أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الانحراف الاجتماعي وأساليب العلاج « الجريمة » في المجتمع الرأسمالي الامريكي
 
 


« الجريمة » في المجتمع الرأسمالي الامريكي

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج ص 1 ـ ص 22


« الجريمة » في المجتمع الرأسمالي الامريكي

ـــــــــ

وبطبيعة الحال ، فان النظرية الرأسمالية تعتقد بان الجريمة وهي مخالفة قانونية او انتهاك حرمة يقوم بها الفرد ، يجب ان تخضع لمتغيرين عمليين حتى ينطبق عليها مفهوم الانحراف :
الأول : ان يكون العمل الجرمي عملاً يربك النظام الاجتماعي .
الثاني : ان تفشل السيطرة على الجريمة باستخدام اسلوب المقاطعة الاجتماعية فقط ضد المنحرف . بمعنى آخر ، انه اذا كان الانحراف اكبر من المقاطعة الاجتماعية المجردة ، اصبح ذلك الانحراف عملاًُ جرمياً يستدعي تدخل القانون والدولة لحماية المجني عليه ضد الجاني .
واذا ثبت الجريمة ثبت العقاب الذي تتناسب شدته مع درجة عنفها ووحشيتها . وعلى ضوء درجة عنف الانحراف وتأثيره على الافراد في النظام الاجتماعي ، تقسم النظرية الاجتماعية الجرائم الى اربعة اقسام وهي : جرائم العنف ، وجرائم بدون ضحايا ، وجرائم الممتلكات ، وجرائم الطبقة العليا المسيطرة على النظام الاجتماعي .
وتختلف الجرائم في النظام الاجتماعي الرأسمالي من اقليم لآخر ، الا ان القاسم المشترك والقدر المتعين فيها هو ان الانحراف مرآة لجشع الرأسمالية ونتيجة طبيعية لانعدام العدالة الاجتماعية . ففي نظام جنوب افريقيا مثلاً يعتبر القانون انظمام الطالب ذو البشرة السوداء الى جامعة خاصة بالطلبة البيض جريمة تستحق العقاب . وفي بريطانيا يعتبر النقد اللفظي القريب من الاهانة لرئيس الدولة الرمزي ( الملك او الملكة ) جريمة جنائية ، بينما لا يعتبر


( 24 )

ذلك في الولايات المتحدة . وتتدخل الشركات الراسمالية ، من الناحية القانونية ، بشؤون النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة عن طريق لجان المنفعة التجارية ، بينما يعتبر ذلك جرما في بلدان اخرى . والاصل الذي تقوم عليه النظرية الاجتماعية الرأسمالية هو ان الجريمة مرتبطة بالنظام الاجتماعي الطبقي . فاصل واساس الانحراف ، يزعمها ، انما ينشأ عن طريق الطبقة الفقيرة وعليه يترتب انزال العقوبات الرادعة بحق المنحرفين . وفي الوقت الذي تؤكد فيه النظرية الرأسمالية على مسألة ارتباط الفقر بالجريمة ، تغض النظر عن الانحرافات التي تمارسها الطبقة الرأسمالية المسيطرة ، وتحاول سترها بشتى الوسائل القانونية . وهذا الاسلوب الرأسمالي المسيطرة ، وتحاول سترها بشتى الوسائل القانونية . وهذا الاسلوب الرأسمالي هو الذي اعطى نظرة الصراع الاجتماعي زخماً وقوة في ادعائها الزاعم بان القانون انما وضع اصلاً لخدمة الطبقة الراسمالية .

جرائم العنف :


وهي جرائم القتل والاغتصاب والسطو المسلح التي تقع في المجتمع الرأسمالي وخصوصاً المجتمع الامريكي دون رحمة . ويزيد من وحشية هذه الجرائم ان نصف عددها يرتكب من قبل اقارب المجنى عليهم . وان نصف عددها ايضاً يقع بين الافراد من البشرة السوداء ، الذين تتجاوز نسبتهم عشرة بالمائة من اجمالي نسبة السكان . ويرجع السبب في انتشار الجريمة بين الطبقات الفقيرة الى التفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي ، فاغلبية هؤلاء الافراد ينشأون ضمن عوائل ممزقة ، مدمنة على الكحول والمخدرات والامية والبطالة . فلا تحمل الحياة لديهم اية قيمة اجتماعية ، او سياسية ، فاذا فقد المرء حياته فلا يخسر الا الفقر والحرمان ، وكأني بلسانه يقول مرحباً


( 25 )

بالموت ، فتراب الحرية اشرف لي من هواء الظلم والاستعباد . وبذلك يعتبر النظام الاجتماعي للولايات المتحدة من أكثر الانظمة الصناعية الرأسمالية عنفاً واجراماً . فالجرائم التي تقع في مدينة نيويورك وحدها مثلاً ، قد تعادل نسبة الجرائم الواقعة في عدة دول افريقية او اوروبية مجتمعة ، ومن ملاحة عدد الاسلحة النارية التي يحملها الافراد دفاعاً عن انفسهم يتبين لنا حجم المشكلة الاجرامية في المجتمع الامريكي . ففي نهاية القرن العشرين يحمل افراد هذا المجتمع البالغ عددهم مائتين وخمسين مليون نسمة حوال ستين مليون قطعة سلاح ناري . ومرجع انتشار السلاح بهذا الشكل الواسع امرين ، الاول : نص الدستور على ان تملك السلاح حق شخصي لا يجوز للنظام القضائي او السياسي منعه او تحريمه ، والثاني : الدفاع عن النفس باعتبار ان النظام القضائي وجهاز الشرطة لا يستطيعان حماية كل فرد من اعتداءات المنحرفين .

جرائم ضد الممتلكات :


وهي على انواع ، منها : جرائم الغصب ، وهي السيطرة على ممتلكات الآخرين بالقوة وادعاء ملكيتها . ومنها : ارتكاب اعمال تؤدي الى تلف هذه الممتلكات كالحريق المتعمد للبيوت والبنايات لاستلام تعويضات التأمين . ومنها : استخدام الاجهزة بشكل ينافي مصلحة المالك كسرقة سيارة لقضاء حاجة معينة ثم تركها على الطريق . وهذه الجرائم اكثر انتشارا من غيرها لانها ايسر اولا ، من جرائم العنف ، وثانياً : ان اغلب هذه الجرائم وليدة حاجة انسانية لم يشبعها المجتمع ، وثالثاً : انها وليدة الرغبة في الانتقام من النظام الاقتصادي الذي يشبع طرفاً ويحرم طرفاً آخر . فالفقر عامل ئيسي


( 26 )

في انتشار هذا اللون من الجرائم بين افراد النظام ، لان انعدام العدالة يدفع الافراد الى البحث عن مصادر للعيش قد لا تنسجم مع العرف القانوني للمجتمع الرأسمالي . واذا اضفنا امراض الفقراء في الرأسمالية كالادمان على الكحول والمخدرات ، تبين لنا ان هذه العوامل قلبت مفاهيم الفرد ونظرته الانسانية نحو الاعتدال وجعلته فردا يعيش على هامش الحياة البشرية دون امل .

جرائم بدون ضحايا :


وينظر مناصرو النظرية الراسمالية الى جرائم المقامرة والبغاء والانحراف الخلقي باعتبار انها جرائم لا تنتج ضحايا فالمقامر لا يضر الا نفسه اذا خسر ، والمرأة التي تمتهن الفاحشة لا تخسر الا سمعتها ، والشاذ خلقيا يشذ عن المجرى الاجتماعي العام فحسب . وكل هؤلاء لا يضرون المجتمع كنظام ، بل يضرون انفسهم على الصعيد الشخصي ، ولذلك فان جرائمهم تعتبر في العرف الاجتماعي بدون ضحايا . وبعد ان تتنكر النظرية الرأسمالية لخطورة هذه الجرائم ، تعود وتعترف بمشقة السيطرة على هذا اللون من الانحراف . لان الجريمة هنا ليست نزاعا بين متخاصمين ، ولا دعوى مقامة من قبل مدعي ضد مدعى عليه . فالمقامر الخاسر لا يستطيع ان يقيم دعوى قضائية ضد المقامر الرابح ، لانهما سلكا هذا السلوك بمل ارادتهما . والمرأة الفاحش لا تستطيع اقامة دعوى قضائية ضد زبائنها ، لانها اختارت لنفسها ان ترتزق من هذا السبيل ، والشاذ خلقياً سلك هذا المسلك لاشباع انحرافه وشذوذه . وحتى التفكير باعتبار هذه الاعمال جرائم ، له من يعارضه في المجتمع الرأسمالي لسببين ، الاول : ان هذه


( 27 )

الممارسات جميعاً لو اعتبرت جرائم يعاقب عليها القانون ، لاستدعى ذلك ايجاد قوة كبيرة من جهاز الشرطة ، واستلزم التهيؤ لبناء سجون واسعة لاعتقال كل فرد يمارس هذ الاعمال ، وهذا الامر مستحيل من الناحية الاقتصادية الرأسمالية ، لان المجتمع الراسمالي مبني على اساس المنفعة التجارية ، والعقوبة الاخلاقية لا تدر ربحاً ولا تجلب رزقاً . والثاني : لو افترضنا ان هذا الاعمال اعبرت جرماً فان عدم قانونيتها سيدفع الافراد المتنفذين في النظام الاجتماعي الى تنشيط دوائر الجريمة المنظمة بمعنى ان منع الافراد من ممارسة شهواتهم بشكل علني وقانوني ، يؤدي الى ممارستها بشكل سري ولكن بكلفة باهضة .
ومع ان بعض الانظمة الراسمالية تحرم القمار والبغاء وتحصره في اماكن خاصة الا ان اصل الفكرة الراسمالية تنادي بعدم معاقبة الافراد الذين يرتكبون هذه الجرائم بدعوى انها جرائم بدون ضحايا .

جرائم الطبقة العليا :


وهي جرائم يرتكبها افراد الطبقة الرأسمالية العليا ويفلتون من العقوبات المترتبة على ممارستها ، امثال : التحايل على دفع الضريبة الحكومية وتلويث الانهار والهواء بمواد كيميائية تنتجها شركات كبيرة يمتلكها الرأسماليون ، والتلاعب بالاسعار ، ودفع الرشاوي لكبار السياسيين ، وترتكب هذه الجرائم تحت مظلة النشاط التجاري ، فيستطيع هؤلاء الافراد من الطبقة المسيطرة من لوي عنق القانون لمصلحتهم الشخصية ومصلحة شركاتهم . فالقانون الرأسمالي لا يدين الافراد ، الذين يرتكبون هذه الجرائم ، بصفتهم


( 28 )

الشخصية ، بل يدين الشركات والمصانع المنحرفة بصفتها المؤسسية . بمعنى ان اقصى ما يستطيع ان يفعله القانون في النظام الرأسمالي تجاه الشركات المداننة في ارتكاب اعمال اجرامية هو فرض غرامات مالية معينة عليها وقت التجريم ، او غلقها كعقوبة قصوى . بينما لا يمس القانون موظفيها ومدراءها ومالكيها باي اذى . ولو تم تجريم هذه المصالح التجارية فهي لا تجبر على المثول امام المحاكم الجنائية بل تمثل امام هيئات خاصة يشكلها مجلس النواب او الشيوخ . وبمعن آخر ان هذه المؤسسات التي مارست انحرافاً لا تحاكم بالقسوة التي يحاكم بها الافراد من الطبقات الاخرى . وهذا اللون من الانحراف قد يكلف النظام الاجتماعي اموالاً تقدر بحوالي عشرين ضعف الاموال المسروقة جراء جرائم العنف وجرائم الملكية ، وعلى ضوء هذه المعلومات فان المرء يستطيع ان يقول باطمئنان ان الاغنياء المنحرفين في النظام الرأسمالي يسرقون عشرين مرة اكثر من الفقراء المنحرفين . وفي اغلب الاحيان لا يعاقبهم القانون كما يعاقب المجرمين من الطبقة الفقيرة .


( 29 )

« المجرم » في النظام الرأسمالي

ـــــــــ

ويلعب المركز الاجتماعي في النظام الرأسمالي دوراً اساسياً في تشخيص المنحرف وتحديد عقوبة انحرافه . فاذا ثبتت الجريمة ضد الجاني من الطبقة الرأسمالية العليا ، فان مركزه الاجتماعي ونشاطه السياسي وعلاقاته مع اقطاب النظام ، تلعب دوراً رئيسياً في تحديد العقوبة الصادرة بحقه ، حيث تستطيع كل هذه العوامل توظيف القانون لصالح الجاني . فالقوانين الرأسمالية المتمثلة بتعليق العقوبة ، وبدائل العلاج وخدمة الادارة المحلية بدل الخدمة في السجن ، والكفالة المالية ، انما وضعت اساسا لمعالجة الجنايات التي يرتكبها الجناة من افراد الطبقة الرأسمالية العليا . فانحراف اصحاب مؤسسات التأمين العملاقة ، وملاك المؤسسات الصحية الكبيرة ، وفحول المؤسسات العسكرية عن الالتزام بالقوانين المتفق عليها ، او تحايلهم في دفع الضرائب ونهبهم اموال المستهلكين ، يجعلهم عرضة للملاحقات القضائية . ولكن تأثير هده المؤسسات الرأسمالية العملاقة على المؤسسة السياسية والقضائية والتشريعية يساهم في الالتفاف حول القانون المدني والجنائي المتفق عليه اجتماعياً . ولما كان التفاوت في شدة العقوبة الجنائية والمدنية واسعاً ، اصبح استرجاع الحق موكولاً لمحامي الدفاع ، والنائب العام ، وهيئة المحلفين ، والقاضي . بمعنى ان القضية الحقوقية خرجت من يد المدعي والمدعى عليه والقاضي ، ودخلت في مناورات محامي الدفاع والنائب العام ، حيث يصبح المال والوجاهة السياسية والمنزلة الاجتماعية محط انظار رجال المحكمة والقضاء ، خلافاً لما تستدعيه العدالة القضائية من تجرد وحياد


( 30 )

مطلق .
ويزعم الحقوقيون الرأسماليون ان السبب في ليونة العقوبة الصادرة بحق الجناة من افراد الطبقة الرأسمالية يعود الى ان الجاني الرأسمالي يعاني خلال فترة محاكمته من تأثير العقوبة المعنوية بحقه والمتمثلة بالأساءة الى منزلته الاجتماعية ، وهي بحد ذاتها عقوبة رادعة . اما الفقير المنحرف فهو يستحق عقوبة جسدية اشد ، لانه لم يخسر موقعه الاجتماعي المفقود اصلاً خلال ادوار المحاكمة . وهدا الرأي بعيد عن العدالة القضائية ، كما ترى ، لان العقوبة في الجنايات ينبغي ان تتناسب مع حجم الجناية التي نزلت بالمجني عليه ، بغض النظر عن كون الجاني ثرياً او قوياً في الحكم والسياسة والمنزلة الاجتماعية .
اما درجة الانحراف فهي لا شك تلعب دوراً مهماً في شدة العقوبة الصادرة بحق الجاني فعقوبة سرقة مادة غذائية من حانوت مثلاً ، تختلف عن عقوبة سرقة مجوهرات من مصرف من المصارف التجارية ، وعقوبة القاتل تختلف عن عقوبة المعتدي ضرباً . ومع ان هذا التمييز واضح في انشاء العقوبة الا ان هناك هفوات في النظام القضائي الرأسمالي ، فقد يتفق ان يقتل المعتدي فردا ، فيعاقب ذلك الجاني بالسجن في بعض الحالات ، وبالقتل قصاصا في حالات اخرى ، بدون وجود مبرر واضح يبرر منشأ الاختلاف في الاحكام الجنائية ، فاين العدالة في تطبيق احكام هدا النظام الجنائي ؟ وقد يعاقب مجرم لقتل فرد واحد بعقوبة السجن ، ويعاقب مجرم آخر لسرقة وتعذيب وقتل فرد آخر لنفس الفترة من السجن مع ان الجريمتين تختلفان في طبيعة ونوع الانحراف . فاين العدالة القضائية في هذا النظام ؟


( 31 )

نظام العقوبات في المؤسسة الراسمالية

ـــــــــ

ولا شك ان اسلوب العقوبات في اي نظام قضائي يهدف بالدرجة الاولى اصلاح المنحرفين ، وارجاعهم الى الابحار والانسياب في حركة المجرى الاجتماعي العام ، وتعليمهم احترام القانون الذي وضعه لهم العقلاء في النظام الاجتماعي لحماية الافراد كلياً من آثار الانحراف .
وعلى ضوء ذلك فان للنظام الاجتماعي ومؤسساته ، الحق في اتخاذ مختلف التدابير لمعاقبة المنحرفين وردعهم . ولكي تعالج الانحراف ، فان الدولة ونظامها القضائي والقانوني ينبغي ان تلاحظ اموراً في تعاملها مع مشكلة الجريمة منها ، اولاً : فرض القيود على حرية المنحرف عن طريق السجن ، او العلاج الطبي ، او خدمة مؤسسات الادارة المحلية . ثانياً : تعويض الضحية او من يتعلق بها مالياً . ثالثاً : التأهيل الاجتماعي للمنحرف وارجاعه الى المجرى الاجتماعي العام عن طريق التربية والتعليم والتدريب المهني ، بأمل ابعاده في النهاية عن الانحراف . رابعاً : ردع الاخرين عن الانحراف ، عن طريق تأديب المنحرفين وجعلهم عبرة لمن يعتبر .
ولا ريب ان العقوبات التي يفرضها النظام الرأسمالي اليوم ، حسب ادعاء النظرية الرأسمالية ، تعتبر اكثر تحضراً من تلك التي فرضها النظام الاجتماعي قبل ظهور الثورة الصناعية ، فقد كان المنحرف يتعرض علنا للاعدام او التعذيب او النفي . اما اليوم ، فان النظام القضائي الرأسمالي يمنح المنحرفين فرصة حقيقية للرجوع الى المنحى العقلائي الذي يقره الافراد في المجتمع الكبير ، ولكن هذا الزعم تدحضه التجربة العملية التي تعيشها


( 32 )

الراسمالية ، فبعد مائتي سنة من التجربة القضائية الرأسمالية يواجه المجتمع الرأسمالي اسوأ مشاكله الاجتماعية المتعلقة بنظام العقوبات . فثلاثة ارباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون بعد قضاء مدد عقوباتهم يعتقلون مرة اخرى لارتكابهم جرائم جديدة مشابهة لجرائمهم الاولى . ويحتمل ان الربع الاخير من هؤلاء يرتكب جرائم جديدة ولكنه يفلت من العقوبة لسبب من الاسباب .
وهذا يبين لنا فشل نظام العقوبات الرأسمالي وفشل نظام السجون بالخصوص . فلو كانت السجون مدارس لتهذيب المنحرفين كما يزعم المقننون للنظام القضائي الرأسمالي لما عاد ثلاثة ارباع المنحرفين الى سابق عهدهم من الاجرام ، فاين موقع السجون في عملية اصلاح وتغيير وتأديب شخصية المنحرف ؟ واين موقع العدالة الاجتماعية في نظام العقوبات ؟ اليس الاولى للنظام دراسة منشأ الانحراف لمعالجة اصل المشكلة الاجرامية ؟ اوليس الاجدى بالنظام الرأسمالي سد حاجات الافراد الفقراء واشباعها ، خصوصاً اذا كان الانحراف ناشئاً من عدم اشباع تلك الحاجات ؟
ونضيف ملاحظة اخرى الى فشل نظام السجون في تهذيب الانحراف . فالسجن في نظام العقوبات الرأسمالي جهاز تخدير وليس جهاز تأديب . حيث يواجه السجين خلال قضائه مدة العقوبة نظاماً تنفيذياً يصهر بموجبه المنحرف مع بقية المنحرفين ، ويقطعه عن الاختلاط بافراد المجتمع من ذوي السلوك السليم . وهذا بدوره يشجع المنحرف على الانحراف اكثر مما يشجعه على سلوك منهج الاصلاح والتأهيل .
ولما كانت فكرة السجون ، هدفاً ووسيلة ، قد اثبتت فشلها في نظام


( 33 )

العقوبات الامريكي ، فقد مال رأي القضاة واعضاء جهاز المحاكم في العقود الاخيرة ، الى استحسان فكرة تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني . شرط ان يجد له عملاً يرتزق منه ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة تعليق الحكم . وقد قوبلت هذه الفكرة بالتأييد من قبل السلطة القضائية الى درجة ان المنحرفين المعاقبين بتعليق الحكم اليوم ، يشكلون خمسة اضعاف عدد المنحرفين المعاقبين بالسجن ، وعقوبة التعليق فاشلة ايضاً ، لان الجاني المدان بتعليق العقوبة ، اذا ارتكب جريمة جديدة ، عوقب مرة أخرى بالسجن ، الذي لاحظنا فشله في تأديب المنحرف وتهذيبه .

« الجريمة » في نظرية الصراع الاجتماعي

ـــــــــ

ولا شك ان نظرية الصراع الاجتماعي تؤمن بان الانحراف نتيجة منطقية لصراع المصالح الاجتماعية . فالطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي يفرض قوانينه وانظمته على الطرف الخاسر ، ويضفي عليها صبغة الزامية فتصبح عندئذ عرفاً قانونياً للنظام الاجتماعي ، وكل ما يخالف ذلك العرف يصبح انحرافاً . بمعنى ان النظام السياسي الحاكم يساعد الاقوياء على حساب الضعفاء ، والحكام على المحكومين ، والاغنياء على الفقراء . ولذلك فان الانحراف في رأي النظرية الماركسية ، سلوك طبيعي هدفه تهديد النظام السياسي القائم ضمن اطار الصراع الاجتماعي . ومثال ذلك ان القانون الذي شرعه الحقوقيون والسياسيون في بداية نشوء الولايات المتحدة الامريكية كدولة ، كان يحرم مواطني البلاد الاصليين من الهنود حق امتلاك الاراضي . فكان تملك الارض من قبل الهنود الاصليين يعتبر ، رسمياً ، انحرافا وجريمة يعاقب عليها القانون ، لان الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي في


( 34 )

ذلك الوقت كان يمثل المستوطنين البيض . ومثل آخر ان النظام الراسمالي الارونبي والامريكي اقر نظام الرق في القرن الثامن عشر . وقانون الرق يقر استعباد الاقوياء للافراد المستضعفين على اساس الجنس واللون ، فيحقق ضمن ذلك القانون استعباد الجنس الاسود من قبل الجنس الابيض ، فكانت حرية العبيد انحرافاً واجراماً بحق النظام الاجتماعي الرأسمالي السائد في القرن التاسع عشر . وفي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن كان تشكيل اتحادات العمال المهنية في النظام الرأسمالي الامريكي جريمة يعاقب عليها القانون ، لان النظام كان لا يسمح باجازة التنظيمات العمالية والاضرابات النقابية .
وعلى ضوء ذلك ، ترى نظرية الصراع الاجتماعي ان نشوء الجريمة في المجتمع امر حتمي ، لان القوانين القضائية والسياسية تعكس مصالح الطبقة الغنية القوية المتحكمة بالفقراء والمستضعفين . فسرقة مصرف من المصارف التجارية تتربت عليه عقوبة شديدة بحق السارقين ، لان الاموال التي تسرق تعتبر جزءاً من اموال الطبقة الغنية . ولكن سرقة حقوق العمال عن طريق حرمانهم من الضمان الصحي مثلاً يعتبر في نظر النظام الرأسمالي انحرافاً جزئياً يستحق مرتكبوه عقوبات مخففة لانه انحراف لا يمس امتيازات الطبقة المتحكمة . ولتوضيح ذلك ، يعرض مناصروا نظرية الصراع المعاصرون ، احصائية نشرت في منتصف الثمانينات تشير الى ان جرائم التحايل على دفع الضريبة من قبل الافراد الراسماليين في الولايات المتحدة شملت مبلغاً قدره مائتي بليون دولار سنوياً ، ولكن لم يعتقل من هؤلاء المجرمين الـ 1800 فرد فقط ، بينما وصل عدد الافراد الذين اعتقلوا خلال نفس الفترة ،


( 35 )

لارتكابهم جرائم اقل درجة وقيمة ( تقدر بعشرة بلايين دولار ) ، حوالي مليون وربع مليون فرد ، فاين العدالة بين الافراد في معاقبة الانحرافات والجرائم المالية ؟ فسرقة مائتي بليون دولار تستدعي اعتقال 1800 فرد ، وسرقة عشرة بلايين دولار تستدعي اعتقال مليون وربع المليون فردا والنسبة بين المعتقلين من الطبقتين كما ترى ، والمبالغ المسروقة لا تتناسب تناسباً عقلائياً مع ابسط قواعد العدالة الاجتماعية . والخلاصة ان الاغنياء المتحكمين بعنق النظام يسرقون نسبة هائلة من المال المتداول اجتماعياً ولا يعاقبون عليها لان سلوكهم هذا لا يعد انحرافاً ، اما السرقات التي يقوم بها الفقراء فهي جرائم يستحق مرتكبوها اقصى العقوبات ! والسبب في كل ذلك ان الطبقة القوية هي التي تصمم النظام القضائي وتضع القوانين السياسية . وهي التي تضع التعريف الاجتماعي لفكرة الانحراف .
ولذلك فان الجرائم السياسية التي يرتكبها الافراد ، حسب ادعاء نظرية الصراع ، كالتخريب ، والتجسس لصالح العدو ، والثورة على النظام القائم ، نتائج حتمية لصراع المصالح الاجتماعية ، وامثلة حية على صدق مقولتها بان القوانين الاجتماعية مصممة لخدمة الطبقة الرأسمالية . ولكن طبيعة الصراع يغير الموازين السياسية ، فانحراف اليوم ربما يصبح عرف الغد . والمتمرد على النظام في الزمن الحاضر قد يصبح قائداً لنظام جديد ، مستقبلاً . والمخرب اليوم قد يصبح بطلاً قومياً عندما تنتصر قضيته التي ناضل من اجلها .


( 36 )

نقد مفهوم « الجريمة » في نظرية الصراع

ـــــــــ

ان زعم نظرية الصراع الاجتماعي بان الجريمة نتيجة حتمية لصراع المصالح الاجتماعية لا يمثل الفهم الشامل لمفهوم « الجريمة » في نظام الاجتماعي . فليست جرائم المجتمع الانساني بكافة الوانها واشكالها ناتجة من صراع المصالح الاجتماعية . وليست الجرائم التي يشهدها المجتمع الرأسمالي ، كلياً ناتجة من تحكم الطبقة الرأسمالية . نعم ان مصدر العديد من الجنايات في نظام الرأسمالي الغربي عموماً ، والامريكي خصوصا ، هو ظلم الطبقة الرأسمالية وجشعها ، كما ذكرنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب . ولكن الواقع يشهد بان هناك العديد من الجنايات والجرائم التي يرجع ببها الى دوافع ومناشيء اخرى ، غير الصراع الاجتماعي ، ومنها : الاختلافات العائلية ، والاختلالات العقلية ، والدوافع الشهوية المحضة . ومع اننا لا نقلل من قوة حجة نظرية الصراع الاجتماعي في تحليل اسباب نشوء الجريمة ، الا ان مفهومها عن الانحراف لا ينهض الى مستوى الشمول في فهم نشوء الجريمة في المجتمع الانساني . ولو كانت نظرية الصراع الاجتماعي دقيقة في تحليلها لتمثل لنا اختفاء الجريمة والانحراف من المجتمع الشيوعي اختفاءا تاماً . ولكن هذا التحليل يكذبه الواقع العملي ، فمناهضة النظام السياسي في المجتمع الماركسي يعتبر انحرافاً يستحق مرتكبه اقصى العقوبات ، والغصب يعتبر انحرافا يعاقب عليه القانون . فكيف تفسر نظرية الصراع الاجتماعي وجود هذه الانحرافات في مجتع يفرض ان يكون نظيفاً من العناصر الرأسمالية ؟


( 37 )

« عقوبة الموت » في النظام الرأسمالي

ـــــــــ

وتنفرد الولايات المتحدة من بين الدول الرأسمالية بتطبيق القصاص او عقوبة الموت ضد المنحرفين الذين ادينوا عن طريق المحاكم الجنائية ، بارتكاب جرائم قتل . وفكرة « عقوبة الموت » تتناقض مع فكرة الحرية الشخصية التي نادت بها النظرية الرأسمالية . لان الجناية مهما عظمت ، حسب زعمها ، لا تستحق الغاء حياة الجاني من الوجود . وعلى ضوء ذلك ، فان « عقوبة الموت » عقوبة انتقامية وليست ردعية ، ويدل على ذلك ، ان تلك العقوبة النازلة بالمنحرفين لم تردعهم بالكف عن انحرافهم ! ولكن هنا يبرز سؤال مهم ، وهو اذا كانت عقوبة الموت انتقامية ، فلماذا يأخذ بها النظام القضائي الامريكي خلافا لفكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي ؟ يجيب النظام ، بان عقوبة الموت ضرورية ، لان فكرة الحرية الشخصية يجب ان ترسم لها الحدود وتوضع لها الضوابط ، اذا تعلق الامر بالانحراف الاجتماعي . ويرد على هذا الرأي ، بان تحديد الحرية في جريمة معينة ، يستلزم تحديدها في بقية الجرائم ايضاً ، كالجرائم الاخلاقية مثلاً .
هنا تتوقف النظرية الرأسمالية عن الرد باعتبار ان منهج الفرد الاخلاقي يندرج تحت عنوان الحريات الشخصية ! ويبقى سؤال آخر مطروح دون جواب ايضاً وهو من الذي يحدد ضوابط الانحراف وما يترتب عليه من عقوبة تصل حد الموت ؟ ومن الذي يضع الحدود بين الردع والانتقام ؟
وبالاجمال ، فان اقرار النظام القضائي الرأسمالي بشرعيه « عقوبة الموت » يناقض ادعاءاته القائلة ، بتخلف عقوبة القصاص في الاسلام عن


( 38 )

المنهج الحضاري . فاذا كانت « عقوبة الموت » لا تتماشى مع المنهج الحضاري ، فلماذا ينفذها النظام بحق المنحرفين على ارضه ؟ واذا كانت « عقوبة الموت » افضل واقصر الطرق ، بنظره ، لبتر الجريمة الاحترافية ، فلماذا لا يقر باسبقيه الاسلام في تشريعها وتنفيذها ؟

الاضطراب العقلي

ـــــــــ

ولابد في ادراك ابعاد الانحراف ، من فهم الاضطراب العقلي باعتباره عجزاً في قابلية الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال . فالمضطرب عقلياً ينتهك العرف الاجتماعي من خلال تصرفاته التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، والسراب بالواقع ، والخوف بالامان ، والافكار المجزئة التي لا يجمعها رابط بالافكار الطبيعية المتصل بعضها بالاخر . ولذلك فان اكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً هي الاضطرابات الناشئة عن انفصام شخصية الفرد مع الحقيقة والواقع الخارجي . ويربط علماء الطب هذ الاضطرابات باختلال الهرمونات في الجسم الانساني وما يصاحبه من اضطرابات نفسية وتفاعلات عاطفية تنتهي بالانسانالى فهم الواقع فهماً مغايراً لفهم بقية الافراد . ومنهم من يعتبر الاضطراب العقلي او الجنون وسيلة ناقصة لدى الفرد للتعامل مع العالم الخارجي ، فالمضطربون عقلياً يفشلون في التعامل مع اجواء المجتمع المحيطة بهم ، فيلجأون في النهاية الى التعامل مع انفسم وندبها على عدم فهم الواقع ، فتراهم يتحدثون معها على مرآى من الملأ ويضحكون ويتبسمون لطرائف لم يلتفت اليها الآخرون ، وهم بذلك يحيدون عن العرف الاجتماعي فيوصمون بالجنون .
وقد شجع هذا التحليل ، السلطات السياسية في النظام الماركسي في


( 39 )

منتصف القرن العشرين على وصم معارضي النظام بالاضطراب العقلي ، حيث يتم ادخالهم المستشفيات بدل السجون ، لان عقوبة السجن تعني اعتراف النظام بجريمة سياسية ارتكبها المتهم وليست اضطراباً عقلياً . فالذي يلتزم بالافكار الدينية مثلاً يعتبر ، حسب الفكرة الماركسية ، فرداً مضطرباًمن الناحية العقلية لان الدين يهدد النظام السياسي . والذي ينتقد فلسفة النظام يعتبر فرداً مضطرباً لانه لم يصل الى درجة هضم الآراء الفلسفية الخاصة التي صممها فلاسفة النظام . والذي يدعو الى حرية التعبير يعتبر فرداً مضطربا من الناحية العقلية لان حرية التعبير ليست الا شكلاً من اشكال السراب السياسي الخادع ! ولكن الواقع الموضوعي ، يدعو دعاة النظام الماركسي للاعتراف بان كل هذه الحالات الفردية ليست اضطرابا عقليا ، انما وضع الفاظها وصفاتها واعراضها النظام الحاكم . فحرية التعبير في مجتمع آخر غير المجتمع الماركسي مثلاً قضية يدعو لها العقل ، وكذلك الالتزام بالعقائد الدينية ، فهي قضية شخصية واجتماعية يحترمها النظام والقانون . ولذلك ، فان ربط الاضطراب العقلي بالجرائم السياسية محاولة ذكية لخدمة النظام السياسي ، بسحق المعارضة واخماد صوتها .
ولا يمنا في هذه الدراسة ، ارتباط الجنون بالانحراف ، فهذا امر متفق عليه بين علماء الطب والاجرام . وانما الذي يهمنا هو منشأ الجنون والاضطراب العقلي في النظام الاجتماعي . ولا شك ان الفقر والحاجة الانسانية من اهم عوامل نشوء الاضطراب العقلي ، خصوصا في النظام الرأسمالي . فالفقر ليس حاجة مادية فحسب ، بل حاجة نفسية ايضاً لانه يمس كرامة الانسان ، ويحط من قدره ، ويشعره


( 40 )

بظلم النظام الاجتماعي . وهذه العوامل ، مجتمعة ، تساهم في رسم شكل الانحراف وتحدد مسيرته .
ولا شك ان من مصلحة النظام الرأسمالي ، وصم الفقراء بالاضطرابات العقلية ، لان في ذلك عزل لهم عن الساحة السياسية ، وبالتالي حرمانهم من الخيرات الاقتصادية التي ينبغي ان ينعم بها افراد المجتمع كليا بغض النظر ن انتماءاتهم الطبقية . فالمضطرب عقليا ، لا يستطيع المساهمة في قيادة المجتمع السياسية والاجتماعية . وهذا الابعاد المقصود للفقراء عن الساحة السياسية ، يعطي الطبقة الرأسمالية فرصة عظيمة في السيطرة على شؤون النظام الاجتماعي وكسر المعارضة السياسية الحقيقية .