الاستنتاج

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج ص 1 ـ ص 22


الاستنتاج

ـــــــــ

ونستخلص من دراسة احكام العقوبات الاسلامية الخاصة بالجرائم المرتكبة ضد النفس الانسانية وما دونها ، جملة من العوامل المهمة التي تدعم عدالة النظام الاجتماعي وتؤدي بالنتيجة الى قطع دابر الانحراف ، ونوردها كما يلي :
اولاً : عامل المماثلة في القصاص ، وتكون على مستويين ، الاول : مماثلة شخصية الفاعل بالمفعول به في الحرية والدين والعقل والبلوغ . والثاني : مماثلة الجنية كالقتل والقطع والجرح بالجاني ، اي التقاصي مثلاً بمثل عندما تكون المماثلة ممكنة . وتثبت الدية في كل مورد تتعذر فيه المماثلة والمساواة . وكذلك في الضرب الذي لا يسبب جرحاً ، والرفس واللطم والوكز فلا يتعين القصاص ، بل يتعين الارش . فالاصل ، اذن وجوب المماثلة في القتل والقطع بشروطها المذكورة ما لم يتم التراضي بين الطرفين على الدية . وهو اقرب الى العدالة الاجتماعية من قواعد نظام العقوبات الرأسمالي . ففي حين يعلن الاسلام بكل قوة ، وجوب المماثلة في القصاص ، يقوم النظام الرأسمالي في تشريعه لعقوبة الانحراف ، بفرض القيود على حرية المجرم عن طريق السجن او العلاج او خدمة مؤسسات الادارة المحلية ، او بتعويض الضحية مالياً . وهذه الاساليب لا تبعد المنحرف عن انحرافه ولا تقدم للضحية مثالاً واقعياً لمعاقبة الجاني ، بل تربك النظام الاجتماعي وتستهلك موارده المالية ، لان السجن والطب النفسي اثبتا فشلهما في علاج المنحرف علاجاً حقيقياً ، كما لاحظنا ذلك سابقاً .


( 94 )

ثانياً : عامل التعويض المالي المتمثل بالدية او الضمان . وهو مختص اصلاً بجرائم قتل الخطأ وشبه العمد ، فانهما يوجبان الدية دون القصاص ، وبالتراضي بين الطرفين فيما عدا ذلك . وفي الضرب الذي لا يجرح ولكنه يولد احمراراً ونحوه ، الارش او الحكومة ، وفي الضرب الذي يسبب الالم فقط التعزير . وتتعين دية المقتول عمداً في حالات استثنائية فقط منها ، فوات المحل كموت القاتل ونحوه .
والدية المقدرة شرعاً في قتل المسلم الذكر عمداً الف دينار ، وهو ما يعادل اكثر من 3,5 كيلو غرام ذهباً او ما قدر شرعاً من الشياه والابل والابقار والحلل والفضة . وهذه الكمية من المال كافية لاغناء العائلة المفجوعة بفقد معيلها ، حتى لا تمد يدها لاستعطاء الناس . فيضمن القاتل الدية اذا قصد القتل او الفعل الذي يؤدي اليه . اما في اجتماع السبب والمباشر فانه ينظر ، فاذا كن المباشر اقوى ضمن المباشر ، واذا كان السبب اقوى ضمن المسبب ، واذا اجتمع السببان لامر واحد ، اتجه الضمان على الاثنين .
ولم يتوقف دفع الدية على القتل فحسب ، بل تعدى الى تلف الاعظاء كالعين والانف والشفة واللسان والاسنان ونحوها ، وتلف المنافع كالعقل والسمع ووالبصر والشم والنطق ونحوه ، والجراح المختصة بالرأس والوجه كالحارصة والدامية والباضعة والسمحاق والموضحة والهاشمة والمأمومة ونحوها . وفي غير ذلك يتعين الارش الذي تقدره الحكومة .
وبطبيعة الحال فان تقدير قيمة الضمان ، في النظام الاسلامي ، تخدم المجتمع عن طريق عاملين . الاول : تعويض الضحية او اسرته تعويضاً مالياً يسد حاجاتهم الاساسية التي حرموا من اشباعها بفقدن المعيل .


( 94 )

والثاني : ردع الانحراف الاجتماعي ، بابلاغ المنحرفين علنا بان انحرافهم لا يمر دون ثمن باهض يدفعونه لصالح الضحية وبالتالي لصالح النظام الاجتماعي . وهذا الضمان ليس واضحاً في نظام العقوبات الرأسمالي ، حيث يترك القانون الرأسمالي للقاضي او لهيئة المحلفين تعيين قيمة ذلك الضمان عند اقراره . واذا كان المنحرف لا يملك مالاً ضاع حق الضحية في التعويض المالي ، على عكس النظام الاسلامي الذي يتعهد فيه بيت المال بدفع الدية اذا عجز القاتل او عاقلته عن دفعها .
ثالثا : عامل الدقة في تشخيص العقوبات الخاصة بمختلف الانحرافات . ففي الوقت الذي حددت فيه الشريعة القتل العمد وارجعته الى قصد القتل او الفعل القاتل ، والقتل شبيه العمد وارجعته الى العمد في فعله والخطأ في قصده ، والقتل الخطأ وارجعته الى ارادة الفرد شيئاً فاصاب غيره ، فانها وضعت طرقاً دقيقة للاثبات ، منها الاقرار مرة واحدة ، والبينة الشرعية وهي شهادة العدلين ، واللوث او القسامة وهو تحليف المدعي وعشيرته في حالة قيام القرينة مع عدم استجماع شرائط القبول خمسين حلفاً . وبذلك وضع النظام الاسلامي المجتمع وجهاً لوجه امام الانحراف ، بالمشاركة الجماعية في اسستثصاله .
واضاف انه لا قصاص على المجنون ولا على الصبي ، ولكن دية انحرافهما تؤخذ من العاقلة ، لأن عمد الصبي والمجنون وخطأهما واحد . في نفس الوقت الزم المكلف البالغ بمسؤوليته في دفع الانحراف الاجتماعي ، بحيث ان الفرد لو اعتدى على آخر بجرح او قطع او ذهاب منفعة مهما كنت يسيرة ألزمه بتحمل مسؤوليتها كاملة .
رابعاً : العامل الاجتماعي في دفع الدية . وهو ما اصطلح عليه شرعاً بالعاقلة وهي عصبة القاتل وعشيرته التي تتحمل دية الخطأ كاملاً . فاذا لم تكن له عاقلة . تعين على المعتق دفع الدية . فاذا لم يكن ، فضامن الجريرة ، وفي انعدامه يكون الامام (ع) او بيت المال مسؤولاً عن دفعها للمجنى عليه . وتعتبر الدية في القتل العمد وشبه العمد في مال الجاني ، ولكنه اذا هرب اخذت من ماله ان كان له مال ، والا فمن قرابته الاقرب فالاقرب ، فان لم تكن له قرابة ، دفعها الامام (ع) مباشرة . اما العامد المتمكن مالياً ، فانه يمهل في دفع الدية مدة سنة واحدة ، بينما تمهل العاقلة ثلاث سنين .
ولا شك ان اشراك العاقلة في دفع الدية واشراك القسامة في التحليف حالة اللوث ، تعتبر ان من اهم العوامل الرادعة للانحراف الاجتماعي . لان الفرد ، لكونه كائناً اجتماعياً ، يرتبط بعشيرته ومحلته وقريته بروابط الزواج والاخوة والاسرية والمصلحة الاجتماعية . وهذه الروابط تقلل من فرص زيغه عن النظام الاجتماعي العام ، وتجعل الجريمة التي يرتكبها فضيحة اجتماعية تجلب عليه وعلى اسرته وعشيرته وصمة لا تمحو آثارها السنون . اما اذا كانت الجناية خطأ ، فن مشاركة العصبة او العشيرة في تسديد ثمنها المالي ، يعتبر بمثابه المشاركة الجماعية في مساعدة العائلة المفجوعة ، وتقويتها امام المحن والمصاعب الاقتصادية القادمة .
ويمكننا تلخيص اهمية العاقلة في المشاركة في دفع دية الخطأ بالنقاط التالية :
1 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع دية الخطأ يخفف من تحمل الفرد كاهل دفع تلك الدية لوحده ، هو مبلغ هائل ، كما تبين لنا ذلك في الصفحات الماضية .
2 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع الدية يساهم في تقوية العلاقات والاواصر الاجتماعية بين ابناء العشيرة الواحة ويجعلها تقف متحدة في المحن والمصائب التي يتعرض لها افرادها .
3 ـ ان جمع مبلغ الدية عن طريق العاقلة يخفف من العبء الذي تتحمله عائلة المجنى عليه ، خصوصاً اذا عجز الجاني عن تسديد ذلك المبلغ ، فتصبح العائلة المفجوعة ضحية لجريمة اقتصادية ومعايشة خارجة عن ارادتها . فتكون العاقلة عندئذ وسيلة ضمان لاستلام الدية .
خامساً : ان القيمومة الشرعية على الاسرة هو المقياس في مقدار الدية ، وليس تفضيل جنس على جنس كما يدعيه اعداء النظرية الدينية . فدية قتل الذكر المسلم عمداً الف دينار ذهب او نحوه ، ودية المرأة الحرة المسلمة على النصف من اصناف الديات الست ، سواء كانت الجناية عليها عمداً او خطأ او شبه عمد ، صغيرة كانت او كبيرة ، عاقلة كانت او مجنونة . وكذلك الجراح والقطع والشجاج فانه يتساوى مع الرجل قصاصاً ودية الى حد الثلث ، فان زاد عن الثلث رجعت ديتها على النصف من الرجل . وقد ذكرنا سابقاً ان مقادير هذه الديات لم توضع لتقدير قيمة المرأة ، فيكون مقدارها نصف قيمة الرجل . بل ان الاسلام اراد منها معالجة وضع ما بعد الجريمة .


( 95 )

فالرجل المقتول الذي يفترض فيه ان يكون معيلاً لعائلة ما ، تذهب ديته الى عائلته التي افتقدت المعيل ، فيكون الدخل المقدر بالف دينار ذهب او نحوه ضمان لنفقات العائلة المعيشية . اما المرأة المقتولة ، فان ديتها المقدرة بنصف دية الرجل تدخل وارد الرجل الذي يفترض فيه ان يكون قيماً على عائلته . زوجة كانت المجنى عليها او اختا او بنتا . ودليل آخر على مساواة الاسلام للمرأة والرجل في نظام العقوبات ، هو ان حد القذف وحد المسكر وهو ثمانون جلدة يتساوى فيه القاذف والشارب ، ذكراً كان أو أنثى .

سادساً : ان عقوبة الاجهاض في النظام الاسلامي ، تعتبر من ادق العقوبات التي جاءت بها الشريعة السماوية ، فقسمت ديتها بحسب عمر الجنين ، ففي النطفة المستقرة في الرحم عشرون ديناراً ، وفي العلقة اربعون ، وفي المضغة ستون ، وفي العظم ثمانون ، وفي الجنين التام الذي لم تلجه الروح مائة دينار ، وفي الجنين الذي ولجته الروح دية كاملة .
وفي حين حل الاسلام مشكلة الاجهاض من الصميم قبل نشوء الثورة الصناعية بقرون ، الا ان قضاة النظام الرأسمالي يحاولون لحد اليوم الاجابة على السوال الذي يناقش أحقية المرأة في الاجهاض . فمنذ تشريع المحكمة العليا الامريكية سنة 1973 م القاضي بشرعية الاجهاض في قضية ( جين رو ضد هنري ويد ) ، والقانون يتبدل بين شد وجذب ، ويمين ويسار ، وجواز وحرمة . وكلما يتبدل عضو من اعضاء المحكمة العليا يتبدل القانون الخاص بالاجهاض . وهذا الاضطراب دليل قوي على فشل النظام الرأسمالي في معالجة مشاكل قضائية خطيرة عالجها الاسلام بكل دقة قبل اربعة عشر قرناً من الزمان .


( 96 )

سابعاً : شرعية الدفاع عن النفس . وهو حق مشروع اقره الاسلام وحث عليه . بل اوجبه دفاعاً عن نفس ومال وعرض الفرد بكل الوسائل الممكنة كجرح المهاجم او قتله ، ولا يتحمل المدافع أية مسؤولية شرعية تجاه المهاجم . ولكن لا يجوز للمدافع التعدي الى القتل مع امكان الدفع بالجرح مثلاً ، واذا تعدى الى القتل بلا لزوم ، ضمن الدية .
ثامناً : ومع ان الاصل في تشريع العقوبات معالجة الانحراف ، الا ان الاسلام لم يترك جانب مساعدة المحرومين وتثبيت اسس العدالة الاجتماعية ، فشرع كفارة القتل ، حيث اوجبها اضافة الى الدية في قتل المؤمن عمداً ، او شبه العمد ، او الخطأ المحض . ففي قتل المؤمن عمداً وظلماً اوجب كفارة الجمع ، وفي قتل شبه العمد والخطأ المحض الكفارة المرتبة . ولا شك ان هذا اللون من الكفارات يصب في مصلحة الفقراء ايضاً، خصوصاً الاطعام ، تسليما كان او دعوة لهم لتناول وجبة غذائية كاملة . لان كل انحراف او معصية تعالجها الكفارة الكبيرة الخاصة بالاطعام ، تشبع ستين مسكيناً ، حيث يتوجب اكتمال عدد الذين ينبغي اطعامهم ، فلا يجزي اشباع الفرد مرتين . وهذه النظرة الانسانية في النظام الاسلامي ترفع الطبقة الفقيرة ، بجانب الموارد الحقوقية الاخرى ، الى مستوى الطبقة العامة من الناس .


( 97 )

2 ـ جرائم ضد الملكية

ـــــــــ

وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاسلامية الخاصة بالعقوبات الجنائية تنظر الى الجرائم المتعلقة بالملكية نظرة خاصة وترتب عليها عقوبات صارمة . لان ضمان سلامة حقوق الناس من تعدي الآخرين تعتبر من أهم اسباب استقرار النظام الاجتماعي وتطوره الاقتصادي . وتقسم النظرية الاسلامية ، الجرائم المتعلقة بالملكية الى قسمين . الاول : الانحرافات التي تؤدي الى سلب الملكية من مالكها قهراً وظلماً كالغصب ويتحقق بصدق الاستيلاء عرفاً على حق الغير . والثاني : السرقة وهي سلب مال الغير المودع في حرز سراً وفيها شروط . والسرقة اشد من الغصب ، ولذلك اوجب الشارع الحد فيها على السارق دون الغاصب . وحتى نفهم احكام الاسلام في الغصب والسرقة ، لابد من دراسة معنى وضع اليد على الشيء .

أحكام اليد


المراد بوضع اليد على الشيء ان يستطيع صاحبها التصرف بذلك الشيء تصرف المالك في ملكه ، كمن ملك داراً فاحب أن يسكنها او يستاجرها او يوهبها ، فله مطلق الحرية في التصرف بملكه . والاصل ، ان وضع اليد يدل على الملك ، والعبرة فيها هو الصدق العرفي .
ولا شك ان وضع اليد على الاموال يدل على الملكية ايضاً ، سواء كانت الاعيان منقولة او غير منقولة . وقد اتفق الفقهاء على ان وضع اليد على الملك لا يثبت الا بشرطين ، الاول : جهل كيفية ابتدء وضع اليد على


( 98 )

العين . والثاني: قابلية العين بطبيعتها للنقل والانتقال ، والتملك والتمليك ، فاذا كانت وقفاً تسقط اليد عن الدلالة على الملك .
وبالاجمال فان كان ما كان تحت استيلاء شخص وفي يده بشكل من الاشكال فهو محكوم بملكيته له ، سواء من الاعيان او المنافع او الحقوق او غيرها . فلو كانت في يده ارض زراعية موقوفة مدعياً انه هو المتولي ، يحكم بكونه متولياً على تلك الارض . ولو تنازع اثنان في عين مثلاً ، فان كانت تحت يد احدهما فالقول قوله بيمينه ، وعلى غيره البينة . ولو تنازع الزوجان في متاع البيت سواء حال الزواج او بعد الطلاق فيكون المتاع المختص بالرجال كألبستهم ومقتضياتهم ملك للرجل ، وما يكون للنساء كألبسة النساء ومقتضياتهن ملك للمرأة ، وما يكون للرجال والنساء ملك لهما معاً .


( 99 )

الغصب

ـــــــــ

والمقصود به ، الاستيلاء على مال الغير دون اذن المالك ، عيناً كان او منفعة . وبتعبير الفقهاء « الاستقلال باثبات اليد على مال الغير عدواناً » (1) .
وهو على انواع :
1 ـ غصب عين مع منفعة ، كغصب الدار من مالكها .
2 ـ غصب عين بلا منفعة ، كغصب المستأجر العين المستأجرة انتزاعاً من مالكها في مدة الاجارة .
3 ـ غصب منفعة مجردة ، كأخذ المؤجر العين المستأجرة انتزاعا من يد المستأجر والاستيلاء على منفعتها مدة الاجارة .
4 ـ غصب حق مالي متعلق بعين ، كالاستيلاء على عين مرهونة بالنسبة الى المرتهن الذي له فيها حق الرهانة .
وللغصب حكمان تكليفيان وحكم وضعي . وللحكمان التكليفيان : هما الحرمة ووجوب الرد على مالكه ، او وليه وجوباً فورياً . ويجري هذان الحكمان التكليفيان في جميع اقسام الغصب ، فالغاصب آثم فيها ويجب عليه الرد . والحكم الوضعي ، وهو ضمان اليد بمعنى كون المغصوب على عهدة الغاصب ، فاذا تلف المغصوب وجب على الغاصب دفع بدله ، عيناً كان او منفعة .
ويتحقق الغصب بصدق الاستيلاء على الشيء ، كأن يقهر مالك الدار
____________
(1) شرائع الاسلام ج3 ص235 .
( 100 )

بمغدرتها ويأمر اهله بسكن تلك الدار ، او يطرد راع لقطيع من الغنم ويستولي بعدئذ على غنمه ، او يجبر مزارعاً على ترك مزرعته ليحتلها بعد ذلك ، الى غير ذلك من الحالات .
وقد شدد الاسلام على حرمة غصب اموال الناس . وحرم التصرف بالمال مطلقاً الا مع العلم بالاذن الشرعي ، لقوله تعالى : ( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ) (1) ، وعوم قوله (ص) : ( لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه ) (2) ، وقول الامام : ( الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها ) (3) وقوله (ص) : ( من غصب شبراً من الارض طوقه من سبع ارضين ) (4) .

____________
(1) البقرة : 188 .
(2) الكافي ج7 ص274 .
(3) الوسائل ج17 ص309 .
(4) كنز العمال ج10 ص639 .

( 101 )

موجبات ضمان الغصب

ـــــــــ

واجمع الفقهاء على انه يحرم على الغاصب التصرف في الشيء المغصوب ، بل يجب عليه شرعاً رد العين المغصوبة ، او رد بدلها ان تلفت ، كما ذكرنا ذلك سابقاً . وحصروا موجبات الضمان في مواضع :
1 ـ المباشرة ، سواء كان المتلف عيناً كحرق الثوب ، او منفعة كسكنى الدار .
2 ـ التسبيب ، وهو « هو كل فعل يحصل التلف بسببه » (1) . ومصداقها قاعدة الغرر .
3 ـ اليد ، ومصاديقها العارية ، والمقبوض بالعقد الفاسد ، والمقبوض بالسوم .
4 ـ اجتماع المباشرة والتسبيب .
1 ـ المباشرة : وهو مباشرة الفرد اتلاف مال الغير بنفسه ، كأن يكسر اناءاً او يقطع شجرة ، او يهدم بيتاً ، قاصداً كان ام غافلاً ، عاقلاً كان ام مجنوناً ، بالغاً كان ام صبياً . فعلى المباشر ، في هذه الحالات ، الضمان ، لان الخطابات الوضعية تشمل الجميع . واذا اتلف الطفل او المجنون مال الغير ، يتحتم على الولي دفع البدل ان كان لهما مال ، والا انتظر المالك الميسرة . ويعتبر المتلف الضامن غاصباً في كل الحالات ، فان كان عاقلاً اثم مع تحقق الضمان ، ان كان قاصراً او مجنوناً لم يأثم ولكن عليه او على وليه الضمان لان الخطابات الشرعية الوضعية غير مقيدة بالعلم او الجهل ، ولا العمد او
____________
(1) شرائع الاسلام ج3 ص237 .
( 102 )

الخطأ .
2 ـ التسبيب : وهو اتيان الفرد بفعل يوجب التلف ، ولو بضميمة فعل آخر معه ، كالحفر الذي يؤدي الى وقوع المارة في وجرحهم ، بمعنى انه لو لم يتم الحفر لما وقع التلف . وفي حالة التسبيب يتوجب على الفاعل المسبب ان يدفع للمالك بدل التالف من المثل والقيمة ، لقول الامام الصادق (ع) : ( كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه ) .
وفي حالات معينة لا يضمن الفاعل المسبب ، التلف ، ومثالها : « ان من ارسل في ملكه ماء او اجج ناراً لمصلحته فتعدى الماء او النار الى ملك غيره فافسده واضر به لا يضمن شيئاً ، بشرط ان لا يزيد على مقدار حاجته من الماء والنار اولاً . وان لا يظن ان عمله مضر بغيره ثانياً ، لانه ماذون شرعاً بالتصرف ، وحديث ( الناس مسلطون على اموالهم ) لا يمنع من العمل به مانع » (1) .
وعلى نفس الصعيد ، اذا منع الظالم ، مالكاً من التصرف في ملكه ، دون أن يستولي عليه ، كأن منعه من السكن في داره ، ثم تصدعت بعد ذلك . ذهب المشهورين بين الفقهاء الى « ان الظالم يأثم ولا يغرم ، لان يده لم تثبت على العين ، فلا يكون غاصباً » (2) .
واذا منعه الظالم من بيع سلعته ، ثم تضررت قيمتها السوقية دون ان يصيب البضاعة ذاتها ضرر ، يأثم الظالم ولكنه لا يغرم ، لانه لم يفوت عليه العين ، بل فوت عليه الربح ، ولا ضمان في ذلك .
____________
(1) المسالك ـ باب الغصب .
(2) المسالك ـ باب الغصب .

( 103 )

ولكن في حالة حبس الفرد القادر على العمل والانتاج ، ظلماً وعدوانا ، قال بعض الفقهاء « عليه ضمان عمله ، لان في عدم الضمان ضرراً عظيماً ، فانه يموت هو وعياله جوعاً ، مع كون الحابس ظالماً معتدياً ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، والقصاص ، ونحو ذلك » (1) . وفي حالة غصب الحيوان ، فعلى الغاصب ضمانه وضمان منافعه .
ومن مصاديق التسبيب ايضاً قاعدة الغرر . ومثالها : بيع الفرد مال غيره بعنوان انه المالك ، وتصرف المشتري بينة صحة البيع ، ثم يتبين غش البائع وتدليسه .
3 ـ اليد : وهي من اسباب الضمان . ويمكن توضيحها بالمثال التالي : اذا استولى فرد على مال الغير بلا اذن فقد دخل في عهدة الغاصب وعليه مسؤولية تلفه اذا تلف . وعليه ارجاعه الى مالكه عيناً او ارجاع عوضه عن التلف . ولا يفرق سواء تعمد الاستيلاء عليه كالسارق ، او استولى عليه خطأ ، كمن اشتبهت عليه حاجته مع حاجة غيره ، لعموم : ( على اليد ما اخذت حتى تؤدي ) (2) ، الا ما خرج بدليل خاص كالولي والوصي والوكيل ونحوهم .
ويلحق باسباب الضمان عن طريق اليد :
أ ـ العارية : وهي عارية الذهب والفضة وغيرهما مع شروط الضمان ، فيضمنها المستعير مع عدم التعدي والتفريط .
ب ـ المقبوض بالعقد المعاوضي الفاسد ، فالمبيع او المثمن الذي يأخذه
____________
(1) مفتاح الكرامة ـ باب الغصب .
(2) مستدرك الوسائل ج3 ص145 .

( 104 )

المشتري ، والثمن الذي اخذه البائع في البيع الفاسد يكون ضمانهما كالمغصوب ، سواء كانا عالمين بالفساد ، اولا ، كذلك الاجرة التي يأخذها المؤجر في الاجارة الفاسدة ، لعوم ( على اليد ما أخذت حتى تؤدي ) ، ولان ( كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ) .
ج ـ المقبوض بالسوم : وهو اخذ المشتري الحاجة من اجل شرائها ، فتتلف في يده قبل ان يتم الشراء ، فعلى المشتري الضمان .
4 ـ اجتماع المباشرة والتسبيب : وفيه حالتان :
الاولى : ان يكون المباشر اقوى من المسبب ، فعليه الضمان . ومثالها : ان يحفر زيد حفرة ، فيأتي عمرو ويدفع خالداً نحوها فيقع فيها ويموت . فالضمان هنا يثبت على الدافع دون الحافر ، لان مباشرته اقوى من السبب .
الثانية : ان يكون المسبب اقوى من المباشر ، فعليه الضمان . ومثالها : التغرير وهو سرقة اموال الناس والتصدق بها بعنوان تملكه لها ، فيأخذها المحتاج ويتصرف بها معتقداً حلها . فيكون المسبب ، وهو السارق ، ضامناً دون المباشر ، وهو المحتاج . لانه لولا الغرر لما حصل التصرف في المال ، بناء على قاعدة تقول بان الضمان يستقر في النهاية على من تلف المال في يده الا اذا كان صاحب اليد مغرراً به . ومثالها ايضاً : الاكراه على اتلاف المال ، فيكون المكره ضامناً دون المباشر . لان المباشر ، في هذه الحالة ، اضعف من المسبب .


( 105 )

مسؤولية الغاصب

ـــــــــ

وبطبيعة الحال ، فان من مسؤولية الغاصب الشرعية رد المادة المغصوبة فوراً الى صاحبها ، وعليه مؤنة الرد مهما بلغت ، فاذا غصب اخشابا وبنى عليها داره مثلاً ، هدم البناء اذا توقف رد الخشب على الهدم (1) . واذا غير الغاصب صفة الشيء المغصوب ، كمن غصب حديداً وعمل منه آلة معينة ، وجب على الغاصب رد المغصوب مع الارش ان نقصت قيمته السوقية . اما اذا ازدادت قيمة المغصوب فلا شيء للغاصب . واذا تلفت العين المغصوبة وجب على الغاصب رد بدلها مثلاً او قيمة المغصوب الى المالك ، حتى لو كن سبب التلف طبيعياً . ويجب اولاً رد العين مع الامكان لان المالك صاحبها ، والا فالمثل مع الامكان لان المثل مساو للعين في الجنس والصفات ، وان لم يقدر فالقيمة لانها الطريق الوحيد لتخليص الذمة . والمراد بالمثلي في كلام الفقهاء هو الذي له مثل ، بمعنى انه مساو له في جميع ما له مدخلية في ماليته من صفاته الذاتية لا العرضية . وما عدا ذلك فهو قيمي . ومع رده « لا يرد زيادة القيمة السوقية وترد الزيادة لزيادة في العين او الصفة » (2) . وقيل ان على الغاصب دفع اعلى قيم المغصوب من حين الغصب الى حين التلف (3) ، « لان الغاصب مأخوذ باشق الاحوال لمكان تعديده فناسب عقوبته بضمان الزائد ، ولانه مضمون عليه في جميع حالاته فالزائد
____________
(1) شرائع الاسلام ج3 ص239 .
(2) شرائع الاسلام ج3 ص239 .
(3) السرائر لابن ادريس ص276 .

( 106 )

مال تلف على المالك فيكون مضموناً على الغاصب . ولان نقص الصفة انما ضمن بسبب نقص القيمة فيكون اولى بالضمان » (1) .
وعل صعيد آخر ، يضمن الغاصب ، المنافع المباحة للمالك ، فاذا اغتصب داراً فعليه ارجاعها وارجاع منفعتها من تأخير او نحوه الى المالك . واذا اغتصب شجرة ذابلة ، فسقاها حتى اينعت ، ثم عادت الى الهزالة مرة أخرى ، فعلى الغاصب ارجاعها الى المالك يانعة ، لان الصفات تتبع العين ، سواء حصلت عند المالك او الغاصب . فاذا تخلفت او فاتت بعض الصفات في يد الغاصب ، ضمنها للمالك .
ولكن اذا اغتصب فرد ارضاً فزرعها ، يكون الزرع حنيئذ للغاصب ، الذي يصيبه الاثم فق على عمله ، وترجع الارض لمالكها ، لقوله (ع) عندما سئل عن فرد زرع ارض فرد آخر بغير اذنه ، حتى اذا بلغ الزرع جاء صاحب الارض فقال : زرعت بغير اذني ، فزرعك لي ، وعلي ما انفقت ، أله ذلك ام لا ؟ : ( للزارع زرعه ، ولصاحب الارض كراء ارضه ) (2) .

____________
(1) التنقيح الرائع ج4 ص70 .
(2) التهذيب ج7 ص206 .

( 107 )

القاصة

ـــــــــ

واذا تعذر استرجاع المال المغصوب بالطرق الطبيعية المتعارف عليها ، جاز استخدام بعض الطرق الاستثنائية ، ومنها ، ما يعرف بالمقاصة ، التي عرفها الفقاء بانها « جعل ما له مثل ما على صاحبه » . ومثالها جعل الدين في مقابلة ا لدين . فيؤخذ من مال الغاصب لارجاع الحق المغصوب ، فان كان من جنس ماله جاز الأخذ بمقداره ، وان لم يكن جاز الأخذ بمقدار قيمته ، وان لم يكن الا ببيعه جاز بيعه واخذ مقدار قيمة ماله ورد الزائد . والمدار ان الحق لو كان دينا وكان المديون جاحدا او مماطلاً جازت المقاصة من ماله وذلك بالرجوع الى الحاكم الشرعي ، حيث تتحقق بالتسلط والأخذ من مال الغريم . ولا بد للمتسلط من مراعاة الاطار الاخلاقي الذي رسمه الاسلام ، فلا يجوز له التعدي ولا الافراط .
وللمقاصة شروط شرعية منها :
« الاول : كون المدعي جازماً بالاستحقاق ن فلو كان ظاناً ، او متوهماً لم يجز .
الثاني : عدم وقوع الفتنة المخشي معها تلف الانفس والاموال .
الثالث : عدم اداء المقاصة الى انتهاك العرض وسوء المقالة ، كما لو وجد عين ماله لو عوضها وخاف النسبة الى السرقة فعرض نفسه لسوء القول وقبح العاقبة .
الرابع : قال الشيخ وجماعة يشتر عدم كون المال وديعة عنده ،


( 108 )

لقوله (ص) : ( أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) (1) .
وقال غيره بالجواز ، لاصالة الجواز ومنع كن هذا خيانة بل احسان الى الغريم بابراء ذمته ، ولما روي ان النبي (ص) قال لهند بنت عتبة : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) (2) . ومال الرجل كالوديعة عند المرأة . نعم ذلك مكروه لمكان النهي » (3) .
____________
(1) التهذيب ج6 ص348 .
(2) سنن ابن ماجة ج2 ص769 .
(3) التنقيح الرائع للسيوري الحلي ج4 ص269 .