أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية الانحراف الاجتماعي وأساليب العلاج القسم الثاني : الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظرية الاسلامية
 
 


القسم الثاني : الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء النظرية الاسلامية

البريد الإلكتروني طباعة

كتاب الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج ص 1 ـ ص 22

القسم الثاني
الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء
النظرية الاسلامية


النظرية الاسلامية لتفسير ومعالجة ظاهرة الانحراف * « السجن » في النظرية الاسلامية * الانحراف ومعالجته على ضوء الاسلام : 1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها * القصاص : أ ـ قصاص النفس ، اولاً : شروط قصاص النفس ، ثانياً : الاثبات . ب ـ قصاص ما دون النفس * الديات : أ ـ ديات النفس ، موجبات ضمان دية النفس . ب : ديات الاعظاء . ج ـ ديات المنافع . د ـ ديات الشجاج . هـ ـ دية اسقاط الجنين * العاقلة * كفارة القتل * الدفاع عن النفس * الاستنتاج * 2 ـ جرائم ضد الملكية : احكام اليد * الغصب * موجبات ضمان الغصب * مسؤولية الغاصب * المقاصة * السرة وشروط الحد : أ ـ الشروط . ب ـ طرق الاثبات ج ـ طريقة القطع * الجناية على الحيوان * الاستنتاج * 3 ـ الجرائم الخلقية * الزنا وشروط الحد : أ ـ شروط الحد . ب ـ طرق الاثبات ج ـ صورة الرجم والجلد . د ـ في بعض موارد الزنا * اللواط والسحق والقيادة : أ ـ اللواط ، اولاً : حد اللواط . ثانياً : طرق الاثبات . ب ـ السحق ، اولاً : حد السحق . ثانياً : طرق الاثبات . ج ـ القيادة * القذف : أ ـ حد القذف ب ـ طرق الاثبات ج ـ مسقطات الحد * المسكر : أ ـ حد المسكرب ـ طرق الاثبات * الاستنتاج * 4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي : أ ـ المحاربة . ب ـ الاحتكار . ج ـ ظلم الحاكم * الاستنتاج * الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف .


( 42 )



( 43 )

النظرية الاسلامية لتفسير ظاهرة الانحراف

ـــــــــ


لا تقتصر النظرية الاسلامية على تحليل اسباب ودوافع الاجرام فحسب ، بل تقدم علاجاً لمشكلة الانحراف في المجتمع الانساني ، يختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاجات التي قدمتها النظريات الغربية الاربع التي ذكرناها سابقاً . فنظرية « الانتقال الانحرافي » تفشل في معالجة الانحراف بسبب ايمانها بان الانحراف ليس الا ظاهرة اجتماعية طبيعية يصعب ضبطها والسيطرة عليها . ونظرية « القهر الاجتماعي » تفشل هي الاخرى في معالجة اسباب الانحراف لانها تعزيه الى انعدام العدالة الاجتماعي دون ان تقدم علاجاً واضحاً يضمن من خلاله انشاء مجتمع نظيف ، قائم على اساس احترام الانسان ، واستثمار العلاقات الانسانية بشكل ايجابي في منع الانحراف . ولا شك ان تجاهل هذه النظريات لانحرافات الطبقة الغنية في النظام الاجتماعي يجعهلها أكثر بعداً عن تحليل الواقع الاجتماعي العملي . حتى ان علاقة الرحم والقرابة والمعتقد والانغماس الاجتماعي التي نادت بها نظرية « البضبط الاحتماعي » من اجل ردع الانحراف وضبط المنحرفين لم يؤد ثماره المرجوة ، لقصور النظام الجنائي الرأسمالي وعدم احاطته بدقائق النفس الانسانية . واخيراً فشلت نظرية « الالصاق الاجتماعي » في تفسير ظاهرة الانحراف المستور الذي يتحقق دون الصاق تهمة معينة بالمنحرف .
وربما يعزى نجاح النظرية الاسلامية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحراف الاجتماعي الى اربعة اسباب رئيسية ، لم تلتفت اليها النظريات الغربية الأربع ، وهي ، الاول : العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها


( 44 )

الاسلام وحاول نشرها بين الافراد . الثاني : العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير . الثالث : المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض . الرابع : المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف ، كالزام عاقلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بيت المال .
فعلى الصعيد الاول : نادى الاسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الاساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية ، القائمة على الاساس الاقتصادي او السياسي ، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين . ووضع طرقاً عديدة ، ذكرت سابقاً ، لتضييق التفاوت الحاصل بين الطبقات الاجتماعية ، منها : تقرير ان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء ، ومنها : ان على فائض الثروة النقدية والحيوانية والزراعية والمعدنية ضريبة ثابتة تذهب لمنفعة الفقراء وسد حاجاتهم الاساسية ، غير ذلك من المنافع والاسباب التي تمنع الطبقية في المجتمع ولكنها تساعد على انشاء درجات متفاوتة ضمن طبقة واحدة تسودها العدالة الاجتماعية .
وعلى الصعيد الثاني شرع الاسلام اقصى العقوبات بحق المنحرفين فاوجب القصاص في جرائم القتل والجراح والشجاج ، حيث انزل عقوبة الموت في قتل العمد ، واوجب قصاص ما دون النفس وهو انزال ضرر مماثل تماماً للضرر الذي الحقه الجاني بالمجنى عليه ، واوجب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد ، وقدرها بالف دينار ذهب او نحوها مما قدر من الابل والانعام والبقر والحلل . وبين الشارع موارد ومقادير ديات الاعضاء والمنافع


( 45 )

والشجاج والجراح واسقاط الجنين عند تواجد الشروط . واوجب الكفارة في قتل المؤمن عمداً ، وفي قتل الخطأ المحض ، وقتل شبه العمد توبة خالصة لله مع توفر الشروط . واوجب الدفاع عن النفس حتى لو انجر الى قتل المهاجم ، ولكنه في نفس الوقت ، حرم التعدي مع امكان الدفع . وفي الغصب اوجب رد المغصوب الى مالكه واوجب ضمان اليد بمعنى ان المغصوب اذا تلف ، فعلى الغاصب دفع بدله . واجاز التسلط على مال الغاصب لرد قيمته المغصوبة وسماها بالمقاصة . واوجب قطع اليد في السرقة اذا بلغ النصاب وهو ربع دينار ذهب ، وكان السارق هاتكاً للحرز ومرتكباً سرقته سراً . واوجب الحدود في الزنا برجم المحصن والمحصنة ، وقتل الزاني بذات محرم والزاني بأمرأة مكرهاً لها ، والجلد والرجم معاً بالشيخ والشيخة الزانين . واوجب الحد في اللواط وفيه القتل ، وفي السحق مائة جلدة ، وفي القيادة خمس وسبعون جلدة ، وفي القذف ثمانون جلدة ، وفي شرب المسكر ثمانون جلدة .
وبكلمة ، فقد صنف الاسلام الانحراف الى اربعة اصناف ، وهي اولاً : جرائم الاعتداء على النفس وما دونها وفيها القصاص او الدية مع الشروط . ثانياً : جرائم ضد الملكية وفيها القطع ، والمقاصة ، ووجوب رد المغصوب . ثالثاً : الجرائم الخلقية ، وفيها الرجم والقتل والجلد . رابعاً : جرائم ضد النظام الاجتماعي ، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير او الغرامة . واوجب في الديات غير المقدرة شرعاً الارش او الحكومة .
وهذه الاحكام الشرعية هدفها الردع اكثر من الانتقام ، حتى ان القصاص الذي يبدو ظاهراً ، قضية انتقامية يؤدي في الواقع دوراً اساسياً في


( 46 )

ردع الانحراف وتأديب المنحرفين ، فانزال الاذى المماثل بالجاني امضى تأثيراً من عقوبة السجن ، التي يؤمن بها النظام القضائي الرأسمالي . والسارق الذي تؤدبه الشريعة الاسلامية بقطع يده يعتبر اكثر انتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون النظام الرأسمالي سنوات عديدة معطلاً طاقته الانتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي . وما ان يخرج الى اجواء الحرية مرة أخرى حتى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي ادخله السجن اول مرة .
وعلى الصعيد الثالث ، فان الاسلام نادى بالمساواة بين الافراد في العقوبة والتعويض . فالسارق مع توفر الشروط يقطع حتى لو كان يشغل اعلى وظيفة سياسية في الدولة . والزاني مع توفر الشروط يقام عليه الحد كائنا من كان . ولا يستثنى احد لسبب طبقي او وراثي من اقامة الحدود الشرعية . وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الاسلامي والقضائي الرأسمالي . ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة القضاء باستئجار اقوى المحامين المتمرسين بلوي عنق القانون ، يصون التشريع الاسلامي النظام القاضاي من عبث الاصابع البشرية التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي . وبعد اربعة عشر قرناً من الزمان ، لم يستطع مقنن واحد ، اياً كان مذهبه ، من تغيير حكم الله في قطع السارق او قتل القاتل المتعمد او جلد الزانية والزاني . ولا شك ان الاسلام لا يقر تشكيل هيئة برلمانية لمحاكمة السراق الاغنياء ، كما يفعل النظام التشريعي الرأسمالي في الولايات المتحدة ، بل ان الحاكم الشرعي ، هو الذي ينفذ حكم الله بجميع المنحرفين ، اغنياء كانوا ام فقراء . وفي غير الاحكام المقدرة يعاقب القاضي في النظام الاسلامي بالتعزير او الارش ، حيث ان له صلاحية تقدير


( 47 )

العقوبات التي لم تحدد في النصوص الشرعية . اما الشركات التجارية المدانة من قبل الحاكم الشرعي لاسباب جرمية ، فان اصحابها ، حسب النظام القضائي الاسلامي ، هم المسؤولون عنها شرعاً وهم الذين يتحملون العقوبة كاملة ، على نقيض النظام الر أسمالي الدي يحمل الشركة المدانة بصفتها المؤسسية كل المسؤولية القضائية ، فيفتح الباب لاصحاب الشركات بالافلات من قبضة القانون والعقاب .
ولا شك ان الافراد جميعاً بمختلف الوانهم وهيئاتهم متساوون امام الشارع الاسلامي ، فالاسود والابيض والاصفر سواسية كالمشط في مثولهم امام الحاكم الشرعي وانزال العقاب بهم ، او تبرئتهم . بل ان الشارع يعاقب من يميز على اساس اللون ، او يتعدى حدود القصاص ، ويلزمهم بدفع مقدار التعدي . وعقوبة السرقة مهما كان حجمها بعد بلوغ النصاب وتوفر الشروط ، هي القطع ، على نقيض قانون النظام الرأسمالي الذي يحدد عقوبة سجن اشد في السرقات الكبيرة ، ولكن السجن بمساوئه التي ذكرناها لا يردع المنحرفين . ولا يضمن السارق في القانون الرأسمالي ما تلف بالسرقة بينما عليه الضمان والرد في التشريع الاسلامي .
ولابد ان نذكر هنا ، ان النظرية الاسلامية قد ميزت الانحراف بانواعه وطرقه المتعددة ، واعتبرت فيه الاسباب الموجبة . فاخذت الاضطراب العقلي ، وعدم البلوغ مثلاً بعين الاعتبار في انشاء الحكم على القاتل . وميزت بين قتل العمد ، وقتل الخطأ ، والقتل الشبيه بالخطأ وافردت لكل واحد منها حكماً خاصاً . واعطت الشريعة للاحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل انزال العقاب بهم . وهذا نقيض ما يقوم به النظام


( 48 )

القضائي الرأسمالي ، فهو يجرم الاحداث وينزل بهم عقوبة الموت ، ويلصق تهمة الاضطراب بالمنحرفين الاغنياء حتى يفلتوا من قبضة القانون . وفي الوقت نفسه ، يلصق تهمة الاضطراب العقلي بعقلاء الفقراء حتى يبعدهم عن الساحة السياسية ويبقي افراد الطبقة الرأسمالية في مواقعهم المسيطرة على اطراف النظام الاجتماعي .
وعلى الصعيد الرابع ، فان الاسلام شجع المشاركة الجماعية في دفع الانحراف بطرق عديدة منها ، اولاً : ان ولي الامر مسؤول شرعاً عن دفع الدية اذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة . ثانياً : ان العلاقة الاسرية التي اكد عليه الاسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على اصلاح الفرد المنحرف في الاسرة . ثالثاً : العاقلة ، وهم العصبة من قرابة الاب كالاخوة والاعمام واولادهم ، التي تتحمل دية القتل الخطأ ، ودية الجناية على الاطراف ونحوها . وقيل في العاقلة ، ان على الغني منهم عشرة قراريط ، اي نصف دينار . والمدار في كل ذلك من الفرد في المجتمع الاسلامي لا يعيش منعزلاً عن الرابطة الاجتماعية ، فالافراد ملزمون بالتعاون فيما بينهم لدرء الانحراف الاجتماعي . لان ذلك الانحراف اذا لم يكلفهم نفساً بشرية او اذى يعتد به فانه يكلفهم اموالاً تفرض عليهم في باب العاقلة . وهم بذلك ملزمون اخلاقياً ، بارشاد واصلاح ذويهم اصلاحاً ينتفع به مجتمعهم الانساني بكافة اطرافه وحدوده المترامية .


( 49 )

« السجن » في النظرية الاسلامية

ـــــــــ


ولا يحمل السجن عقوبة رادعة في النظرية الاسلامية فيما يتعلق بجرائم القتل ولجراح والشجاج والسرقة والزنا واللواط والسحق والقيادة والقذف وشرب المسكر والمحاربة وغيرها . بل تتعين عقوبة القصاص بالقتل والجروح ، والدية مع تواجد الشروط ، والقطع والتعزير والارش والنفي والجز والكفارة والمقاصة والجلد في غير ذلك . ومع انه لا يشكل الاساس في نظام العقوبات ، الا ان « السجن » في النظام الاسلامي له دور في معالجة بعض انواع الانحرافات الاجتماعية .
ومنها ان المرأة « لا تقتل بالردة ، انما تحبس دائماً على تقدير امتناعها من التوبة ، فلو تابت قبل منها ، وان كان ارتدادها عن فطرة عند الاصحاب » (1) . والسارق للمرة الثالثة يحبس مؤبداً بعد أن تقطع يده اليمنى في المرة الاولى ، ورجله اليسرى في المرة الثانية . وفي حالة اعانة شخص لآخر على قتل ثالث ، يقتل المباشر ويحبس المعين على القتال مؤبداً ، كما ورد في قول الامام جعفر بن محمد (ع) : ( لا يخلد في السجن الا ثلاثة : الذي يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل والمرأة المرتدة عن الاسلام ، والسارق بعد قطع اليد والرجل ) (2) . وقوله ايضاً (ع) عندما سئل عن رجل امر رجلاً بقتل آخر فقتله ؟ : ( يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى
____________
(1) المسالك ج4 ص 450 .
(2) من لا يحضره الفقيه ج3 ص20 .

( 50 )

يموت ) (1) ، وقد اخذ هذه الروايات الكثير من الفقهاء .
وعلى صعيد آخر ، وردت روايات اخرى في وجوب حبس الفساق من العلماء ، والجهال من الاطباء ، والمفاليس من الاكرياء وهم المتكاسلون عن العمل . (2) وكذلك ورد سجن الغاصب ، ومن اكل مال اليتيم ظلماً ، ومن اؤتمن على امانة فذهب بها . ولو صحت هذه الروايات ، فان هذا اللون من العقوبات يعتبر حبس تعزير وليس حداً من الحدود .
وكان « النبي (ص) يحبس في تهمة الدم ستة ايام ، فان جاء اولياء المقتول بثبت والا خلى سبيله » (3) . وورد ايضاً ان علياً (ع) كان يحبس في الدين ، فاذا تبين له حاجة وافلاس خلى سبيله حتى يستفيد مالاً » (4) .
ويحبس الكفيل حتى يحضر المكفول ، بمعنى انه اذا تكلف شخص باحضار آخر ، ولم يحضره في الوقت المعين فللمكفول له ان يحبس الكفيل عند الحاكم ، حتى يحضر المكفول ، لان « الامام الصادق (ع) قال : جيء برجل الى امير المؤمنين علي (ع) قد كفل بنفس رجل فحبسه ، وقال له : اطلب صاحبك » (5) .
والظاهرة من مجمل الروايات المذكورة ، ان حد السجن مؤبد في الموارد التي تناولتها الروايات ، ومؤقت في موارد أخرى ، وان التعزير والارش محدد بحكم الحاكم الشرعي . فالمدار اذن في نظام العقوبات
____________
(1) الكافي ج7 ص285 .
(2) التهذيب ج6 ص319 .
(3) التهذيب ج10 ص174 .
(4) من لا يحضره الفقيه ج3 ص19 .
(5) الكافي ج1 ص357 .

( 51 )

الاسلامي ، ان السجن ليس عقوبة اساسية لردع الافراد عن الانحراف الاجتماعي ، بل انه عقوبة مساندة للعقوبات الاساسية الفورية كالقصاص والحدود والديات والارش على اختلاف انواعها ، وازمان دفعها . على عكس نظام العقوبات الرأسمالي ، الذي جعل السجن ، المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف . ولابد ان يعترف دعاة النظام القضائي الرأسمالي اليوم ، بفشلهم في جعل السجون ساحة العقوبات الاساسية لمعالجة الانحراف وتقويم المنحرفين ، لان ثلاثة ارباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون الرأسمالية بعد اتمام مدد عقوباتهم ، يرتكبون جرائم جديدة ، مساهمين بذلك في هدر الاموال التي صرفت عليهم لتأديبهم في تلك المؤسسات الردعية .
اما فكرة تعليق العقوبة في نظام العقوبات الرأسمالي ، وهو أن يكون للمنحرف عمل معين يرتزق منه ، شرط ان يتعهد بعدم ارتكابه جريمة أخرى ، فانه يمثل ظلماً للضحية ، وانتصاراً للظالم على المظلوم . لأن هذا النوع من العقوبات لا يتناسب مع حجم الجناية المرتكبة اولاً ، ولا يمثل ردعاً يعتد به ضد الانحراف ثانياً . في حين ان الاسلام بنظامه الجنائي لا يقتلع جذور الانحراف والجريمة والفساد فحسب بل يلزم الجاني او عاقلته بتحمل المسؤولية كاملة اذا لم ينفذ القصاص ، واضعاً المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته التاريخية في حفظ النظام الاجتماعي وعلاقات افراده الانسانية .


( 52 )

الانحراف ومعالجته على ضوء الاسلام

ـــــــــ


ولا شك ان ديناً متكاملاً كالاسلام لابد وان يطرح للانسانية المعذبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف ويحلل من خلاله ، بكل دقة دوافع الجريمة في المجتمع الانساني ، ويشرع على ضوء ذلك احكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره الغائرة في عمق النفس البشرية . وهو بذلك يتميز عن كل الانظمة الموجودة على الساحة الاجتماعية بشموليته ودقته وعدالته وتكامله في معالجة الجريمة معالجة حقيقية . فمن أجل مكافحة الجريمة فقد قسم النظام الاسلامي العقوبات الى قسمين هما العقوبات الادبية والعقوبات المادية . فالعقوبات الادبية تشمل جانبين ، الاول : الحدود ، وهي العقوبات المقدرة في الكتاب والسنة ، بمعنى ان الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي التصرف في امر تقديرها ، كالقصاص في جرائم القتل ، والقطع والجرح ، وعقوبات الزنا ، واللواط ، والسحاق ، والقيادة ، والقذف ، والسرقة ، والسكر ، والارتداد ، وقطع الطريق . والثاني : التعزيرات وهي العقوبات التي فوض امر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي ، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً كعقوبة الكبائر غير المقدرة ، كتجارة المخدرات مثلاً ، وعقوبات التزوير والغيبة ونحوها .
والعقوبات المادية ، وهي الديات ، او المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس او دونها . وتشمل جانبين ايضاً وهما ، اولاً : الديات المقدرة على لسان الشارع ، كدية النفس والاعظاء . ثانياً : الديات التي فوض امر تقديرها الى الحكومة ، او الخبراء الموثوق بهم .


( 53 )


وبطبيعة الحال ، فان الانحرافات التي فصلتها الشريعة واوجبت فيها العقوبات الادبية والمادية ، تأخذ مجريين شرعيين . الاول : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله سبحانه وتعالى ، وهي الزنا واللواط وشرب المسكر ، لانها تعد مخالفة لامر الله ، ولا يجوز العفو فيها بعد قيام البينة وثبوت الحد . والثاني : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله وحقوق الفرد معاً ، كالقذف والسرقة والقتل ، لأن فيها جهة شخصية متضررة ، فيتوقف اقامة الحد على المطالبة من المتضرر او من يرثه . ويجوز للحاكم الشرعي اقامة الحد فيما يتعلق بحقوق الله ، بمجرد علمه ، ولكنه لا يستطيع القيام بذلك فيما يتعلق بحقوق الناس كالسرقة والقذف .
ويمكننا تصنيف الانحرافات التي يتعامل معها الاسلام ويقدم لها علاجه الشرعي الناجع ، باربعة اصناف :
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها .
2 ـ جرائم ضد الملكية .
3 ـ الجرائم الخلقية .
4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام .

1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها


وهي جرائم القتل والجراح والشجاج واسقاط الجنين ، وقد اوجب فيها الاسلام القصاص ، او دفع الدية . واوجب كفارة القتل في مواضع معينة ، واباح للمعتدى عليه الدفاع عن نفسه في كل الاحوال .


( 54 )

القصاص :


وهو من العقوبات المنصوص عليها في الكتاب والسنة بحق الجاني . واصل الكلمة ، اقتفاء الاثر كما ورد في قوله تعالى : ( وقالت لأخته قصيه ... ) (1) ، فـ « القص اتباع الاثر ومنه القصص في الحديث لانه يتبع فيه الثاني الاول ، والقصاص اتباع الجاني في الاخذ بمثل جنايته في النفس » (2) . بمعنى ان « القصاص الشرعي » اسم لاستفياء الانسان ممن اعتدى عليه بمثل ما اعتدى من قطع او جرح او قتل . ويسمى ايضاً بالقود ، فيقال : اقاد القتيل بالقتيل ، اي قتله به . ووردت في القصاص آيات قرآنية شريفة عديدة ، منها قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر ، والعبد بالعبد ، والانثى بالانثى ، فمن عفي له من اخيه شيء فاتباع بالمعروف واداء اليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) (3) ، وقوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والانف بالانف ، والاذن بالاذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الظالمون ) (4) ، وقوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله ) (5) ، وقوله : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه
____________
(1) القصص : 11 .
(2) مجمع البيان ج20 ص 270 .
(3) البقرة : 178 .
(4) المائدة : 45 .
(5) الشورى : 40 .

( 55 )

كان منصوراً ) (1) ، وقوله : ( ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب ) (2) ، وقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (3) . وقول الرسول (ص) : ( لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل رجل مسلم قيدوا به ) (4) .

أ ـ قصاص النفس :
ويختص القصاص بقتل العمد ، اما قتل الخطأ وشبه العمد ، فانهما يوجبان الدية دون القصاص . وقد اتفق الفقهاء فيما يخص قصاص النفس على عدة امور منها ، اولاً : ان قتل العمد يتحقق بانشاء تصميم مسبق ونية مبيتة لارتكاب الجناية باي وسيلة كانت كالضرب باداة قاتلة ، او الاطعام بالسم ، او الخنق ، او الالقاء من شاهق ، بمعنى ان قتل العمد يتحقق من العاقل البالغ اذا قصد القتل من فعل يستدعي القتل غالباً . ثانياً : اذا لم يقصد القتل ، ولكن اوقع عملاً قتل به الآخر ، فهو عمد ايضاً .
والضابط « ان العمد يتحقق بقصد البالغ العاقل الى القتل ظلماً بما يقتل غالباً ، بل وبقصده الضرب بما يقتل غالباً عالماً به وان لم يقصد القتل ، لان القصد الى الفعل المزبور كالقصد الى القتل ، بل قيل يفهم من الغنية الاجماع عليه ولعله كذلك ، بل يعضده النصوص المعتبرة المستفيضة . كالصحيح عن ابي عبدالله (ع) ( سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم
____________
(1) الاسراء : 33 .
(2) البقرة : 179 .
(3) البقرة : 194 .
(4) العوالي اللئالي لابن ابي جمهور ج2 ص158 .

( 56 )

يرفع عنه الضرب حتى مات أيدفع الى اولياء المقتول ؟ قال : نعم ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجهز عليه بالسيف ) ونحوه . بل يكفي قصد ما سببيته معلومة عادة وان ادعى الفاعل الجهل به ، اذ لو سمعت دعواه بطلت اكثر الدماء ،كما هو واضح » (1) . اما لو ضرب رجلاً خطأ فمات ، فلا تعتبر تلك الجناية قتلاً متعمداً ، لقوله (ع) : ( إنما الخطأ ان تريد شيئاً فتصيب غيره ، فاما كل شيء قصدت اليه فاصبته فهو العمد ) (2) .
وقد ترددت على ألسن الفقهاء عبارات المباشرة والتسبيب في القتل العمد ، ومعناها ان القتل المباشر وهو ما يتم على يد القاتل مباشرة كالذبح والخنق ونحوها ، والتسبيب أن يأتي المسبب بفعل يؤدي الى فعل آخر يترتب عليه الموت ، كمن رماه بسهم فقتله (3) . فيكون الموت مستنداً الى السهم ، والسهم مستنداً الى الرامي ، فيكون الرامي عندئذ قاتلاً . ولكن النصوص الشرعية لم تتناول ذلك ، وانما تناولت لفظي العمد ، والخطأ فقط . فـ « ليس في شيء من الادلة عنوان الحكم بلفظ المباشر والسبب ، وانما الموجود ( لقتل متعمداً ) ونحوه ، فالمدار في القصاص على صدقة » (4) . وعليه ، فان المصداق الشرعي في القتل هو العمد أو الخطأ ، مباشرة كان أو تسبيباً .
ومثال ذلك « اذا ضربه بعصا ، مكرراً ما لا يحتمله مثله بالنسبة الى بدنه وزمانه ، فمات فهو عمد . ولو ضربه دون ذلك ، فاعقبه مرضاً ومات ،
____________
(1) الجواهر ج42 ص12 .
(2) تفسير العياشي ج1 ص264 .
(3) شرائع الاسلام ج4 ص196 .
(4) الجواهر ج42 ص19 .

( 57 )

فالبحث كالاولى . ومثله لو حبسه ، ومنعه الطعام والشراب ، فان كان مدة لا يحتمل مثله البقاء فيها فمات ، فهو عمد » (1) . بمعنى ان كان قصد من حبسه القتل فهو عامد ، والا فهو غير عامد . واذ « اذا طرحه في النار ، ينظر . فان أسعر له ناراً في حفيرة حتى اذا تجحمت القاه فيها فلم يمكنه الخروج منها حتى مات ، فعليه القود ، وان كانت النار على بسيط الأرض فمات فان لم يمكنه التخلص منها مثل ان كان ضعيف الخلقة او كبيراً او مكتوفا او غير مكتوف لكن النار قهرته ومنعته من الخروج فعليه القود . واما ان امكنه الخروج منها فلم يفعل حتى مات ، وانما يعلم هذا منه بان يقول انا قادر على الخروج ولست أخرج او كان بقرب البئر ، [ وكان قادراً على الهروب ، ولم يهرب ] فلا قود ، لانه اعان على قتل نفسه » (2) . واذا « حفر فرد بئراً فوقع آخر بدفع ثالث ، فالقاتل الدافع دون الحافر ، بلا خلاف أجده فيه ، لأن المباشر للقتل بما يقتل وهو الالقاء ، دون الحافر الذي هو السبب البعيد وبمنزلة الشرط » (3) .
وفي حالة أمر الحاكم الظالم لمن هو دونه على قتل فرد او افراد ، فلا يجوز بالنص ولااجماع ان ينفذ المقول له ارداة الظالم ، « لأن [ المأمور هو ] القاتل عمداً وظلماً ، اذ لا يتحقق حكم الاكراه في القتل عندنا .... ولكن يحبس الآمر دائما حتى يموت . ويدل عليه مع الاجماع صحيحة زرارة عن الباقر (ع) في رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله ، فقال (ع) : ( يقتل به الذي
____________
(1) شرائع الاسلام ج4 ص196 .
(2) المبسوط ح7 ص18 .
(3) الجواهر ج42 ص45 .

( 58 )

قتله ، ويحبس الآمر بقتله في السجن حتى يموت ) هذا اذا كان المقهور بالغاً عاقلاً » (1) . فالاصل اذن ، هو أنه لا يجوز دفع ضرور القتل عن نفسه بادخاله على الغير . وقد ثبت عن اهل البيت (ع) : ( انما جعلت التقية ليحقن بها الدماء ، فاذا بلغ الدم فلا تقية ) . ولذلك قيل : ان الاكراه على قتل النفس لا يجعل القتل جائزاً بحال ، ولا يرفع الخطاب التكليفي ، ولا الخطاب الوضعي ، اما الاكراه على غير القتل فانه يسقط الخطابين .
واتفق الفقهاء على انه لو اشترك جماعة من الافراد في قتل فرد ، قتلوا به جميعاً ، واحتج الفقهاء بالنص وبـ « ان القصاص شرع لحقن الدماء ، فلو لم يجب [ القتل ] عند الاشتراك لاتخذ ذريعة الى سفكها » (2) . واذا تم الانفاق على الدية ، فان كان عدد القتلة اثنين فعلى كل منهما النصف ، وان قتل القاتلين دفع لورثة كل واحد منهما نصف الدية ، وان قتل احدهما قصاصاً و ترك الآخر ، فعلى المتروك دفع ورثة القاتل المقتص منه نصف الدية . وبالجملة ، فان دفع مبلغ الدية يقسم على الجناة حسب عددهم ، لقوله (ع) في رجلين قتلا رجلاً : ( اذا اراد اولياء المقتلول قتلهما ادوا دية كاملة ، وقتلوهما ، وتكون الدية بين اولياء المقتولين ، فان ارادوا قتل احدهما فقتلوه ، ادى المتروك [ الذي لم يقتل ] نصف الدية الى أهل المقتول ) .
و « يقتص من الجماعة في الاطراف [ اعضاء الجسم ] كما يقتص في النفس ، فلو اجتمع جماعة على قطع يده ، أو قلع عينيه فله الاقتصاص منهم
____________
(1) شرح اللمعة الدمشقية ج10 ص27 .
(2) الجواهر ج42 ص66 .