بحوث في علم الاجتماع الاسلامي (2)
ـــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
( ولن ترضى عنك اليهود ولا الانصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )
( 5 )
القسم الاول
نظرية الانتقال الانحرافي ونقدها * نظرية القهر الاجتماعي ونقدها * نظرية الضبط الاجتماعي ونقدها * نظرية الالصاق الاجتماعي ونقدها * « الجريمة » في المجتمع الرأسمالي الأمريكي * جرائم العنف * جرائم ضد الممتلكات * جرائم بدون ضحايا * جرائم الطبقة العليا * « المجرم » في النظام الرأسمالي * نظام العقوبات في المؤسسة الرأسمالية * « الجريمة » في نظرية الصراع الاجتماعي * نقد مفهوم « الجريمة » في نظرية الصراع * « عقوبة الموت » في النظام الرأسمالي * الاضطراب العقلي .
( 6 )
( 7 )
تعتقد نظرية الانتقال الانحرافي ان الانحراف سلوك مكتسب . حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم فرد اخر ، السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي . ويستند اعتقاد هذه النظرية ، على الفكرة القائلة بان مستوى الجرائم الحاصلة في محلة او مدينة معينة تبقى لسنوات عديدة مستقرة ضمن نسبها المئوية . أي ان الانحراف اذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار في تلك البيئة ، حيث يتعمق ذلك الانحراف في التركيبة الثقافية والاجتماعية للمحلة او المدينة وينتقل الطابع الانحرافي من فرد الى آخر ثم من جيل الى آخر دون ان يتغير الدافع الذي يؤدي الى ارتكاب الجريمة لدى هؤلاء الافراد .
وبموجب هذه النظرية فان هذا الطابع الاجرامي لمجموعة الافراد المنحرفين يساهم في اتساع دائرة الانحراف والاجرام عن طريق استقطاب افراد جدد . حيث يشبه رواد هذه النظرية ظاهرة الانحراف بآلة المغناطيس التي تجذب اليها نشارة الحديد فحسب ، وتترك نشارة الخشب وذرات التراب . فعندما يدخل الفرد المؤهل للانحراف ضمن هذه الدائرة ، توزن نظرته الشخصية للقيم الاجتماعية التي يؤمن بها ، من قبل افراد هذه المجموعة المنحرفة وتقيم ، ثم توضع تحت الاختبار ، وبعدها يصبح سلوكه الاجتماعي مرهونا بالقبول من قبل المنحرفين . وعندما يتم ذلك ، تنقلب الموازنات الاجتماعية في تصوراته الجديدة ، فيصبح عندئذ الانحراف اعتدالا
( 8 )
والاعتدال انحرافا .
ولما كان الانسان يولد نقيا من بذرة الانحراف ، فان العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الاجرامية ، لا بد وان تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفولة وحتى البلوغ . بمعنى ان هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعشها الفرد خلال ادوار نموه المختلفة . وهذه العوامل ، حسب زعم نظرية الانتقال ، هي اولا : قرب ارتباطه بالمنحرفين عن طريق الصداقة والمودة . ثانياً : عامل العمر ، فإذا شب الفرد في محيط منحرف ، فان شخصيته اليافعة تكون اكثر تقبلا للانحراف من شيخ طاعن في السن . ثالثاً : النسبة بين انفتاحه على الافراد الذين يعتبرهم المجتمع سائرين على خط الاعتدال وبين انفتاحه على الافراد الذين يعتبرهم المجتمع منحرفين عن الخط المتفق عليه . فاذا كانت نسبة الاتصال والانفتاح على المنحرفين اكبر كانت فرص انحراف ذلك الفرد اعظم .
( 9 )
وتنظر نظرية الانتقال الانحرافي الى بعض جوانب الانحراف واسبابه فتعطي تحليلا مسهبا لعمل المنحرفين المناوئين لتوجهات المجتمع الكبير، وتزعم ان التوجه الاجتماعي لهؤلاء يعد انحرافا عن توجه التيار العام ، فمثلاً تعتبر عمل المجموعات السياسية المسلحة بكافة اشكالها انحرافا عن الخط العام للنظام الاجتماعي . وتعتبر عمل منظمات التهريب انحرافا عن الخط الاجتماعي العام ، لان المهربين يخالفون القانون الذي اقر المجتمع الكبير احترامه ومراقبته وتطبيقه على كافة الافراد بكل دقة ودوون استثناء . فتجمع المهربين الصغير منحرف عن المجرى الاجتماعي العام في نظر افراد المجتمع عموما ، على عكس نظرة افراد المجموعة المهربة لبعضها البعض حيث تعتقد ان عملها هذا ليس انحرافا عن الخط الاجتماعي العام . بل ان الانحراف الحقيقي ينبع من النظام الاجتماعي نفسه الذي يساهم في تجريمهم وابعادهم عن الساحة الاجتماعية بما فيها من خيرات وفرص ، ولذلك فهم يستخدمون التهريب في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لهم ولذويهم . ولهذا السبب نلاحظ ان هؤلاء الافراد لا ينظرون الى عملهم نظرة اجرامية ولا يتصورون ان توجههم الفكري بعيد عن المنحى الاخلاقي السليم . والدليل على ذلك ان اغلب هؤلاء المجرمين يرجعون الى سابق عهدهم في الاجرام عندما يطلق سراحهم من السجون بعد قضائهم مدد عقوباتهم فيها .
ومع ان هذا التحليل يسلط ضوءا على بعض جوانب المشكلة الانحرافية في المجتمع ، الا ان هذه النظرية لا تخلو من نواقص وهفوات.
( 10 )
حيث تعجز عن تفسير ظاهرة اجتماعية بارزة تعكس تناقض فكرة الانتقال الانحرافي من الصميم . فالكثير من الصبيان الذين ينشأون في مجتمع اجرامي لا يتعلمون الاجرام من اهلهم واصدقاهم والبيئة التي يعيشون فيها ، ولا تتبلور في نفوسهم الشخصية الاجرامية المناوئة للمجرى الاجتماعي العام ، بل ان الذي يدفعهم للاجرام والانحراف حاجاتهم الاساسية التي لم يشبعها النظام الاجتماعي . فكيف تطبق نظرية الانتقال آراءها على هؤلاء الافراد ؟ ، اضف الى ذلك ان هناك افراداً يعيشون في بيئة شديدة الانحراف ويلتقون بافراد المجموعة المنحرفة بشكل مستمر ، ولكنهم لا ينشأون في حياتهم الاجتماعية نشأة اجرامية . بل ان هناك أفراداً من الطبقة الرأسمالية الغنية ممن لا يرتبطون بأية فئة منحرفة اجتماعياً ، ثم ينشأؤن في حياتهم التطورية نشأة اجرامية ، فكيف تفسر وتحلل نظرية الانتقال ذلك السلوك الاجرامي ؟ علماً بان الانحراف عموما لا يحتاج الى معلم ، فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته ، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل ، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته . وفي كل هذه الجرائم يكون الدافع اهم من الفعل نفسه . ولكن نظرية الانتقال تفشل في تحليل دوافع الانحراف وكشف اسباب نشوء الجريمة ، بل انها تحاول صب جهدها في تفسير وسائل الجريمة كتعلم الطرق الفنية للانحراف وتقليد المنحرفين والاختلاط بهم . وهذا العجز عن تفسير نشوء الجريمة يدل على قصور هذه النظرية وعدم تمييزها بين الانحراف الاقتصادي عن الانحراف الاخلاقي والسياسي .
( 11 )
ويؤمن مصممو هذه النظرية بان الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الافراد تجاه البعض الاخر ، فالفقر مرتع خصب للجريمة ، والفقراء يولدون ضغطاً ضد التركيبة الاجتماعية للنظام ، مما يؤدي الى انحراف الافراد . بمعنى ان الفقر ، باعتباره انعكاساً صارخا لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات ، يولد رفضا للقيم والاخلاق الاجتماعية التي يؤمن بها الرعيل الاكبر من افراد النظام الاجتماعي . ولو اختل توازن القيم الاجتماعية ، كا يعتقد ( اميلي ديركهايم ) من رواد هذه النظرية الاوائل ، فان حالة الفوضى والاضطراب ستسود الافراد والمجتمع . ومثال ذلك ، ان التطور الصناعي الذي حدث في البلدان الرأسمالية في القرون الثلاثة الماضية ادى الى اختلال في توازن القيم الاخلاقية والاجتماعية ، الذي ادى بدوره الى شعور الناس بانعدام وضوح منارات الهداية ومعالم الاخلاق . ونتيجة لذلك فقد ضعف وازع السيطرة على سلوك الانسان الرأسمالي خصوصاً على نطاق الشهوة والرغبة الشخصية ، فاصبح الفرد منحلاً متهتكا لا يرى ضرورة لفرض التهذيب الاجتماعي القسري عليه وعلى الافراد المحيطين به .
ويدعى زعماء هذه النظرية ايضاً بان الانحراف يعزى الى عدم التوازن بين الهدف الذي يبتغيه الفرد في حياته والوسيلة التي يستخدما لتحقيق ذلك الهدف في النظام الاجتماعي . فاذا كان الفارق بين الاهداف الطموحة والواسائل المشروعة التي يستخدمها الافراد كبيرا ، اصبح
( 12 )
الاختلال الاخلاقي لسلوك الفرد امرا واضحاً . فحسب ادعاء النظام الراسمالي ، يستطيع الفرد ، نظريا ، ان يصبح اغنى انسان في المجتمع بجهده وعرقه ، او ان يمسي فاشلا في تحصيل رزقه اليومي . ولكن نظرة سريعة الى الواقع الخارجي تفصح شيئاً مختلفا . فلا يستطيع كل الافراد ان يكونوا اغنياء في وقت واحد لان المال محدود بحدوده النظام الاجتماعي والاقتصادي ، فاذا تراكم المال عند الطبقة الغنية فانه سيسبب حرمانا ونقصانا عند الطبقة الفقيرة . فالفرد الذي لا يصل الى تحقيق اهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعيا ، يسلك مسلكا منحرفا يؤدي به الى هدفه كالسرقة ، والرشوة ، وبيع المواد التي يحرمها القانون . وهنا يلعب القهر الاجتماعي دورا في توليد ضغط لدى بعض الافراد كي ينحرفوا اجتماعياً .
( 13 )
وبطبيعة الحال ، فان ركون النظام الى القهر الاجتماعي ناتج اساسا من عجزة في سد واشباع حاجات الفرد اشباعا يتناسب مع كرامة الانسان وحقه في العيش الكريم الرغيد . ولا ريب ان الاغنياء المتسلطين على رأس المال ، والحكام المتسلقين على اكتاف الناس لا يريدون للفقراء نفض غبار الفقر عن اسمالهم البالية ، والنهوض الى طبقة اجتماعية ارفع وارقى . فلكي يبقى اصحاب الرأسمال في مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية ، فانهم يسلطون على الفقراء من يظلمهم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا . ولذلك يشكل الانحراف ظاهرة رفض خطيرة ضد النظام الاجتماعي القائم على اساس الظلم انعدام العدالة الاجتماعية .
ومع ان نظرية القهر الاجتماعي تتقدم تحليلاً وجيها لمنشأ الانحراف الا انها تتجاهل الانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والامراض النفسية . وتفشل هذه النظرية ايضا في الاجابة على تساؤلات كثيرة منها : لماذا يميل بعض افراد الاطبقة الرأسمالية الغنية الى الاجرام ، كالقتل والاعتداء والاغتصاب ، في حين انهم يملكون كل وسائل الثروة والمنزلة الاجتماعية ؟ ولماذا يستخدم بعض الاغنياء طرق الرشوة والاحتيال لجمع اقصى ما يمكن جمعه من الاموال مع انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم ؟ ولماذا يقبل بعض الفقراء القهر الاجتماعي وينحرف اخرون عن القوانين التي اقرها النظام الاجتماعي ؟ بل من الذي يحدد الانحراف ومن الذي يحدد الاستقامة في النظام الاجتماعي ؟ ومع ان هذه النظرية لا تجيب على هذه التساؤلات الا
( 14 )
انها اعمق تحليلا من بقية النظريات الخاصة بمعالجة اسبابا النحراف الاجتماعي .
( 15 )
وتعتقد نظرية الضبط الاجتماعي ان الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الافراد . فتبدأ بطرح رأيها عبر تساؤل غير معهود قائلة : كيف لا ينحرف الافرا د ، وامام اعينهم كل هذه المغريات ؟ فللانحراف اذن ، حسب زعمها ، مكافأة اجتماعية يحصل عليها المنحرف مهما كان نوع انحرافه . والاصل ان سلوك الافراد المعتدل في النظام الاجتماعي انما ينشأمن سيطرة المجتمع ، عن طريق القانون ، على تعاملهم مع الآخرين ، ولكن لو ألغي القانون الهادف الى تنظيم حياة الناس ، لما حصل هذا الاعتدال الاجتماعي في السلوك ، ولانحرف افراد المجتمع بسبب الرغبات والشهوات الشخصية .
وتعتمد هذه النظرية على تجارب اميلي دركيهايم ايضاً ، الذي اكد على ان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الافراد ، فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف ، على عكس المجتمع المنحل . فلو درسنا نسب انتحار الافراد في المجتمع الانساني للاحظنا انها اكثر انتشارا في المجتمعات التي لا تقيم لصلة الرحم وزناً والمجتمعات التي لاتهتم بعلاقات القربى والعشيرة . وعلى هذا الاساس بنى رواد هذه النظرية رأيهم القائل بأن افراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والانسانية اكثر طاعة للقانون واكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من افراد المجتمع المتحلل في علاقات افراده الاجتماعية .
ويرى رواد هذه النظرية ، انه من اجل منع الانحراف الاجتماعي بين
( 16 )
الافراد لابد من اجتماع اربعة عناصر هي :
1 ـ الرحم والقرابة : حيث ان شعور الافراد بصلاتهم الاجتماعية المتينة يقلل من فرص انحرافهم . فالفرد يشعر بالمسؤولية الاخلاقية والالزام العاطفي في اغلب الاحيان ، تجاه عائلته واصدقائه وعشيرته . وهذه المسؤولية حكمها حكم القانون الاجتماعي في المجتمعات الانسانية ، فاي خرق لهذه القوانين الاجتماعية يؤدي الى عزل الفرد المنتهك لحرمتها ، اجتماعياً ؛ وهذا العزل يعتبر عقوبة شخصية رادعة ، لان المقاطعة الاجتماعية عقوبة قاهرة ضد المنحرف . اما الافراد الذين لا تربطهم صلة رحم او قرابة بالآخرين ، فهم اقل اكتراثاً للمخاطر التي يترتب عليها ارتكاب الجرم او الجناية ، لان السرقة مثلا لا تعرض التزاماتهم الاجتماعية للخطر ، فانهم ابتداء لا يلزمون انفسهم بالالتزامات الشخصية المعهودة بين الافراد .
2 ـ الانشغال الاجتماعي : وهو انغماس الفرد في نشاطات اجتماعية سليمة تستهلك طاقته الفكرية والجسدية ، كالخطابة ، والكتابة والهوايات الرياضية والرحلات وادارة الجمعيات الخيرية . وهذا الانشغال يقلل من فرص الانحراف . اما الافراد الذين لا يملكون عملاً او هواية تستوعب اوقاتهم ، فغالباً ما تنفتح لهم ابواب الانحراف .
3 ـ الالتزام والمتعلقات : وهو استثمار الافراد اموالهم عن طريق شراء وتملك العقارات والمنافع والمصالح التجارية . ولا شك ان مصلحة هؤلاء الافراد المالية والتجارية تقتضي منهم دعم القانون والنظام الاجتماعي . اما اولئك الذين لا يملكون داراً او عقارا او لا يستثمرون في المجتمع اموالهم ولا اولادهم ، فانهم معرضون للانحراف اكثر من غيرهم .
( 17 )
4 ـ الاعتقاد : وهو ان الاديان عموماً تدعو معتنقيها الى الالتزام بالقيم والمبادئ الخلقية . فالمؤمنون بالاديان السماوية يحرمون على انفسهم سرقة اموال الغير ، لان هذه الاديان تأمرهم بالتكسب الشرعي الحلال وبذلك تضمن لهم معيشة كريمة . ويقوم الدين ايضا بتهذيب السلوك الشخصي للافراد في كل مجالات الحياة الاجتماعية .
وبالجملة ، فان الافراد الذين تربطهم الاواصر الاجتماعية المتينة ، وينغمسون في اعمالهم ونشاطاتهم ويستثمرون في المجتمع اموالهم واولادهم ويطبقون بكل ايمان احكام دينهم ، فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي ، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم .
ولا شك ان هذه النظرية تعد من اقرب النظريات الرأسمالية للواقع الاجتماعي ، وافضلها على الاطلاق من حيث تحليل الرابط الاجتماعي ودوره في تقليل الجريمة . فالمشردون والجياع في المجتمعات الانسانية يفتقدون الارحام والاقارب افتقاداً مادياً ومعنوياً ، فقد ينحرف الابن اذا افتقد المعيل ، وقد تنحرف البنت اذا كان ولي امرها منغمساً بشهواته ولذاته . هؤلاء الجياع والمشردون يشكلون بذور الجريمة في المجتمع الانساني ، وما الازقة الظالمة في المدن الكبيرة الا اراضي خصبة لانبات الانحراف ، لان هؤلاء المشردين يفتقدون العناصر الاربعة التي آمنت نظرية
( 18 )
الضبط الاجتماعي بضرورة تواجدها ، لبناء المجتمع السليم الخالي من امراض الانحراف .
ومع كل هذه النواحي الايجابية في نظرية الضبط ، الا انها لا تخلو من هفوات ونواقص ايضاً . فهي لا تتعرض الى الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الغنية الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي . فالرأسماليون الاغنياء ، يتمتعون بافضل الصلات العائلية ، ويمارسون افضل الهوايات البدنية ، والفكرية ، ويستثمرون اموالهم المتراكمة في العقارات والمزارع والمصانع ، ويعتقدون بديانتهم النصرانية واليهودية ، ولكن الكثير منهم مع كل ذلك يرتكب جرائم الاغتصاب الجنيسي ، والسرقات العظيمة ، واستخدام المخدرات ، والتآمر لقتل المناوئين . وهؤلاء الافراد الاغنياء متكاملون مع النظام الاجتماعي مدافعون عنه بكل حماس لانه يحميهم ويحمي ممتلكاتهم ، ولكنهم مع ذلك ينحرفون عن المجرى الاخلاقي العام ، فكيف تفسر نظرية الضبط الاجتماعي هذا السلوك ؟ وكيف تفسر هذه النظرية انحراف الافراد الذين يملكون استثمارات واسعة ، لا لشيء الا لزيادة الثروة والسيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ؟ الا يعد خرق القوانين الاقتصادية المقررة من قبل النظام الاجتماعي انحرافاً عن خط المجرى العام للمجتمع ؟ او ليس خرق القوانين والتعليمات السياسية المقررة من قبل النظام السياسي انحرافاً عن الخط الاجتماعي العام ؟
( 19 )
وتبني هذه النظرية رأيها على فكرة مهمة لم تتطرق اليها النظريات الاجتماعية السابقة . فتقول ان الانحراف الاجتماعي ناتج من نجاح مجموعة من الافراد بالاشارة الى افراد آخرين بانهم منحرفون . فاذا الصقت الطبقة الرأسمالية المسيطرة في اروبا مثلاً فكرة « التخلف » بالافارقة ، وكرروها في وسائلهم الاعلامية ، اصبح الافارقة جميعاً متخلفين في المرآة الاجتماعية الأوروبية ، واذا الصقت نفس الطبقة فكرة « التحضر » على الشعب الامريكي ، اصبح الامريكان متحضرين في نفس المرآة الاجتماعية الاوروبية حتى لو كان الواقع عكس ذلك . وتستد فكرة الانحراف التي تؤمن بها هذه النظرية ، على فرضية الصراع الاجتماعي بين الافراد ومحاولة اتهام بعضهم البعض بالحيود عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي .
وتقسم هذه النظرية الانحراف الى قسمين :
الاول : الانحراف المستور ، وهو الانحراف الذي يرتكبه اغلب الافراد في فترة ما من فترات حياتهم ، ويبقى مستوراً دون ان يكتشفه احد . فقد يسرق الطفل مالاً من ابيه ، ولكنه يتحول بعد البلوغ الى فرد معتدل في حياته الاجتماعية اللاحقة . وقد يتحايل فرد ثري مرة واحدة على دفع الضريبة الحكومية ، ولكن سلوكه العام سلوك مقبول من الناحية الاجتماعية . وقد يحدث فرد نفسه بانحراف فكري ، ولكنه سرعان ما يعود الى رشده ويبقى سلوه الاجتماعي مستقيماً .
والثاني : الانحراف الظاهر ، فعندما يتهم نفس هؤلاء الافراد بالانحراف
( 20 )
علنيا ، يتبدل الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين تبدلا جذرياً . فاذا الصقت تهمة السرقة بشخص مثلاً ، وتهمته التحايل بشخص آخر ، وتهمة الزندقة بشخص ثالث ، شعر هؤلاء الافراد بالاهانة والذل ، لان الاثار المترتبة على انحرافهم تعني اولاً : انزال العقوبات التي اقرها النظام الاجتماعي بهم ، وثانياً : افتضاح امرهم امام الناس ، وثالثاً : انعكاس ذلك الافتضاح على معاملة بقية الافراد لهم ، ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والاحتيال والزندقة انما وضعها في الواقع ، النظام الاجتماعي والسياسي والصقها بهؤلاء الافراد . وهذا الالصاق هو الذي يعرف المجتمع الكبير بانحراف الافراد عن النظام المقرر . وعلى هذا الاساس يتصرف المنحرف بقبوله التعريف الاجتماعي ورضوخه للعقوبة الصادرة بحقه . ولو كان المجتمع لا يعترف بهذا الالصاق لما اصبح المنحرف منحرفا ، ولما قبل المنحرف بالعقوبة الصادرة بحقه ولاعتبرها اجحافاً . فالزنى في المجتمع الاسلامي مثلاً انحراف عن الخط العام للمجرى الاجتماعي ويستحق مرتكبه عقوبة جسدية ، اما في المجتمع الرأسمالي فان الزنى قضية شخصية ، وليست انحرافاً عن الخط العام للمجرى الاجتماعي ، بل انه انحراف عن الخط العام للمجرى الشخصي ، اذا ما افترضنا ان الزواج هو السلوك عن الخط العام المقبول اجتماعياً . وطالما الصق المجتمع تهمة الانحراف بالافراد الشاذين عن الطريقة المتبعة ، فان دائرة الانحراف ستتسع مع مرور الزمن لان هؤلاء المنحرفين ينظرون الى انفسهم بالمرآة الاجتماعية التي تدينهم وتحدد من علاقاتهم الاجتماعية ، فيتقارب المنحرفون بسبب الضغط الاجتماعي المسلط على سلوكهم ، فيصبح لهم مجتمعهم الانحرافي الصغير داخل المجتمع الانساني الكبير .
( 21 )
وليس هناك ادنى شك من ان نظرية الالصاق تتناول قضية مهمة وخطيرة ، وهي ان الفرد يصبح منحرفاً في سلوكه عندما يتهمه الافراد الاقوياء في النظام الاجتماعي بالانحراف . فاذا اراد رجال الكنيسة مثلاً ادائة الاجهاض او مهاجمة فكرة الطلاق ، فما عليهم الا ان يلهبوا شعور الري العام بذلك ويتهموا من يقوم بعمل الاجهاض او الطلاق بالانحراف عن تعاليم الكنيسة . وهنا يحتدم الصراع بين النظريات الاخلاقية المتنافسة ، فاذا نجح مسعى رجال الكنيسة بالصاق فكرة الانحراف بمناوئيهم ، اعتبر سلوك رجال الكنيسة الشكل الطبيعي للسلوك الاجتماعي ، اما سلوك المتهمين فسيوصم بالانحراف . وتعتمد طريقة تجريم الافراد ايضاً على اسلوب تفكير المجموعة المتهمة التي تملك وسائل القوة والثروة والمنزلة الاجتماعية . فمد اليد استعطاء في الطرقات من قبل المعدمين يعد انحرافاً ، في نظرها ؛ اما تبذير الثروة من قبل الاغنياء فانه لا يعد انحرافاً في النظام الاجتماعي ، لان الاقوياء هم الذين يلصقون التهم بالفقراء . وشرب الخمر في النظام الاجتماعي الرأسمالي لا يعد جريمة ولا انحرافاً مع انه يسبب ضرراً معتداً به عند العقلاء ، ولكن استخدام المخدرات كالحشيش ونحوه يعتبر انحرافاً ومنافاة للقانون . ويرجع السبب في التمييز بالصاق تهمة هذا الانحراف ان الشركات التي تنتج مواد الخمر والتدخين ونحوها اقوى وامضى في النظام الرأسمالي من تلك التي تنتج المخدرات .
ومع ان لهذه النظرية آراء وجيهة في تفسير ظاهرة الانحراف
( 22 )
الاجتماعي الا انها لا تخلو من بعض الهفوات ايضاً . فالنظرية تبرر ظاهرة الانحراف المستور . ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به او عدم الصاقها به . والمحتال في دفع الضريبة يعد محتالاً ان الصقت التهمة به ام لا ، والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الاحوال أالصقت التهمة به ام لم تلصق . ومن مساويء هذه النظرية انها تعطي مبرراً لا ستمرار الانحراف ، فالمنحرف يجد عذراً بالقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة ، وزناً . وهذا يتنافى مع الاصول العامة للتجريم الذي يأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار .
***
والخلاصة ، ان النظريات الاجتماعية الرأسمالية الاربع المذكور آنفاً تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل مفردات الواقع الاجتماعي . فهذه النظريات منفصلة لا تستطيع تفسير جرائم القمار ، وانحراف الاحداث ، وتعاطي المخدرات ، والتحايل في دفع حقوق الفقراء . وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجريمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الاجرام الفردي والجماعي في المجتمع الانساني .
ـــــــــــــــــــ
الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ
وأساليب العلاجبحث في نقد النظريـة الاجتماعية الغربية وتطـبـيقتها ، ومحـاولة تقـديم نظرية اجتماعية اسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) . |
زهير الاعرجي
( ولن ترضى عنك اليهود ولا الانصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير )
البقرة : 120 .
القسم الاول
الانحراف الاجتماعي في النظرية الراسمالية
نظرية الانتقال الانحرافي ونقدها * نظرية القهر الاجتماعي ونقدها * نظرية الضبط الاجتماعي ونقدها * نظرية الالصاق الاجتماعي ونقدها * « الجريمة » في المجتمع الرأسمالي الأمريكي * جرائم العنف * جرائم ضد الممتلكات * جرائم بدون ضحايا * جرائم الطبقة العليا * « المجرم » في النظام الرأسمالي * نظام العقوبات في المؤسسة الرأسمالية * « الجريمة » في نظرية الصراع الاجتماعي * نقد مفهوم « الجريمة » في نظرية الصراع * « عقوبة الموت » في النظام الرأسمالي * الاضطراب العقلي .
نظرية الانتقال الانحرافي |
ـــــــــ |
تعتقد نظرية الانتقال الانحرافي ان الانحراف سلوك مكتسب . حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم فرد اخر ، السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي . ويستند اعتقاد هذه النظرية ، على الفكرة القائلة بان مستوى الجرائم الحاصلة في محلة او مدينة معينة تبقى لسنوات عديدة مستقرة ضمن نسبها المئوية . أي ان الانحراف اذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار في تلك البيئة ، حيث يتعمق ذلك الانحراف في التركيبة الثقافية والاجتماعية للمحلة او المدينة وينتقل الطابع الانحرافي من فرد الى آخر ثم من جيل الى آخر دون ان يتغير الدافع الذي يؤدي الى ارتكاب الجريمة لدى هؤلاء الافراد .
وبموجب هذه النظرية فان هذا الطابع الاجرامي لمجموعة الافراد المنحرفين يساهم في اتساع دائرة الانحراف والاجرام عن طريق استقطاب افراد جدد . حيث يشبه رواد هذه النظرية ظاهرة الانحراف بآلة المغناطيس التي تجذب اليها نشارة الحديد فحسب ، وتترك نشارة الخشب وذرات التراب . فعندما يدخل الفرد المؤهل للانحراف ضمن هذه الدائرة ، توزن نظرته الشخصية للقيم الاجتماعية التي يؤمن بها ، من قبل افراد هذه المجموعة المنحرفة وتقيم ، ثم توضع تحت الاختبار ، وبعدها يصبح سلوكه الاجتماعي مرهونا بالقبول من قبل المنحرفين . وعندما يتم ذلك ، تنقلب الموازنات الاجتماعية في تصوراته الجديدة ، فيصبح عندئذ الانحراف اعتدالا
والاعتدال انحرافا .
ولما كان الانسان يولد نقيا من بذرة الانحراف ، فان العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الاجرامية ، لا بد وان تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفولة وحتى البلوغ . بمعنى ان هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعشها الفرد خلال ادوار نموه المختلفة . وهذه العوامل ، حسب زعم نظرية الانتقال ، هي اولا : قرب ارتباطه بالمنحرفين عن طريق الصداقة والمودة . ثانياً : عامل العمر ، فإذا شب الفرد في محيط منحرف ، فان شخصيته اليافعة تكون اكثر تقبلا للانحراف من شيخ طاعن في السن . ثالثاً : النسبة بين انفتاحه على الافراد الذين يعتبرهم المجتمع سائرين على خط الاعتدال وبين انفتاحه على الافراد الذين يعتبرهم المجتمع منحرفين عن الخط المتفق عليه . فاذا كانت نسبة الاتصال والانفتاح على المنحرفين اكبر كانت فرص انحراف ذلك الفرد اعظم .
نقد نظرية الانتقال الانحرافي |
ــــــــــ |
وتنظر نظرية الانتقال الانحرافي الى بعض جوانب الانحراف واسبابه فتعطي تحليلا مسهبا لعمل المنحرفين المناوئين لتوجهات المجتمع الكبير، وتزعم ان التوجه الاجتماعي لهؤلاء يعد انحرافا عن توجه التيار العام ، فمثلاً تعتبر عمل المجموعات السياسية المسلحة بكافة اشكالها انحرافا عن الخط العام للنظام الاجتماعي . وتعتبر عمل منظمات التهريب انحرافا عن الخط الاجتماعي العام ، لان المهربين يخالفون القانون الذي اقر المجتمع الكبير احترامه ومراقبته وتطبيقه على كافة الافراد بكل دقة ودوون استثناء . فتجمع المهربين الصغير منحرف عن المجرى الاجتماعي العام في نظر افراد المجتمع عموما ، على عكس نظرة افراد المجموعة المهربة لبعضها البعض حيث تعتقد ان عملها هذا ليس انحرافا عن الخط الاجتماعي العام . بل ان الانحراف الحقيقي ينبع من النظام الاجتماعي نفسه الذي يساهم في تجريمهم وابعادهم عن الساحة الاجتماعية بما فيها من خيرات وفرص ، ولذلك فهم يستخدمون التهريب في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لهم ولذويهم . ولهذا السبب نلاحظ ان هؤلاء الافراد لا ينظرون الى عملهم نظرة اجرامية ولا يتصورون ان توجههم الفكري بعيد عن المنحى الاخلاقي السليم . والدليل على ذلك ان اغلب هؤلاء المجرمين يرجعون الى سابق عهدهم في الاجرام عندما يطلق سراحهم من السجون بعد قضائهم مدد عقوباتهم فيها .
ومع ان هذا التحليل يسلط ضوءا على بعض جوانب المشكلة الانحرافية في المجتمع ، الا ان هذه النظرية لا تخلو من نواقص وهفوات.
حيث تعجز عن تفسير ظاهرة اجتماعية بارزة تعكس تناقض فكرة الانتقال الانحرافي من الصميم . فالكثير من الصبيان الذين ينشأون في مجتمع اجرامي لا يتعلمون الاجرام من اهلهم واصدقاهم والبيئة التي يعيشون فيها ، ولا تتبلور في نفوسهم الشخصية الاجرامية المناوئة للمجرى الاجتماعي العام ، بل ان الذي يدفعهم للاجرام والانحراف حاجاتهم الاساسية التي لم يشبعها النظام الاجتماعي . فكيف تطبق نظرية الانتقال آراءها على هؤلاء الافراد ؟ ، اضف الى ذلك ان هناك افراداً يعيشون في بيئة شديدة الانحراف ويلتقون بافراد المجموعة المنحرفة بشكل مستمر ، ولكنهم لا ينشأون في حياتهم الاجتماعية نشأة اجرامية . بل ان هناك أفراداً من الطبقة الرأسمالية الغنية ممن لا يرتبطون بأية فئة منحرفة اجتماعياً ، ثم ينشأؤن في حياتهم التطورية نشأة اجرامية ، فكيف تفسر وتحلل نظرية الانتقال ذلك السلوك الاجرامي ؟ علماً بان الانحراف عموما لا يحتاج الى معلم ، فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته ، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل ، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته . وفي كل هذه الجرائم يكون الدافع اهم من الفعل نفسه . ولكن نظرية الانتقال تفشل في تحليل دوافع الانحراف وكشف اسباب نشوء الجريمة ، بل انها تحاول صب جهدها في تفسير وسائل الجريمة كتعلم الطرق الفنية للانحراف وتقليد المنحرفين والاختلاط بهم . وهذا العجز عن تفسير نشوء الجريمة يدل على قصور هذه النظرية وعدم تمييزها بين الانحراف الاقتصادي عن الانحراف الاخلاقي والسياسي .
نظرية القهر الاجتماعي |
ـــــــــ |
ويؤمن مصممو هذه النظرية بان الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الافراد تجاه البعض الاخر ، فالفقر مرتع خصب للجريمة ، والفقراء يولدون ضغطاً ضد التركيبة الاجتماعية للنظام ، مما يؤدي الى انحراف الافراد . بمعنى ان الفقر ، باعتباره انعكاساً صارخا لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات ، يولد رفضا للقيم والاخلاق الاجتماعية التي يؤمن بها الرعيل الاكبر من افراد النظام الاجتماعي . ولو اختل توازن القيم الاجتماعية ، كا يعتقد ( اميلي ديركهايم ) من رواد هذه النظرية الاوائل ، فان حالة الفوضى والاضطراب ستسود الافراد والمجتمع . ومثال ذلك ، ان التطور الصناعي الذي حدث في البلدان الرأسمالية في القرون الثلاثة الماضية ادى الى اختلال في توازن القيم الاخلاقية والاجتماعية ، الذي ادى بدوره الى شعور الناس بانعدام وضوح منارات الهداية ومعالم الاخلاق . ونتيجة لذلك فقد ضعف وازع السيطرة على سلوك الانسان الرأسمالي خصوصاً على نطاق الشهوة والرغبة الشخصية ، فاصبح الفرد منحلاً متهتكا لا يرى ضرورة لفرض التهذيب الاجتماعي القسري عليه وعلى الافراد المحيطين به .
ويدعى زعماء هذه النظرية ايضاً بان الانحراف يعزى الى عدم التوازن بين الهدف الذي يبتغيه الفرد في حياته والوسيلة التي يستخدما لتحقيق ذلك الهدف في النظام الاجتماعي . فاذا كان الفارق بين الاهداف الطموحة والواسائل المشروعة التي يستخدمها الافراد كبيرا ، اصبح
الاختلال الاخلاقي لسلوك الفرد امرا واضحاً . فحسب ادعاء النظام الراسمالي ، يستطيع الفرد ، نظريا ، ان يصبح اغنى انسان في المجتمع بجهده وعرقه ، او ان يمسي فاشلا في تحصيل رزقه اليومي . ولكن نظرة سريعة الى الواقع الخارجي تفصح شيئاً مختلفا . فلا يستطيع كل الافراد ان يكونوا اغنياء في وقت واحد لان المال محدود بحدوده النظام الاجتماعي والاقتصادي ، فاذا تراكم المال عند الطبقة الغنية فانه سيسبب حرمانا ونقصانا عند الطبقة الفقيرة . فالفرد الذي لا يصل الى تحقيق اهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعيا ، يسلك مسلكا منحرفا يؤدي به الى هدفه كالسرقة ، والرشوة ، وبيع المواد التي يحرمها القانون . وهنا يلعب القهر الاجتماعي دورا في توليد ضغط لدى بعض الافراد كي ينحرفوا اجتماعياً .
نقد نظرية القهر الاجتماعي |
ـــــــــ |
وبطبيعة الحال ، فان ركون النظام الى القهر الاجتماعي ناتج اساسا من عجزة في سد واشباع حاجات الفرد اشباعا يتناسب مع كرامة الانسان وحقه في العيش الكريم الرغيد . ولا ريب ان الاغنياء المتسلطين على رأس المال ، والحكام المتسلقين على اكتاف الناس لا يريدون للفقراء نفض غبار الفقر عن اسمالهم البالية ، والنهوض الى طبقة اجتماعية ارفع وارقى . فلكي يبقى اصحاب الرأسمال في مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية ، فانهم يسلطون على الفقراء من يظلمهم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا . ولذلك يشكل الانحراف ظاهرة رفض خطيرة ضد النظام الاجتماعي القائم على اساس الظلم انعدام العدالة الاجتماعية .
ومع ان نظرية القهر الاجتماعي تتقدم تحليلاً وجيها لمنشأ الانحراف الا انها تتجاهل الانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والامراض النفسية . وتفشل هذه النظرية ايضا في الاجابة على تساؤلات كثيرة منها : لماذا يميل بعض افراد الاطبقة الرأسمالية الغنية الى الاجرام ، كالقتل والاعتداء والاغتصاب ، في حين انهم يملكون كل وسائل الثروة والمنزلة الاجتماعية ؟ ولماذا يستخدم بعض الاغنياء طرق الرشوة والاحتيال لجمع اقصى ما يمكن جمعه من الاموال مع انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم ؟ ولماذا يقبل بعض الفقراء القهر الاجتماعي وينحرف اخرون عن القوانين التي اقرها النظام الاجتماعي ؟ بل من الذي يحدد الانحراف ومن الذي يحدد الاستقامة في النظام الاجتماعي ؟ ومع ان هذه النظرية لا تجيب على هذه التساؤلات الا
انها اعمق تحليلا من بقية النظريات الخاصة بمعالجة اسبابا النحراف الاجتماعي .
نظرية الضبط الاجتماعي |
ـــــــــ |
وتعتقد نظرية الضبط الاجتماعي ان الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الافراد . فتبدأ بطرح رأيها عبر تساؤل غير معهود قائلة : كيف لا ينحرف الافرا د ، وامام اعينهم كل هذه المغريات ؟ فللانحراف اذن ، حسب زعمها ، مكافأة اجتماعية يحصل عليها المنحرف مهما كان نوع انحرافه . والاصل ان سلوك الافراد المعتدل في النظام الاجتماعي انما ينشأمن سيطرة المجتمع ، عن طريق القانون ، على تعاملهم مع الآخرين ، ولكن لو ألغي القانون الهادف الى تنظيم حياة الناس ، لما حصل هذا الاعتدال الاجتماعي في السلوك ، ولانحرف افراد المجتمع بسبب الرغبات والشهوات الشخصية .
وتعتمد هذه النظرية على تجارب اميلي دركيهايم ايضاً ، الذي اكد على ان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الافراد ، فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف ، على عكس المجتمع المنحل . فلو درسنا نسب انتحار الافراد في المجتمع الانساني للاحظنا انها اكثر انتشارا في المجتمعات التي لا تقيم لصلة الرحم وزناً والمجتمعات التي لاتهتم بعلاقات القربى والعشيرة . وعلى هذا الاساس بنى رواد هذه النظرية رأيهم القائل بأن افراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والانسانية اكثر طاعة للقانون واكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من افراد المجتمع المتحلل في علاقات افراده الاجتماعية .
ويرى رواد هذه النظرية ، انه من اجل منع الانحراف الاجتماعي بين
الافراد لابد من اجتماع اربعة عناصر هي :
1 ـ الرحم والقرابة : حيث ان شعور الافراد بصلاتهم الاجتماعية المتينة يقلل من فرص انحرافهم . فالفرد يشعر بالمسؤولية الاخلاقية والالزام العاطفي في اغلب الاحيان ، تجاه عائلته واصدقائه وعشيرته . وهذه المسؤولية حكمها حكم القانون الاجتماعي في المجتمعات الانسانية ، فاي خرق لهذه القوانين الاجتماعية يؤدي الى عزل الفرد المنتهك لحرمتها ، اجتماعياً ؛ وهذا العزل يعتبر عقوبة شخصية رادعة ، لان المقاطعة الاجتماعية عقوبة قاهرة ضد المنحرف . اما الافراد الذين لا تربطهم صلة رحم او قرابة بالآخرين ، فهم اقل اكتراثاً للمخاطر التي يترتب عليها ارتكاب الجرم او الجناية ، لان السرقة مثلا لا تعرض التزاماتهم الاجتماعية للخطر ، فانهم ابتداء لا يلزمون انفسهم بالالتزامات الشخصية المعهودة بين الافراد .
2 ـ الانشغال الاجتماعي : وهو انغماس الفرد في نشاطات اجتماعية سليمة تستهلك طاقته الفكرية والجسدية ، كالخطابة ، والكتابة والهوايات الرياضية والرحلات وادارة الجمعيات الخيرية . وهذا الانشغال يقلل من فرص الانحراف . اما الافراد الذين لا يملكون عملاً او هواية تستوعب اوقاتهم ، فغالباً ما تنفتح لهم ابواب الانحراف .
3 ـ الالتزام والمتعلقات : وهو استثمار الافراد اموالهم عن طريق شراء وتملك العقارات والمنافع والمصالح التجارية . ولا شك ان مصلحة هؤلاء الافراد المالية والتجارية تقتضي منهم دعم القانون والنظام الاجتماعي . اما اولئك الذين لا يملكون داراً او عقارا او لا يستثمرون في المجتمع اموالهم ولا اولادهم ، فانهم معرضون للانحراف اكثر من غيرهم .
4 ـ الاعتقاد : وهو ان الاديان عموماً تدعو معتنقيها الى الالتزام بالقيم والمبادئ الخلقية . فالمؤمنون بالاديان السماوية يحرمون على انفسهم سرقة اموال الغير ، لان هذه الاديان تأمرهم بالتكسب الشرعي الحلال وبذلك تضمن لهم معيشة كريمة . ويقوم الدين ايضا بتهذيب السلوك الشخصي للافراد في كل مجالات الحياة الاجتماعية .
وبالجملة ، فان الافراد الذين تربطهم الاواصر الاجتماعية المتينة ، وينغمسون في اعمالهم ونشاطاتهم ويستثمرون في المجتمع اموالهم واولادهم ويطبقون بكل ايمان احكام دينهم ، فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي ، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم .
نقد نظرية الضبط الاجتماعي |
ـــــــــ |
ولا شك ان هذه النظرية تعد من اقرب النظريات الرأسمالية للواقع الاجتماعي ، وافضلها على الاطلاق من حيث تحليل الرابط الاجتماعي ودوره في تقليل الجريمة . فالمشردون والجياع في المجتمعات الانسانية يفتقدون الارحام والاقارب افتقاداً مادياً ومعنوياً ، فقد ينحرف الابن اذا افتقد المعيل ، وقد تنحرف البنت اذا كان ولي امرها منغمساً بشهواته ولذاته . هؤلاء الجياع والمشردون يشكلون بذور الجريمة في المجتمع الانساني ، وما الازقة الظالمة في المدن الكبيرة الا اراضي خصبة لانبات الانحراف ، لان هؤلاء المشردين يفتقدون العناصر الاربعة التي آمنت نظرية
الضبط الاجتماعي بضرورة تواجدها ، لبناء المجتمع السليم الخالي من امراض الانحراف .
ومع كل هذه النواحي الايجابية في نظرية الضبط ، الا انها لا تخلو من هفوات ونواقص ايضاً . فهي لا تتعرض الى الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الغنية الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي . فالرأسماليون الاغنياء ، يتمتعون بافضل الصلات العائلية ، ويمارسون افضل الهوايات البدنية ، والفكرية ، ويستثمرون اموالهم المتراكمة في العقارات والمزارع والمصانع ، ويعتقدون بديانتهم النصرانية واليهودية ، ولكن الكثير منهم مع كل ذلك يرتكب جرائم الاغتصاب الجنيسي ، والسرقات العظيمة ، واستخدام المخدرات ، والتآمر لقتل المناوئين . وهؤلاء الافراد الاغنياء متكاملون مع النظام الاجتماعي مدافعون عنه بكل حماس لانه يحميهم ويحمي ممتلكاتهم ، ولكنهم مع ذلك ينحرفون عن المجرى الاخلاقي العام ، فكيف تفسر نظرية الضبط الاجتماعي هذا السلوك ؟ وكيف تفسر هذه النظرية انحراف الافراد الذين يملكون استثمارات واسعة ، لا لشيء الا لزيادة الثروة والسيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي ؟ الا يعد خرق القوانين الاقتصادية المقررة من قبل النظام الاجتماعي انحرافاً عن خط المجرى العام للمجتمع ؟ او ليس خرق القوانين والتعليمات السياسية المقررة من قبل النظام السياسي انحرافاً عن الخط الاجتماعي العام ؟
نظرية الالصاق الاجتماعي |
ـــــــــ |
وتبني هذه النظرية رأيها على فكرة مهمة لم تتطرق اليها النظريات الاجتماعية السابقة . فتقول ان الانحراف الاجتماعي ناتج من نجاح مجموعة من الافراد بالاشارة الى افراد آخرين بانهم منحرفون . فاذا الصقت الطبقة الرأسمالية المسيطرة في اروبا مثلاً فكرة « التخلف » بالافارقة ، وكرروها في وسائلهم الاعلامية ، اصبح الافارقة جميعاً متخلفين في المرآة الاجتماعية الأوروبية ، واذا الصقت نفس الطبقة فكرة « التحضر » على الشعب الامريكي ، اصبح الامريكان متحضرين في نفس المرآة الاجتماعية الاوروبية حتى لو كان الواقع عكس ذلك . وتستد فكرة الانحراف التي تؤمن بها هذه النظرية ، على فرضية الصراع الاجتماعي بين الافراد ومحاولة اتهام بعضهم البعض بالحيود عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي .
وتقسم هذه النظرية الانحراف الى قسمين :
الاول : الانحراف المستور ، وهو الانحراف الذي يرتكبه اغلب الافراد في فترة ما من فترات حياتهم ، ويبقى مستوراً دون ان يكتشفه احد . فقد يسرق الطفل مالاً من ابيه ، ولكنه يتحول بعد البلوغ الى فرد معتدل في حياته الاجتماعية اللاحقة . وقد يتحايل فرد ثري مرة واحدة على دفع الضريبة الحكومية ، ولكن سلوكه العام سلوك مقبول من الناحية الاجتماعية . وقد يحدث فرد نفسه بانحراف فكري ، ولكنه سرعان ما يعود الى رشده ويبقى سلوه الاجتماعي مستقيماً .
والثاني : الانحراف الظاهر ، فعندما يتهم نفس هؤلاء الافراد بالانحراف
علنيا ، يتبدل الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين تبدلا جذرياً . فاذا الصقت تهمة السرقة بشخص مثلاً ، وتهمته التحايل بشخص آخر ، وتهمة الزندقة بشخص ثالث ، شعر هؤلاء الافراد بالاهانة والذل ، لان الاثار المترتبة على انحرافهم تعني اولاً : انزال العقوبات التي اقرها النظام الاجتماعي بهم ، وثانياً : افتضاح امرهم امام الناس ، وثالثاً : انعكاس ذلك الافتضاح على معاملة بقية الافراد لهم ، ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والاحتيال والزندقة انما وضعها في الواقع ، النظام الاجتماعي والسياسي والصقها بهؤلاء الافراد . وهذا الالصاق هو الذي يعرف المجتمع الكبير بانحراف الافراد عن النظام المقرر . وعلى هذا الاساس يتصرف المنحرف بقبوله التعريف الاجتماعي ورضوخه للعقوبة الصادرة بحقه . ولو كان المجتمع لا يعترف بهذا الالصاق لما اصبح المنحرف منحرفا ، ولما قبل المنحرف بالعقوبة الصادرة بحقه ولاعتبرها اجحافاً . فالزنى في المجتمع الاسلامي مثلاً انحراف عن الخط العام للمجرى الاجتماعي ويستحق مرتكبه عقوبة جسدية ، اما في المجتمع الرأسمالي فان الزنى قضية شخصية ، وليست انحرافاً عن الخط العام للمجرى الاجتماعي ، بل انه انحراف عن الخط العام للمجرى الشخصي ، اذا ما افترضنا ان الزواج هو السلوك عن الخط العام المقبول اجتماعياً . وطالما الصق المجتمع تهمة الانحراف بالافراد الشاذين عن الطريقة المتبعة ، فان دائرة الانحراف ستتسع مع مرور الزمن لان هؤلاء المنحرفين ينظرون الى انفسهم بالمرآة الاجتماعية التي تدينهم وتحدد من علاقاتهم الاجتماعية ، فيتقارب المنحرفون بسبب الضغط الاجتماعي المسلط على سلوكهم ، فيصبح لهم مجتمعهم الانحرافي الصغير داخل المجتمع الانساني الكبير .
نقد نظرية الالصاق الاجتماعي |
ـــــــــ |
وليس هناك ادنى شك من ان نظرية الالصاق تتناول قضية مهمة وخطيرة ، وهي ان الفرد يصبح منحرفاً في سلوكه عندما يتهمه الافراد الاقوياء في النظام الاجتماعي بالانحراف . فاذا اراد رجال الكنيسة مثلاً ادائة الاجهاض او مهاجمة فكرة الطلاق ، فما عليهم الا ان يلهبوا شعور الري العام بذلك ويتهموا من يقوم بعمل الاجهاض او الطلاق بالانحراف عن تعاليم الكنيسة . وهنا يحتدم الصراع بين النظريات الاخلاقية المتنافسة ، فاذا نجح مسعى رجال الكنيسة بالصاق فكرة الانحراف بمناوئيهم ، اعتبر سلوك رجال الكنيسة الشكل الطبيعي للسلوك الاجتماعي ، اما سلوك المتهمين فسيوصم بالانحراف . وتعتمد طريقة تجريم الافراد ايضاً على اسلوب تفكير المجموعة المتهمة التي تملك وسائل القوة والثروة والمنزلة الاجتماعية . فمد اليد استعطاء في الطرقات من قبل المعدمين يعد انحرافاً ، في نظرها ؛ اما تبذير الثروة من قبل الاغنياء فانه لا يعد انحرافاً في النظام الاجتماعي ، لان الاقوياء هم الذين يلصقون التهم بالفقراء . وشرب الخمر في النظام الاجتماعي الرأسمالي لا يعد جريمة ولا انحرافاً مع انه يسبب ضرراً معتداً به عند العقلاء ، ولكن استخدام المخدرات كالحشيش ونحوه يعتبر انحرافاً ومنافاة للقانون . ويرجع السبب في التمييز بالصاق تهمة هذا الانحراف ان الشركات التي تنتج مواد الخمر والتدخين ونحوها اقوى وامضى في النظام الرأسمالي من تلك التي تنتج المخدرات .
ومع ان لهذه النظرية آراء وجيهة في تفسير ظاهرة الانحراف
الاجتماعي الا انها لا تخلو من بعض الهفوات ايضاً . فالنظرية تبرر ظاهرة الانحراف المستور . ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به او عدم الصاقها به . والمحتال في دفع الضريبة يعد محتالاً ان الصقت التهمة به ام لا ، والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الاحوال أالصقت التهمة به ام لم تلصق . ومن مساويء هذه النظرية انها تعطي مبرراً لا ستمرار الانحراف ، فالمنحرف يجد عذراً بالقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة ، وزناً . وهذا يتنافى مع الاصول العامة للتجريم الذي يأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار .
والخلاصة ، ان النظريات الاجتماعية الرأسمالية الاربع المذكور آنفاً تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل مفردات الواقع الاجتماعي . فهذه النظريات منفصلة لا تستطيع تفسير جرائم القمار ، وانحراف الاحداث ، وتعاطي المخدرات ، والتحايل في دفع حقوق الفقراء . وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجريمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الاجرام الفردي والجماعي في المجتمع الانساني .