفكروا يوماً ما في أمر استيعاب المناهجٍ التربوية الصالحة ولم يحاولوا أن يفهموا واجبهم في هذا المجال.
تهاون بعض الآباء :
أما طائفة أخرى من الآباء والأمهات فهم يعرفون معنى التربية الخلقية والتنشئة الروحية للطفل إلى درجة ما ، ويعرفون السبل الى تحقيق ذلك ولكنهم يتهربون عن واجبهم بصورة عملية ، ولا يجدون مسؤولية ما على عواتقهم في هذا المجال. وكأن هؤلاء يتصورون أن النمو النفسي للطفل يخضع للحوادث الفجائية وللصدقة فيتركونه بيد الأقدار توجهه كيفما تشاء مهملين واجبهم المقدس... في حين أنه لا يمضي وقت طويل حتى يجني الآباء الثمار السيئة لذلك الإهمال والتهاون. هؤلاء الأطفال يخضعون لتأثير العوامل الهدامة والمضللة بسرعة لأنهم يفقدون الشخصية الخلقية المستقلة ولا يملكون القوة النفسية التامة ، فينحرفون عن الصراط المستقيم ، ويقدمون على مختلف أنواعب الجرائم والمعاصي ، والوزر في ذلك كله يعود على الوالدين.
إن دور الطولة يحتل الأهمية العظمى في تقرير أساس الحياة. وإن السلوك المفضل أو الفاسد للأفراد يعود إلى الأساليب التربوية الصالحة أو الفاسدة المتخذة في حقهم ، إن الفرد يسير طيلة أيام عمره على طبق الخلقيات الخاصة به ، وان أساس ا لخلقيات ينشأ في أدوار بالطفولة. وبهذا الصدد يذكر القرآن الكريم : ( قل كلّ يعمل على شاكلته ) وشاكلته : أي خلقه وطبيعته. إذن فالآية الكريمة تصرح بأن أفعال كل فرد وأقواله إنما تسير حسب خلقه وطبيعته التي نشأ عليها.
« إن الحقيقة التي تتضح يوماً بعد يوم هي أن للإدراكات الحاصلة في دور الطفولة والحوادث والتجارب الواقعة في تلك الفترة تأثيراً قاطعاً على حياة الإنسان ، إذ نستطيع القول بصراحة بأن هذه الإدراكات والتجارب تعتبر الأساس لسلامة الأفراد وسقمهم ، وسعادتهم وشقائهم طيلة أيام العمر ». « إن الطفل يصنع في الأعوام الأولى من حياته سدى حياته ولحمتها ، وبمجرد أنه يترك المهد ويأخذ في المشي يكون قد تقرر ما ينبغي أن يقع وما لا ينبغي ». « تصب ركائز مشاعر الطفل وأحاسيسه من أولى أيام الرضاع ، |
أي أن العالم الخارجي إما أن يبدو أمراً منسجماً وباعثاً على الأمل في نظره ، أو أنه يفهم منذ ذلك اليوم أنه عبارة عن مجموعة من اليأس والعذاب. إما أن يفهم منذ البداية أنه يجب التغلب على المحيط الخارجي بالبكاء والعويل ، أو يذعن بأن هناك من يفهم وضعه بصورة جيدة ويهيء له العوامل المساعدة. هذه الحقائق وحقائق أخرى تترك أثراً كبيراً على تفكير الطفل الرضيع ، بحيث تلازم شخصيته طيلة أيام الطفولة والمراهقة والشيخوخة » (1). |
إننا نأمل أن يهتم الآباء والأمهات المسلمون بأداء واجباتهم في سبيل تربية أطفالهم ، ويستمدوا العون من الله العلي القدير في الوصول الى هذا الهدف المقدس. أما بحثنا هذا اليوم : ـ
احياء شخصية الطفل :
لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن تكوين شخصية الطفل من الفصول الأساسية في التربية ، ولكي ينشأ الأطفال على الاستقلال ، ويعتادوا الإعتماد على النفس ، ولا يصابوا بالحقارة والضعة ، يجب على الآباء والأمهات أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً بالغاً منذ الطفولة فيحاولوا أن ينموا مقومات الشخصية في أفلاذ اكبادهم بحديثهم وسلوكهم ، يجب عليهم أن يسلكوا معهم بصورة يعتقد الأطفال معها أنهم ذوو شخصية مستقلة وأنهم أعضاء حقيقيون في الأسرة. إن من أسلم الطرق وأفضلها في احياء شخصية الطفل احترامه والامتناع عن تحقيره وإهانته وقد صرح بهذا الموضوع في الحديث الذي ذكرناه ضمن المحاضرة السابقة حيث يقول النبي صلّى الله عليه وآله : « اكرموا أولادكم ». وقد أشار العلماء المعاصرون في الكتب النفسية والتربوية الى هذين الأمرين ، أعني : احترام الطفل ، وعدم تحقيره.
____________
( 1 ) عقده حقارت ص 9.
على الوالدين أن يسعيا للنفوذ إلى أعماق قلب طفلهما حتى يرى المسائل بالشكل الذي يريانه. قد يسمع الأطفال أن حديثاً يدور حولهم ، وأن الحديث يتناول ذمهم وذكر معايبهم ، وتأويل سذاجتهم الى شيء من البلادة والحمق... عند ذاك يدركون أن الكبار يحتقرونهم ، ويوجهون اللوم والتقريع نحوهم دون أن يفهموا روحياتهم ، في حين أن هؤلاء الأطفال الأبرياء لا يعلمون السبب في توبيخهم وتأنيبهم. أو أنهم يجبرون على سلوك معين في حين يجهلون العلة الصحيحة والمنطقية لذلك... بهذه الصورة ينفصل عالمهم عن عالم الكبار في حين أنهم توصلوا تلقائياً الى هذه النتيجة ، وهي أن الكبار موجودات تختلف عنهم ، وان عليهم أن يتسلحوا بالسلاح الكافي للدفاع عن حقوقهم تجاههم ». « يجب عليهم أن يحاولوا أن لا ترتفع اصواتهم مع الأطفال اكثر مما هو الحال عند الحديث مع زميل أو صديق لهم. أما الإرشادات فعندما تصبح ضرورية يجب أن تساق بالهدوء واللين بحيث لا يتوجد حاجزاً بينهم وبين الأطفال ، أو تؤدي إلى نفورة وحقد. فإذا سار السلوك مع الأطفال على هذا النحو نشأوا ذوي شخصية ممتازة ، واعتادوا على الاعتماد على النفس ». « يجب إفهام الطفل بأنه عضو فعال في الأسرة ، وأن عليه مسؤولية معينة يجب أن يلتزمها ويقوم بأدائها » (1). |
مشاعر الطفل الرضيع :
ان النكتة الجديرة بالإهتمام من قبل أولياء الأطفال هي أن ركائز شخصية الطفل تصب في وقت مبكر جداً. فمنذ الأسابيع الأولى ، ومن حين
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 31.
الرضاع... حيث الطفل يعيش في المهد ، تبدأ مشاعر الطفل بالعمل وفي حين أنه لا يتكلم ، ولا يستطيع المشي ، ولا يقدر على قبض شيء بأصابعه الضعيفة ، وبعبارة موجزة لا يعدو أن يكون قطعة من اللحم المتحرك القابع في زاوية ، لكنه يتأثر بالحدة والغلظة ، أو اللين والحنان ، وتنعكس في روحه النتائج الطيبة أو السيئة لأفعال الآخرين.
على الوالدين أن يدركا الطفل منذ ذلك الحين ، ويقوما بواجباتهما التربوية في سبيل تنمية روحه وإحياء شخصيته.
« تنفذ المربي إلى انسجة الطفل وأعصابه وروحه كما ينفذ الماء في الأرض الرملية. يجب على المربي أن يتجنب الإهتمام اإلى بعض العوامل فقط ، ذلك أن العوامل الخلقية مثلاً لا تقل أهمية عن العوامل الكيمياوية والفسيولوجية في ضمان قابلية العضلات على المقاومة ، وان التكامل النفسي لا يمكن بدون الاستعانة بجميع عوامل النمو الأخرى. إذ المهم أن هذه العوامل يجب أن تستأثر بإهتمام المربي بصورة مستمرة ، وفي الواقع فإنه يجب تطبيقها منذ اليوم الثاني من الولادة ». « ولهذا فإن الأم يجب أن تكون أعرف بميكانيكية تربية الطفل وطريقة استعمالها من المعلم. ان الطفل يدرك بسهولة أن بعض الأفعال لا يرتاح لها الأب أو الأم ، وان مدح الآخرين أو تأنيبهم يؤثر فيه تأثيراً كبيراً » (1). |
أسلوب النبي في تربية الطفل :
لقد عمل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله ، مضافاً إلى توصية أتباعه الإهتمام بتربية الأطفال وبذل العناية البالغة بإحياء الشخصية فيهم ، على تطبيق
____________
( 1 ) راه ورسم زندكى ، تأليف : الكسيس كارل ، ترجمة : برويز دبيري ص 168.
جميع النكات والقائق اللازمة بالنسبة إلى أولاده ، فقد بعث فيهم الشخصية الكاملة منذ الصغر. لقد كان صلّى الله عليه وآله يراقب أطفاله منذ الأيام الأولى للولادة ، فالرضاع ، فالأدوار الأخرى خطوة خطوة ، ويرشدهم إلى الفضائل العليا والقيم المثلى ، يحترمهم ويكرمهم حسب ما يليق بهم من درجة تكاملهم الروحي. وأهم من ذلك أنه كان لا يقصر اختمامه على اطفاله فقط ، بل كان يهتم بتربية أطفال الآخرين أيضاً ، فقد كان ـ في الواقع ـ مربياً عظيماً وأباً عطوفاً لأطفال المسلمين أيضاً ، وكان يسعى لاحياء الشخصية الفاضلة فيهم قدر المستطاع وعلى سبيل الشاهد نذكر نماذج من سلوكه ( ص ) في تربية أولاده وأولاد المسلمين أيضاً.
روي عن أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب ـ مرضعة الحسين عليه السلام ـ قالت : « أخذ مني رسول الله صلّى الله عليه وآله حسيناً أيام رضاعه فحمله ، فأراق ماءً على ثوبه ، فأخذته بعنف حتى بكى. فقال صلّى الله عليه وآله : مهلاً يا أم الفضل ، إن هذه الاراقة الماءُ يطهرها ، فأي شيء يزيل هذا الغبار عن قلب الحسين ؟ » (1).
إن مرضعة الحسين عليه السلام ترى في البلل الذي احدثه على ثوب جده ـ شأنه في ذلك شأن سائر الأطفال ـ عملاً منافياً ، ولذلك فهي تأخذه من يد رسول الله ( ص ) بعنف في حين أن ذلك يخالف سلوك النبي ( ص ) مع الأطفال ، ومع فلذة كبده الحسين بصورة خاصة.
فالطفل الرضيع يدر العطف والحنان ، كما يدرك الحدة والغلظة بالرغم من ضعف روحه وجسده ، ولذلك فهو يرتاح للحنان ويتألم من الغلظة والخشونة. ان الآثار التي تتركها خشونة المربي في قلب الطفل وخيمة جداً بحيث أنها تؤدي إلى تحقيره وتحطيم شخصيته ، وإن إزالة هذه الحالة النفسية من الصعوبة بمكان. ولذلك فإن الرسول الأعظم ( ص ) يقول لمرضعة الحسين ( ع ) : إن ثوبي يطهره الماء ، ولكن أي شيء يزيل غبار الكدر وعقدة الحقارة من قلب ولدي ؟
____________
( 1 ) هدية الأحباب ص 176.
72
الرسول الأعظم وأطفال الناس :
هذه الرعاية التربوية نفسها كانت تنال أطفال المسلمين بصورة عامة فقد كان ينبه الآباء إلى واجباتهم في الحالات المناسبة. فقد جاء في الحديث.
« وكان صلّى الله عليه وآله يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو ليسميّه. فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله. فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين بال. فيقول ( ص ) : لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله ، ثم يفرغ من دعائه أو تسميته. فيبلغ سرور أهله فيه ، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم ، فإذا انصرفوا غسل ثوبه » (1).
في هذا الحديث ثلاث نقاط جديرة بالملاحظة :
الأولى ـ أن الرسول الأعظم كان يستغل جميع الأساليب والوسائل لاحترام المسلمين وتكريمهم ، ومن ذلك احتضان أطفالهم الرضع بكل حنان وعطف ومعاملتهم بالشفقة ، فأحد أهداف النبي في عمله هذا هو تكريم أولياء الأطفال كما ورد التصريح بذلك في الحديث... « تكرمة لأهله ».
الثانية ـ ان الطفل يبول طبقاً لحاجته الطبيعية وأداءً لعمل فطري ، ولا يدرك في عمله هذا استحسان المجتمع أو استياءه. ولذلك فإن الرسول صلّى الله عليه وآله يقول : لا تغلظوا معه ولا تمنعوه من التبول ، دعوه حراً. ولا شك في أن إجبار الطفل على إمساك ما تبقى من بوله يخالف القواعد الصحية.
الثالثة ـ إن خشونة الوالدين وغلظتهما تؤدي الى تحقير الطفل وإيذاءه وإن الإنهيار النفسي للطفل يؤدي إلى نتائج سيئة طيلة أيام العمر. فعلى الراغبين في تنشئة أطفالهم بصورة صحيحة أن يحذروا من إثارة غبار التألم والإستياء في الضمير الباطن لهم.
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|153.
الرسول الأعظم والحسن ( عليه السلام ) :
يتجلى مدى اهتمام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بتكريم أولاده من الرواية التالية. يقول الراوي : « دعي النبي ( ص ) إلى صلاة والحسن متعلق به ، فوضعه النبي ( ص ) مقابل جنبه وصلى. فلما سجد أطال السجود ، فرفعت رأسي من بين القوم فإذا الحسن على كتف رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلما سلم قال له القوم : يا رسول ، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها ، كأنما يوحى إليك. فقال : لم يوح إلي ، ولكن ابني كان على كتفي ، فكرهت أن اعجله حتى نزل » (1).
هذا العمل من النبي ( ص ) تجاه ولد الصغير أمام ملأ من الناس نموذج بارز من سلوكه في تكريم الطفل. ان الرسول ( ص ) عمل أقصى ما يمكن من احترام الطفل.
لقد كان أطفال الناس أيضاً يحوزون احتراماً وتكريماً من قائد الإسلام العظيم ، وكان يبذل لهم من العناية بمشاعرهم الروحية وعواطفهم ما يبذله لأولاده. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « صلّى رسول الله عليه وآله بالناس الظهر فخفف في الركعتين الأخيرتين. فلما انصرف قال له الناس : هل حدث في الصلاة حدثٌ ؟ قال : وما ذاك ٌ قالوا : خفّفت في الركعتين الأخيرتين. فقال لهم : أما سمعتم صراخ الصبي ؟ ! » (2).
وهكذا نجد النبي العظيم يطيل في سجدته تكريماً للطفل تارة ، ويخفّف في صلاته تكريماً للطفل أيضاً تارة أخرى ، وهو في كلتا الصورتين يريد التأكيد في احترام شخصية الصبي وتعليم المسلمين طريق ذلك.
ومثل هذا نجده في الحديث الآتي : « عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه كان جالساً ، فأقبل الحسن والحسين. فلما رآهما النبي قام لهما ، واستبطأ بلوغهما إليه
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج10|82.
( 2 ) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|48.
فاستقبلهما وحملهما على كتفيه ، وقال : نعم المطيّ مطيّكما ، ونعم الراكبان انتما » (1).
في هذا الحديث نجد أن النبي ( ص ) يكرم سبطيه بشتى الصور : يقوم لهما ، وينتظرهما ، ويستقبلهما ، ويجلسهما على كتفيه ، هذا من الناحية العملية ، وأما قولا فهو يقول في حقهما : نعم الراكبان أنتما. إن ما يجلب الانتباه هو أن المسلمين في الغالب ، ولهذا الأمر فائدتان : الأولى ان جذور شخصية السبطين كانت تقوى وتستحكم بفضل احترام النبي لهما أمام الناس ، والثانية أن الرسول ( ص ) كان يعلم الناس طريق تربية الأطفال بصورة تطبيقية. لقد كان أطفال المسلمين أيضاً متمتعين بهذا الأحترام والعطف من النبي أيضاً.
« كان صلّى الله عليه وآله يقدم من السفر ، فيتلقاه الصبيان فيقف لهم ، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه ، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم. فربما يتفاخر الصبيان بعد ذلك ، فيقول بعضهم لبعض : حملني رسول الله ( ص ) بين يديه ، وحملك أنت وراءه ، ويقول بعضهم : أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم » (2) .
مما سبق يظهر حالياً أن الأطفال كانوا يتمتعون بهذه المناظرة السارة ، وكانوا يفرحون كثيراً لهذا السلوك الممتاز فلا ينسون تلك الخواطر الطيبة ، بل كانوا يتحدثون عنها فيما بعد ويتفاخرون بتقدم رتبة بعضهم على بعض بمقدار تكريم النبي لهم.
يقولون : ان الأطفال يستأثرون باهتمام العصر الحاضر ، وان تربيتهم تشغل مجالاً واسعاً من تفكير الحكومة والشعب. أفهل يمكن أن يبلغ اهتمامهم بالأطفال ، الدرجة التي بلغها اهتمام الرسول الأعظم بهم وتكريمه لهم ؟ !
يقولون : ان الزعماء والقادة في الدولة المتدنة يزورون رياض الأطفال ودور
____________
( 1 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ح10|80.
( 2 ) المحجة البيضاء في إحياء الإحياء للفيض الكاشاني ج3|366.
الأيتام ويقضون ساعة أو ساعتين مع الأطفال ، فيحتضنونهم ويلتقطون صور معهم ثم ينشرونها في الصحف ويكتبون المقالات المطولة حول ذلك ومن هذا الطريق يفهمون الرأي العام بمدى عطفهم واحترامهم تجاه الأطفال من استقبالهم على أتم البساطة والعطف في الطرق والشوارع وحملهم على كتفه ؟!
وبصورة أساسية فإن الرسول الأعظم ( ص ) كان يعامل جميع الأطفال سواء كانوا أبناءه أو أبناء غيره بالشفقة والعطف والحنان. وقد جاء في الحديث : « والتلطف بالصبيان من عادة الرسول » (1).
إرضاء حب الذات عند الأطفال :
لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يهدف معاملة الأطفال بالعطف والحنان بغض النظر عن إرشاد الناس بصورة تطبيقية إلى كيفية تربية الأطفال ، إلى غرضين لامعين :
الأول : تنشئة الأطفال على الإستقلال والإعتماد على النفس ، فإن أعظم ثروة لقائد حكومة قانونية وحرة وجود شعب حر وقوي الشخصية.
الثاني : إن عطف النبي صلّى الله عليه وآله كان يؤدي إلى تشديد أواصر الحب والاخلاص بينه وبين الأطفال فيرسخ حبه في قلوبهم وينشأون منذ البداية محبين لقائدهم العظيم. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : « جبُلت القلوب على حب من نفعها وبغض من ضرها » (2). وعنه أيضاً : « طبعت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها » (3).
ندرك من هذا أن احترام الناس أحسن الوسائل لإرضاء غريزة حب الذات فيهم. الصغار والكبار. الرجال والنساء ، كلهم يتلذذون من احترامهم ويحبون من يحترمهم. كما أن القادة يستطيعون النفوذ الى قلوب الشعب عن طريق
____________
( 1 ) المصدر السابق.
( 2 ) و ( 3 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج4|74.
احترامهم ، وفي ذلك أعظم الأثر في حملهم على الطاعة والانقياد وإذا كان الطفل يقابل بالاحترام في محيط الأسرة فإن خروجه على أوامر الوالدين سيكون أقل. كما أن تحقير الناس من أهم أسباب إثارة الفتنة والعداوة. يقول الإمام الرضا عليه السلام : « وأجمل معاشرتك مع الصغير والكبير » (1).
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « أجملوا في الخطاب تسمعوا جميل الجواب » (2).
« لا يوجد في العالم غير وسيلة واحدة يمكن بواسطتها إجبار شخص على القيام بعمل. هل فكرتم في هذه الوسيلة قط ؟ وسيلة واحدة فقط وهي عبارة عن إيجاد الرغبة فيه للقيام بالعمل ». « إنك تستطيع أن تعترض عابراً في طريقه وتشهر عليه المسدس قائلاً له : انزع ساعتك وأعطني إياها ! كما تستطيع أن تدفع العامل الى العمل بواسطة إنذاره بالطرد... ولكن هذا كله ما لم تول ظهرك عنه. تستطيع أن تجبر طفلاً على الإنقياد لأوامرك بالسوط ، ولكن هذه الأساليب المؤلمة تتضمن نتائج وخيمة ». « يرى الفيلسوف الحاذق ( جون ديوي ) أن أهم الحوافز في النفس الإنسانية ( حب الحيازة على الاهمية )... تذكروا هذا دائماً : ( حب أن يكون مهماً ) فهناك عالم عظيم منطو في هذه اللفظة ». « ان التاريخ ملىء بالشواهد والأمثلة عن أ؛وال رجال عظماء كانوا يسعون لإظهار أهميتهم. لقد كان جورج واشنطن يرغب في أن يدعي بإسم ( سيادة رئيس جمهورية الولايات المتحدة ). وكان كريستوف كلمبس يرغب في تسميته بإسم ( بطل المحيطات ووصي الهند ). لقد لوحظ أن بعض الأشخاص يتمارضون |
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2|67.
( 2 ) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 139.
لكي يكسبوا عطف من حولهم اكثر وبهذا الأسلوب يدركون ما لهم من الأهمية بصورة واضحة » (1). |
بذر الفضائل في نفس الطفل :
إن المربي القدير هو الذي يوجه غريزة حب الذات عند الطفل بصورة صحيحة ، ويرضي هذا الميل النفسي بالطرق المناسبة ، ويبذر الفضائل والملكات الحميدة في ظل هذه الغريزة في نفسه فينقذه من الأخطار التي ربما تعترض طريقه.
من طرق الاحترام وتكريم شخصية الطفل : السلام. فهناك عبارات وأساليب مختلفة في جميع نقاط العالم خاصة بالتحية حيث يؤديها الناس في أول لقاء بينهم. والسلام أحد السنن المؤكدة في تعاليم الإسلام الخلقية فعندما يلتقي مسلمان يجب عليهما قبل كل شيء أن يسلم أحدهما على الآخر.
« عن الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال له رجل : كيف أنت عافاك الله ؟ فقال له : السلام قبل الكلام ، عافاك الله. ثم قال : لا تأذنوا لأحد حتى يسلم » (2).
ان الطفل يدرك في محيط الأسرة هذا الواجب الأدبي عن طريقين : الأول عن طريق تقليد الوالدين والكبار ، والثاني عن طريق تعليم المربي إياه وتأكيده على ضرورة أداء السلام للكبار. وكلما اُحترم الطفل في الاسرة واهتم الوالدان بشخصيته ، كانت اطاعته لأوامرهما وانقياده لإرشاداتهما اكثر ولذلك فهو يقابل الالاخرين بالإحترام والأدب دائماً.
« إن الطفل الذي أحسنت تربيته وعومل بالين والعطف يستحقه يندر أن يخرج على السلوك الذي يتوقع منه ». |
____________
( 1 ) آئين دوست يابى تأليف ديل كارنيجي ص 30 ـ 34.
( 2 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ح2|68.
( 3 ) ما وفرزندان ما ص 30.
رد السلام إلى الطفل :
إذا سلم الطفل على الكبار فعليهم أن يردّوا تحيته بمنتهى اللين ويحترموا شخصيته بهذه الصورة. أما إذا لم يعتنوا به ولم يردّوا سلامه فإنّهم يكونون قد أهانوه واحتقروه ، وسيتألم لهذه الإهانة ، ويستاء كثيراً.
76
بدء الأطفال بالسلام :
لقد تجاوز الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله في سبيل تكريم الأطفال حد رد السلام فكان هو يبدأ السلام معهم على ما هو عليه من عظم الشخصية ، وبذلك كان يحترم شخصيتهم. هذا العمل الفريد من نوعه دعاء علماء الحديث إلى أن يوردوا احاديث ( استحباب التسليم على الصبيان ) في باب خاص. وهذه نبذة من تلك الروايات : ـ
1 ـ عن أنس بن مالك قال : « إن رسول الله صلّى الله عليه وآله مرّ على صبيان فسلم عليهم وهو مغِذّ » (1).
2 ـ وذكر بعضهم في تعداد صفات النبي ( ص ) : « إنه كان يسلم على الصغير والكبير » (2).
3 ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : « خمس لست بتاركهن حتى الممات... وتسليمي على الصبيان لتكون سنة من بعدي » (3).
لبدء الطفل بالسلام أثران نفسيان : فهو يقوي في نفس المسلم صفة التواضع وخصلة الخلق الفاضل ، ويحيي في الطفل الشخصية الرصينة والإرادة المستقلة. ان الطفل الذي يجد الكبار يسلمون عليه ويحترمونه بهذا الأسلوب بصدق بكفاءته
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|69. ومغذّ : أي مسرعُ في السير.
( 2 ) المصدر السابق.
( 3 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|209.
وأهليته للاحترام ، ويطمئن منذ الصغر إلى أن المجتمع يعتبره إنساناً ويعيره الناس اهتماماً لا بأس به.
على الراغبين في اتباع سنة الرسول الأعظم ( ص ) أن يبدأوا الأطفال بالسلام ، كي يركّزوا في نفوسهم خصلة التواضع ، ويحيوا شخصيات الأطفال ويدفعوهم الى طريق التربية السليمة.
المساواة بين الأطفال :
من الوجبات المهمة التي لا بد أن يلتزم بها أولياء الأطفال في سبيل تربيتهم تربية صالحة مراعاة التوازن والمساواة بينهم ، على الآباء والأمهات الذين يملكون عدة أطفال أن يسلكوا مع كل منهم سلوكاً لا يُغفل شأن الباقين... عليهم أن ينظروا إليهم جميعاً بعين واحدة ويعاملوهم بالعدالة والمساواة.
« عن النبي صلى الله عليه وآله ، نظر إلى رجل له ابنان ، فقبل أحدهما وترك الآخر. فقال النبي صّلى الله عليه وآله : فهلا ساويت بينهما ؟ » (1).
وفي حديث آخر : « إعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم » (2).
أمل الطفل :
إن الأمل الوحيد للطفل ومبعث فرحه ونشاطه هو عطف الوالدين وحنانهما. ولا يوجد عامل يهديء خاطر الطفل ويبعث فيه الإطمئنان والسكينة مثل عطف الوالدين ، كما لا يوجد عامل يبعث فيه القلق والإضطراب مثل فقدان جزء من حنان الوالدين أو جميعه.
« إن حسد الولد تجاة اخيه الصغير الذي تولد حديثاً لا غرابة فيه ، لأنه يحس بأن قسماً من العناية التي كانت مخصصة له قد |
____________
( 1 ) مكارم الاخلاق للطبرسي ص 113.
( 2 ) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج23|113.
سلبت منه ، والآن لا يستأثر بإهتمام الوالدين ، بل ان الحب والحنان يجب أن يتوزع عليه وعلى أخيه الأصغر » (1). |
ان الآباء والأمهات الذين لا يراعون العدالة والمساواة في التظاهر بالحب والحنان بالنسبة إلى أطفالهم ، ويرجحون واحداً منهم على الآخرين ، يحطمون شخصياتهم ويفهمونهم بصورة عملية أن أخاهم ( فلان ) هو الجدير بالاحترام والتوقير فقط أما هم فلا توجد فيهم الكفاءة والجدارة لكل ذلك ومما لا شك فيه أن هذا السلوك غير العادل يتضمن نتائج غير مرغوب فيها.
من الآثار السيئة لهذا الاختلاف في معاملة الأطفال بالحب والحنان ، ظهور عقدة الحقارة في نفوسهم. ان الأطفال الذين يشاهدون أحد إخوتهم يعامل في الأسرة بحب وحنان يفوقان ما يعاملون به يتأملون كثيراً ويحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم ، وان تكرار هذا العمل يقوي الإحساس بالحقارة في ضمائرهم. ويضرب بجذوره في أرواحهم ، مما يؤدي إلى ظهور آثاره الوخيمة من خلال تصرفاتهم يوماً بعد يوم.
« تشمل عقدة الحقارة جميع مظاهر عدم الثقة بالنفس والاحساس بالفشل ، وعدم الجدارة ، وفقدان الارادة ... وهناك آلاف العوامل التي تتسبب في ظهورها. قد يصاب الطفل بهذه العقدة فلا تتركه الى دور البلوغ فقط بل تلازمه الى نهاية عمره. وعندما يكبر هذا الطفل يتخذ سلوكاً إنزوائياً ، أو يحس على الأقل بالغربة والبعد تجاه قرنائه ». « ان الذي ينزوي عن أقاربه وأقرانه يعبّر عن العذاب الذي يعيشه من حس الحقارة التي درج عليها منذ الصغر ولهذا فإن كل خاطرة أو حادثة تضعف عزة النفس والغرور الذاتي عند الشخص تعتبر ـ حسب الأسس النفسية ـ عاملا لاتساع عقدة |
____________
( 1 ) چه ميدانيم ؟ تربيت اطفال دشوار ص27.
الحقارة ، عاملا لجعله في عداد الأفراد القلقين وضعاف النفوس في المجتمع » (1) |
انتقام الطفل :
والأثر الآخر من الآثار السيئة للاختلاف في معاملة الأطفال بالحب والحنان ، إثارة الحسد وحب الانتقام في نفوس الأطفال المهملين تجاه الطفل المستأثر بحنان الوالدين دونهم. هؤلاء الأطفال الذين نالوا حظاً أدنى من عواطف الوالدين يتأملون ، ويجدون أن العامل الوحيد لحرمانهم هو وجود أخيهم المدلل ، فيحسدونه على ذلك الحب ، وينظرون اليه بنظر العداوة والحقد... ولأجل أن يثأروا لكرامتهم وينتقموا منه فيجبروا بذلك حرمانهم يحاولون إيذاءه والانتقاص منه في كل فرصة يحصلون عليها. في بعض الأحيان يكون تأثير اختصاص الوالدين أحد أولادهما بالعطف والمحبة في زرع بذور الحقد والحسد في نفسوس الآخرين شديداً إلى درجة تحملهم على التفكير في انتقام مخطط ومدبّر ، والقيام باعمال خطيرة لا تجبر ، ولا شك أن المنشأ النفسي لهذه الجرائم يمكن معرفته في تفريق الوالدين بين أطفالها في نسبة الحب والحنان.
وقد يمتاز أحد الأطفال في الأسرة بجمال مفرط وخصائص فطرية ومنح إلهية أكثر من الباقين... في هذه الحالة مهما حاول الوالدان مراعاة العدالة والمساواة بينهم ، فإن ذلك الطفل لا يسلم من حسد الآخرين ، لأنهم بمشاهدتهم للامتيازات الظاهرية والنفسية التي يختص بها أخوهم يحسون بالحقارة والنقص في أنفسهم... يشعرون بأنهم دونه في المستوى والمنزلة... ولذلك فهم يحاولون إيذاءه والإنتقام منه.
هذه الظاهرة نلمسها بوضوح في ( يوسف الصديق ) وإخوته الأحد عشر. ولا ريب في أن النبي يعقوب لم يكن شخصاً يخص بعض أولاده بالعطف والمحبة اكثر من الآخرين ، مضافاً إلى أنه كان يوصي ولده ( يوسف ) بالنصائح اللازمة لعدم
____________
( 1 ) عقده حقارت ص 6.
إثارة حوافز الحسد والحقد في نفوس إخوته ، فمثلاً عندما رأى الرؤيا التي تبشر بعظمته ورقيه أوصاه بأن لا يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيداً... مع هذا كله فإن الأخوة تذرعوا بحب أبيهم ليوسف اكثر من حبه لهم ، وزجوا بأخيهم الصغير في خضم من المشاكل والمصائب المؤلمة.
تدارك المشاكل :
ينبغي للآباء والأمهات الذين يملكون طفلاً ممتازاً من بين أطفالهم ويحذرون أن يثير ذلك فيهم الشعور بالإنتقام أن يتخذوا بعض التدابير الخاصة في منهاجهم التربوي فيحاولوا تدارك ما ينشأ في نفوسهم من الاحساس بالحقارة بالوسائل المناسبة. من تلك التدابير ما ورد في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام :
« قال جعفر بن محمد عليهما السلام : قال والدي : والله لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي ، وأكثر له المحبة ، وأكثر له الشكر ، وإن الحق لغيره من ولدي ولكن محفظة عليه منه ومن غيره لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته. وما أنزلت سورة يوسف إلا أمثالاً لكيلا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفّ إخوته وبَغوا عليه (1).
يستفاد من هذا الحديث بصورة جيدة أن أحد أولاد الإمام الباقر عليه السلام كان يمتاز على الباقين ببعض الصفات ، فكان الوالد يخاف عليه من حسدهم ، وفي نفس الوقت كان يرغب في أن لا يخدش عواطفهم ، فكان يحترم غيره احتراماً بالغاً ليمنع بذلك من احساسهم بالحقارة ومحاولة الإنتقام.
مشاركة الطفل في لعبه :
من وسائل إحياء شخصية الطفل مشاركة الكبير إياه في اللعب. إن الطفل يميل الى تقليد الكبار في كل خطوة يخطونها وذلك بسبب من شعوره بالضعف الذي
____________
( 1 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|626.
فيه والقوة التي في الكبار من جهة ، ولرغبته في التعالي والتكامل بصورة فطرية من جهة أخرى. إن التقليد والإقتباس من الثروات العظيمة لتكامل الإنسان وتقدمه ، وقد اودع الله تعالى هذا الأمر الغريزي فيه منذ الطفولة.
عندما يتنازل الوالد الوالدة إلى مشاركة الطفل في لعبه ، ومساعدته في أعماله ، يطفح قلب الصغير بالفرح والبشر ، ويحس في بطانه بأن أفعاله الصبيانية مهمة الى درجة أنها تدعو الوالدين الى المساهمة معه وجعل أنفسهما في مستواه. هذا الإحساس يحيي شخصية الطفل ويركز فيه الشعور بالإستقلال والثقة بالنفس.
ان المناهج التربوية الحديثة تهتم بمشاركة الكبار مع الأطفال في العابهم اهتماماً بالغاً ، فإن علماء النفس يرون في ذلك واجباً من الواجبات التربوية للوالدين ، ويؤكدون على هذا الأمر في كتبهم.
« من الضروري أن يشترك الأب في العاب أولاده ونزهاتهم. ان هذا يعبر عن تفاهم وطيد. يشترك الأب في العاب الأطفال حسب أعمارهم ، وحسب المكان ، والفصل. لا شك في أن الوقت الذي يستطيع أن يخصصه لهذا العمل ضيق جداً ، لكن بالنظر إلى المزايا التي يتضمنها من أن نزول الأب الى مستوى أولاده يؤدي الى ارتفاعهم الى مستواه بدرجة كبيرة... هذه المزايا تدعو الآباء الى تخصيص مجال ـ ولو ضيق ـ لهذا الأمر » (1). « يقول موريس تى يش في كتابه ( دروس للوالدين ) : يجب أن تسلكوا مع أولادكم كأصدقاء ، أن تعملوا معهم ، أن تشاركوهم في اللعب ، أن تقرأوا لهم القصص أن تتحدثوا معهم بعبارات الود والصدقة. وبصورة خاصة فإن الفرد يجب أن يعرف كيف يجعل نفسه بمستوى الأطفال ويتكلم بلغة يفهمونها ». |
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 22.
« إنكم إذا كلفتم أنفسكم هذا العناء... فحدثتم أطفالكم حول شؤونهم الخاصة ، وأفكارهم وآمالهم ، وما ينوون القيام به ، فطالما حصلتم على معلومات نافعة وقيّمة ». « هذا الاستئناس بروح الطفل ، مضافاً إلى أنه يمنعكم من اتخاذ قرارات عاجلة وأحكام غير مدروسة في حقهم ، يسمح لكن أن تحلوا كثيراً من المسائل المهمة في حياة الأحداث » (1). |
استحباب اللعب مع الطفل :
لقد اهتم أئمة الإسلام بهذا الأمر التربوي العظيم وأوصوا المسلمين بإرشادات مهمة في هذا الصدد. إن اللعب مع الأطفال من الأمور المستحبة في الشريعة الإسلامية ، وقد أورد علماء الحديث نصوصاً كثيراً في كتبهم تحت عنوان ( استحباب التصابي مع الولد وملاعبته ) نذكر هنا نبذة منها : ـ
1 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله : « من كان عنده صبي فليتصاب له » (2).
2 ـ عن الأصبغ بن نباته قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام : من كان له ولد صبا » (3).
3 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله : « رحم الله عبداً أعان ولده على بره ، بالإحسان إليه ، والتألّف له ، وتعليمه ، وتأديبه » (4).
وإذا نظرنا الى طائفة أخرى من الروايات وجدنا أنها تؤكد على استحباب إدخال السرور على قلب الطفل بشتى الوسائل : باللعب معه ، جلب الملابس الجديدة له ، وأخذه للنزهة وما شاكل ذلك.
____________
( 1 ) ما وفرزندان ما ص 45.
( 2 ) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|126.
( 3 ) المصدر السابق.
( 4 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|626.
4 ـ عن ابن عباس قال : « قال النبي ( ص ) : من فرّح ابنته فكأنّما أعتق رقبة من وُلد إسماعيل ، ومن أقرّ عين إبنٍ فكأنما بكى من خشية الله » (1).
5 ـ عن يعلى العامري أنه خرج من عند رسول الله ( ص ) إلى طعام دعي إليه ، فإذا هو بحسين ( ع ) يلعب مع الصبيان ، فاستقبل النبي صلّى الله عليه وآله أمام القوم ، ثم بسط يديه ، فطفر الصبي ها هنا مرة وها هنا مرة ، وجعل رسول الله ( ص ) يضاحكه حتى أخذه ، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه ، ووضع فاه على فيه وقبّله » (2).
إن قائد الإسلام العظيم يعامل سبطه بهذه المعاملة أمام الناس لكي يرشد الناس الى ضرورة إدخال السرور على قلوب الأطفال وأهمية اللعب معهم في سبيل تربيتهم ، مضافاً إلى قيامه هو بواجب تربوي عظيم.
إدراك نفسية الطفل :
إن أفعال الصبيان حين اللعب وكذلك أقوالهم التي يتكلمون بها تحكي عن أسلوب تفكيرهم وتكشف عن نفسياتهم ومستوى شخصيتهم الروحية. إن الكبار يستطيعون الوصول في أثناء اللعب إلى درجة ذكاء الطفل ومقدار كفاءته وثقافته.
عن أبي رافع قال : « كنت ألاعب الحسن بن علي عليهما السلام ـ وهو صبي ـ بالمداحي. فإذا أصابت مدحاتي مدحاته قلت : أحملني. فيقول : ويحك ! أتركب ظهراً حمله رسول الله ( ص ) فاتركه. فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت : لا أحملك كما لا تحملني فيقول : أو ما ترضى أن تحمل بدناً حمله رسول الله ( ص ) فأحمله » (3).
من هذا الحديث يظهر جلياً إباء هذا الطفل وعزة نفسه وعظم شخصيته.
____________
( 1 ) مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.
( 2 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2|626.
( 3 ) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2| 517. والمدحاة : الكرة.