أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة الواحدة والعشرون : التوكل على الله سبحانه ودوره في نجاح الإنسان وتقدمه
 
 


الخطبة الواحدة والعشرون : التوكل على الله سبحانه ودوره في نجاح الإنسان وتقدمه

البريد الإلكتروني طباعة

للاخوان المقترضين بأن يجعلوا اقتراضهم حسنا ايضا ـ وذلك بصدق القول وأداء الامانة وتسديد الاقساط المتفق عليها مقدارا وزمانا ـ في وقتها بدون تسويف ومماطلة مهما كانت الظروف صعبة ولو بان يقترض مقدار القسط من مصدر آخر ليؤكد بذلك مصداقية إيمانه ووفائه بوعده وخصوصا اذا كان المقرض محتاجا للمبلغ المقترض . وفائدة الوفاء بذلك تعود على شخص المقترض ماديا ومعنويا اما الفائدة المعنوية فواضحة حيث يكتسب صفة الوفاء بالوعد مع صدق القول وأداء الامانة واما المادية فلأن وفاءه بذلك يمكنه من طلب الاقراض مرة اخرى لنفسه او لغيره بكفالته وتعهده وتكون النتيجة على العكس من ذلك في صورة حصول العكس وهو المماطلة وعدم الوفاء بالوعد وتزداد الصورة قبحا وتشويها عندما يحصل خلاف المتفق عليه مع الاعراض الكلي والغياب عن ساحة المسؤولية الامر الذي يحطم كرامته ويسد باب الخير في وجهه ووجه الآخرين بعد ان تذهب الثقة ويفقد الاطمئنان بحصول الصدق من الآخرين بسبب عدم صدقه ووفائه بوعده ، وكان مطلوب منه ان يبدل الاعراض والهروب من ساحة المسؤولية والصدق والوفاء ، بالحضور الى الشخص الذي اقترض منه او كفله ليقدم الاعتذار مما حصل من التأخر ويبدي الاهتمام بالوفاء وان الذي حصل منه كان لظروف ضاغطة اضطرته لذلك .

نصيحة الموسر بالإقراض الحسن والمعسر بالإقتراض الحسن :
وخلاصة النصيحة و ( الدين النصيحة ) للاخوان الموسرين ان لا يحرموا انفسهم من ذلك الثواب العظيم الذي يعطيه الله سبحانه لمن اقرض اخاه في الاسلام او في الانسانية لان الاسلام جاء رحمة للعالمين وهناك ثواب آخر مترتب على الاقراض بعنوان آخر غير عنوانه الاولي


( 222 )


وهو عنوان إدخال السرور وكشف الكربة وقضاء الحاجة وكل واحد من هذه العناوين موضع للاجر العظيم والثواب الجسيم .
ونصيحتي لاخواني المعسرين ان يبذلوا اقصى الجهد في سبيل الوفاء بالوعد ليكون ذلك مشجعا للمقرض على إقراضه فيرغب في الاستمرار على هذه الخدمة الانسانية لهم وللآخرين .
ومن جملة الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها لقضاء حاجة المضطر الملهوف ـ مساعدته من الحق الشرعي الخمس ونحوه بعد احراز حاجته والتزامه الديني بالاطلاع الشخصي المباشر او بواسطة التعريف من قبل من يوثق بقوله ويترجح مراجعة الحاكم الشرعي او وكليه في صرف الحق الشرعي من اجل تحصيل الرخصة وتحديد الكمية ليحرز دافع الحق الشرعي براءة ذمته منه ـ كما يمكن مساعدة المحتاج المعسر عن طريق التصدق والتبرع من الشخص مباشرة او بالسعي لتحصيل المساعدة له من الاخرين والساعي بالخير كفاعله من حيث استحقاق الاجر والثواب .

بيان أفضلية صرف المال لقضاء حاجة المضطر
من صرفه في العبادات المستحبة :

وبالمناسبة احب ان الفت نظر الاخوان الاعزاء والمؤمنين الصالحين الذين التزموا بالذهاب الى مكة المكرمة كل عام لتأدية الحج المستحب وللعمرة المستحبة وربما تكرر ذلك في العام الواحد كما التزموا بالذهاب لزيارة المشاهد المقدسة وقد يتكرر ذلك في العام الواحد فأقول لهؤلاء الاخوان الاحباء : اذا كان المقصود من ذلك تحصيل الاجر والثواب فلماذا لا تصرف هذه الاموال التي تصرف في طريق هذه المستحبات ـ في سبيل إغاثة الملهوفين وكشف كرب


( 223 )


المكروبين وانقاذ الكثيرين من المعسرين الذين تصل بهم الازمة الاقتصادية الى درجة فوق التحمل والطاقة لينالوا بذلك ثواباً اعظم وأجراً أجسم يصح ان نحدده بثواب احياء النفس المحترمة الذي اعتبره الله إحياء للناس جميعا لاهميته وذلك بقوله سبحانه :
( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (1) .
وذلك لان قيمة كل عمل في الميزان الاخروي بقدر ما يترتب عليه من المنفعة لخلق الله باعتبار انهم عياله واحب الناس اليه انفعهم لعياله كما ورد في الحديث ـ ومن المعلوم ان فائدة المستحبات العبادية المتمثلة بالحج والعمرة والزيارة ونحوها مقصورة على صاحبها وبالقدر المحدود من الثواب .
وهذا بخلاف المستحبات الاجتماعية وربما اصبحت واجبة بالعنوان الثانوي ـ فهي تفيد صاحبها الذي يقوم بها في الدنيا حبا واحتراما وسعة رزق وطول عمر ودفع بلاء وقد أبرم إبراما كما ورد في الاحاديث وقد مرت الاشارة الى ذلك كله بصورة مفصلة في بعض الخطب السابقة التي تحدثت فيها حول موضوع الانفاق في سبيل الله تعالى .
ويسرني ان اختم الحديث حول موضوع التجارة مع الله سبحانه بذكر قصة تناسب المقام وحاصلها ان شخصا توجه الى تأدية الحج المستحب وفي طريقه شاهد امرأة تنتف طيراً ميتاً فأخبرها بحرمة أكل لحم الميتة وردت على اخباره لها بذلك بأنها عالمة بهذا الحكم وعالمة ايضا بجواز أكل مثل ذلك للضرورة القاسية انطلاقا من القاعدة
____________
(1) سورة المائدة ، الآية : 32 .


( 224 )


المشهورة ( الضرورات تبيح المحذورات ) وحينئذ رق لها بعد ان اطلع على واقعها المر ، وانها أرملة تعيل أيتاما ولا يوجد لديها ما تدفع به الجوع المؤلم عن نفسها واطفالها سوى هذا الطير الميت ونتج عن انفعاله العاطفي بمأساتها وتفاعله مع حاجتها القاسية ـ ان دفع لها المال الذي كان حاملا له ليصرفه في سبيل تأدية الحج المستحب ـ وتذكر القصة ان الله سبحانه كافأه على ذلك بأن بعث ملكا بصورته ليحج عنه تلك السنة وينال ثواب ما كان عازما عليه من حيث النية لان الاعمال بالنيات ومن حيث النيابة التي اراد الله بها ان يظهر له تقدير هذا العمل واحترامه به مضافا الى الثواب العظيم الذي احرزه بقضاء حاجة هذه المسكينة واطفالها الجائعين البائسين .
مع الاخذ بعين الاعتبار ثبوت الاجر العظيم لهذا الانسان على ضوء الروايات الكثيرة الدالة على اهمية قضاء حاجة المضطر وكشف كربته وإدخال السرور على قلبه ـ وما يترتب على ذلك من الثواب الجسيم والاجر العظيم ـ بغض النظر عن القصة المذكورة المشهورة والذي يساعد الانسان المؤمن على الاهتمام بصنع الخير للآخرين وقضاء حوائجهم التفاته التفصيلي وتذكره لما يترتب على ذلك من المنافع الدنيوية المادية والمعنوية المعجلة مضافا الى الفوائد الاعظم والادوم التي ينالها هناك يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم وعمل صالح وزاد من التقوى نافع ورافع ولذلك امرنا الله بإعداده في الكثير من آيات كتابه حيث قال سبحانه :
( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أُولي الالباب ) (1) .
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 197 .


( 225 )


دور التقوى في سعادة الدارين :
ومن الواضح في نظر المؤمن الواعي ان فائدة التقوى غير مقصورة على الاخرة ونعيمها بل هي تحصل لصاحبها معجلا في الدنيا قبل اليوم الاخر ـ وذلك لانها عبارة عن فعل الواجبات وكلها فوائد مع ترك المحرمات وكلها مفاسد والمؤمن التقي عندما يأتي بالاولى ويجني فوائدها ويترك الثانية ويتجنب مفاسدها ـ يدخل جنة الدنيا ومنها ينتقل الى جنة الاخرة قال سبحانه :
( ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (1) .
وقال سبحانه : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (2) .
وفي الختام : نسأل الله سبحانه ان يوفقنا جميعا للتجارة معه بالايمان الصادق والعمل الصالح الذي ينفعنا في دنيانا ويصحبنا الى آخرتنا ليكون زادنا النافع ومجدنا الرافع وما ذلك على رحمته تعالى بعزيز والسلام عليكم جميعا اولا وآخرا ورحمة الله وبركاته .
____________
(1) سورة الاعراف ، الآية : 96 .
(2) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 ، 3 .


( 226 )


الخطبة الواحد والعشرون (1)

التوكل على الله سبحانه
ودوره في نجاح الإنسان وتقدمه

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على اشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم ايها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل اللهُ لكل شيء قدراً ) (2) .
وقال سبحانه : ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (3) .
____________
(1) القيت هذه الخطبة في مسجد الامام المهدي ( عج ) في 18 ـ 11 ـ 1991 م الموافق 2 ـ 5 ـ 1412 هـ .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 3 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 159 .


( 227 )


وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « من انقطع الى الله كفاه الله كل مؤنه ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع الى الدنيا وكله الله إليها » .
وروي عن الصادق قوله عليه السلام : من أُعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا .
من اعطي الدعاء اعطي الاجابة ومن اعطي الشكر اعطي الزيادة ومن اعطي التوكل اعطي الكفاية .
وقد استوحى الامام عليه السلام ذلك من قوله تعالى :
(ادعوني أستجب لكم) (1) .
ومن قوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (2) .
وقوله سبحانه : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه )(3) .
وروي عن الامام علي عليه السلام قوله في نهج البلاغة في وصيته لولده الحسن عليه السلام : وألجيء نفسك في الامور كلها الى إلهك فإنك تلجئها الى كهف حريز ومانع عزيز .
من مجموع ما ورد في مدح التوكل والمتوكلين على الله سبحانه في الآيات والروايات ـ نستفيد أهمية التوكل وانه صفة سامية تعطي صاحبها مرتبة عالية وتعود عليه بالخير العميم في الدنيا والآخرة .
وهذا يقتضي ان نعرف المراد منها ـ والفائدة المترتبة عليها بصورة تفصيلية فنقول : المراد من التوكل المحمود الممدوح في الإسلام هو اعتماد الانسان المؤمن على الله سبحانه في نجاح سعيه وإدراك مطلوبه
____________
(1) سورة غافر ، الآية : 60 .
(2) سورة إبراهيم ، الآية : 7 .
(3) سورة الطلاق ، الآية : 3 .


( 228 )


المشروع سواء كان جلب محبوب ام دفع مكروه بعد ايجاد الوسائل العادية والاسباب المادية التي جرت العادة على التوصل بها الى الهدف المقصود .

بيان حقيقة التوكل في الإسلام :
وذلك لعلم الانسان المؤمن المتوكل على الله سبحانه بأن الاسباب وحدها غير كافية لإيصاله الى مطلوبه ما لم تباركها الارادة السماوية والعناية الإلهية وعلى هذا يكون التوكل متقوما بمجموع أمرين :
الأول : عمل خارجي يتمثل بإعداد السبب الخارجي العادي المادي .
والثاني : معنوي باطني يتمثل بالاعتماد على الله سبحانه في نجاح سعيه وحصول مراده ـ وبعد توفر هذين الامرين تكون النتيجة الحاصلة في النهاية راجعة الى إرادة الله سبحانه وحكمته فإذا أراد للسبب ان يؤثر وللسعي ان ينجح حصل المراد وقابل المؤمن المتوكل ذلك بالشكر قائلا بلسان الحال او المقال : ( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم اكفر ) (1) .
ولا يكرر ما قاله قارون : ( إنما أُوتيته على علم عندي ) (2) .
وإذا لم يرد الله سبحانه نجاح السعي وحصول المطلوب المعجل للإنسان المتوكل ـ بقي كل شيء على حاله ورضي بما قدره الله له قائلا بلسان الحال او المقال ما قاله الامام عليه السلام في الدعاء :
ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور . وبما
____________
(1) سورة النمل ، الآية : 40 .
(2) سورة القصص ، الآية : 78 .


( 229 )


ذكرناه في بيان المراد من التوكل نعرف ان اعداد الاسباب المناسبة للمطلوب ـ لا ينافي حصوله من المؤمن بل هو محقق له بمعناه الواقعي ـ لان توقع حصول المطالب الحياتية ونحوها بدون ايجاد اسبابها المادية العادية يعتبر تواكلا مذموما وليس توكلا محمودا ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الاعرابي الذي اراد ان يترك ناقته امام باب المسجد بدون عقال يحفظها من الشرود والضياع بانيا على ان ذلك من موارد التوكل الذي وعد الله صاحبه بمساعدته على تحصيل مطلوبه بقوله تعالى :
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (1) .
أجل : يوضح المراد من التوكل المحمود قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الاعرابي : إعقل وتوكل .
ولذلك امر الله سبحانه مريم العذراء بهز النخلة لتجني منا الرطب انطلاقا من الحكمة الإلهية العامة المقتضية للتوصل الى المطلوب بواسطة اسبابه الطبيعية ولو اراد سبحانه حصول الرطب لها بدون عملية الهز لحصل ذلك كما شاءت رحمته سبحانه ان ينزل لها طعامها من السماء عندما اقتضت الحكمة ذلك وهو مستفاد من قوله تعالى :
( يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب ) (2) .
والمراد من الآية التي ورد الامر فيها لمريم بهز النخلة قوله تعالى :
____________
(1) سورة الطلاق ، الآية : 43 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 37 .


( 230 )


( وهزي إليكِ بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ) (1) .
والى ذلك اشار الشاعر بقوله :


ألم تر أن الله قال لمــــريم * وهزي اليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه * جنته ولكن كل شيء له ســبب


العناية الإلهية قد تساعد على حصول السبب بدون الأسباب العادية :
هذا كله بلحاظ الوضع العام للمتوكل وهو إعداد العامل الخارجي وضمه الى العامل الباطني وهو الانقطاع الى الله سبحانه والاعتماد عليه لإنجاح السعي وترتب المسبب على سعيه العادي وقد يطرأ على هذا الوضع العام بعض الاستثناءات في الموارد التي تقتضي الإرادة الإلهية والرحمة السماوية حصول المطلوب للمؤمن المتوكل على الله بدون اعداده السبب العادي لذلك الامر المطلوب له ـ اما لخروجه عن نطاق قدرته كما في قصة النبي زكريا الذي رزقه الله ولده يحيى رغم الشيخوخة الحاصلة له ولزوجته ـ وهي مانع طبيعي من الانجاب ومن المعلوم ان إزالتها والعودة الى العمر الذي يساعد على ذلك غير مقدور لزكريا وزوجته ـ ولذلك اكتفى الله سبحانه بحصول العنصر الثاني الباطني منهما وهو الانقطاع له واللجوء اليه بالتضرع والدعاء .
وتشبه قصة النبي زكريا قصة اخرى حصلت لبعض المؤمنين الصالحين العابدين المتوكلين وابنته الطفلة العاقلة التي ارتفعت بنضج عقلها وذكائها الى مستوى المؤمنين الكبار وتحقق التشابه بين هاتين القصتين بلحاظ الجزء الاول من قصة هذا العابد وطفلته ـ حيث ان الله
____________
(1) سورة مريم ، الآية : 25 .


( 231 )


سبحانه استجاب دعاءها وحقق لها مطلوبها ورجاءها بمجرد الدعاء والانقطاع اليه لعدم قدرتها وهي في حالة الطفولة البريئة الضعيفة على ايجاد سبب من اسباب الرزق كما كان زكريا وزوجته عاجزين عن توفير السبب الطبيعي للإنجاب .

قصة فيها درس في التوكل وعبره :
وقد تقتضي الرحمة الإلهية حصول المطلوب للمؤمن المتوكل لمجرد الانقطاع والتوكل مع تمكنه من القيام بدور ايجابي بأي نحو من انحاء السعي نحو الهدف المطلوب وذلك فيما اذا كان هذا المؤمن مشغولا بعمل محبوب لله سبحانه وبدرجة عالية من المحبوبية تقتضي ان يحقق له مطلوبه ولو بدون السعي واعداد السبب الممكن له ولو بدرجة من درجاته وهذا يتجلى بوضوح في الجزء الثاني من قصة ذلك العابد وهو ما يتعلق به ويرجع اليه من هذه القصة .
وحاصلها ان شخصا مؤمنا عابداً زاهداٌ يدعى حاتم الاصم عزم على الذهاب الى مكة لتأدية فريضة الحج المقدسة رغم فقره وعدم توفر ما يحتاج اليه من النفقة لنفسه ولافراد اسرته لذلك عارضوه ولم يوافقوه على رأيه باستثناء طفلة له كانت انضجهم عقلاً وأقواهم إيمانا وثقة بالله سبحانه لذلك وافقت على سفره في هذا السبيل وقالت لبقية أفراد العائلة :
ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك دعوه يذهب حيث يشاء فإنه مناول للرزق وليس برازق فاقتنعوا بقولها ووافقوا على سفره وانطلق في سبيل غايته ولكنهم ندموا على موافقتهم وسماحهم له بذلك واخذوا يوجهون اللوم الى تلك الطفلة لانها كانت السبب في سفره وهم بأمس الحاجة اليه ولم يكن منها سوى التضرع لله سبحانه بالدعاء قائلة :


( 232 )


إلهي وسيدي ومولاي عودت القوم بفضلك وانت لا تضيعهم فلا تخيبهم ولا تخجلني معهم فبينما هم على هذه الحالة اذ خرج أمير البلد للصيد مع جماعة من اتباعه وانقطع عن عسكره فحصل لهم عطش شديد ثم اجتاز ببيت الرجل الصالح وقرع الباب واستسقى منهم الماء فقالوا : من أنت فقال : الامير ببابكم يستسقيكم الماء فرفعت زوجة حاتم رأسها الى السماء وقالت :
إلهي وسيدي سبحانك البارحة بتنا جياعاً واليوم يقف الامير على بابنا يستسقينا . ثم انها اخذت كوزا جديدا وملأته ماء وقالت للمتناول منها اعذرونا فأخذ الامير الكوز وشرب منه فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال : هذا الدار لامير ؟ .
فقالوا : لا والله بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الاصم فقال الامير : لقد سمعت به وقال الوزير :
لقد سمعت يا سيدي انه الليلة البارحة سافر الى الحج ولم يترك لعياله شيئا واخبرت انهم الليلة البارحة باتوا جياعا فقال الأمير ؛ ونحن ايضا قد ثقلنا عليهم اليوم وليس من المروءة ان يثقل مثلنا على مثلهم ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار ثم قال لاصحابه : من أحبني فليلق منطقته فحل جميع اصحابه مناطقهم ورموا بها اليهم ثم انصرفوا وقال الوزير : السلام عليكم يا أهل هذه الدار لأتينكم الساعة بثمن هذه المناطق فلما نزل الأمير رجع اليهم الوزير ودفع لهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً واستردها منهم فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديداً فقالوا : ما هذا البكاء إنما يجب ان تفرحي فإن الله قد وسع علينا فقالت : يا أماه والله إنما بكائي كيف الليلة البارحة بتنا جياعا فنظر الينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقر فالكريم الخالق اذا نظر الينا لا


( 233 )


يكلنا الى أحد طرفة عين ـ اللهم انظر الى أبينا وبره بأحسن التدبير .

قصة وعبرة تقوي العقيدة :
هذا حاصل ما كان من امر عيال حاتم هذا ـ واما ما كان من أمره فهو عندما خرج في طريقه الى الحج ولحق بالقوم توجع أمير الركب فطلبوا له طبيباً فلم يجدوا فقال : هل من عبد صالح ؟ فدل على حاتم فلما دخل عليه وكلمه ودعا له عوفي في وقته فأمر له بما يركب وما يأكل وما يشرب فنام تلك الليلة مفكرا في أمر عياله واكثر الثناء على الله سبحانه ـ ولما قضى حجه ورجع تلقته اولاده وعانق الصبية الصغيرة وبكى ثم قال :
صغار قوم كبار قوم آخرين إن الله لا ينظر الى اكبركم ولكن ينظر الى اعرفكم به فعليكم بمعرفته والاتكال عليه فإنه من توكل على الله فهو حسبه .
قد لاحظنا مدى العناية الإلهية التي ادركت هذه العائلة ومعيلها فجعلت لهم مخرجا مما كانوا عليه من الحاجة والفقر ورزقتهم من حيث لا يحتسبون نتيجة انقطاع والد هذه العائلة وصغيرته وتوكلهما عليه سبحانه من دون ان يحصل اي سعي وتحرك ايجابي في طريق تحصيل الرزق ـ وكان هذا لخصوصية اقتضت هذه العناية الإلهية الفائقة ـ وهي ما اشرت إليه قبل نقل هذه القصة من عجر الصغيرة عن السعي لذلك لا تكلف به كما هو الوضع العام في ظل الاحوال العادية للإنسان ـ وكذلك رزق والدها لتوجهه في طريق أمر محبوب لله وهو زيارة بيته الحرام لذلك قدم له هدية وجائزة تكريمية حيث هيأ له السبب الذي انتج الرزق والمساعدة له من حيث لا يحتسب .


( 234 )


قصة أخرى تبين فائدة التوكل :
وهناك قصة أخرى ذكرت في نفس المصدر الذي نقلت منه القصة السابقة ـ وهو الجزء الاول من كتاب المستظرف في كل فن مستطرف صفحة 644 وقصة حاتم في صفحة 65 من هذا الكتاب وحاصلها :
انه حصل في عهد أحد خلفاء بني العباس ـ غلاء سعر وضيق حال حتى اشتد الكرب على الناس اشتداداً عظيما فأمر الخليفة بكثرة الدعاء والبكاء وبكسر آلات الطرب وفي بعض الايام رؤي عبد يصفق ويرقص فحمل الى الخليفة فسأله عن سبب فعله ذلك من دون الناس فقال : إن سيدي عنده خزانة بُر وأنا متوكل عليه ان يطعمني منها ولذلك ان لا أبالي ـ وعند ذلك اعتبر الخليفة بقوله واستفاد منه درسا في التوكل الحقيقي وقال :
اذا كان هذا قد توكل على مخلوق مثله فالتوكل على الله اولى ثم سلم للناس احوالهم وأمرهم بالتوكل على الله سبحانه وقد ذكرت هذه القصة بعد تلك .
أولاً : لاستفادة العظة والعبرة منها .
وثانياً : لبيان الفرق بين التوكل والاعتماد على المخلوق لحصول محبوب ودفع مكروه في هذه الحياة كما هو مضمون القصة الثانية والتوكل على الله سبحانه والانقطاع اليه وحده كما هو مضمون القصة الاولى .
وحاصل هذا الفرق هو انه اذا كان التوكل على المخلوق ـ كان الهدف المطلوب بالرجوع اليه محدودا بخصوص الغاية المحددة والفائدة


( 235 )


المقيدة في هذه الحياة الدنيا وهي تكون غير معلومة التحقق غالبا لعدم احرازه قدرة الذي توكل عليه وتمكنه من تحقيق مطلوبه على كل حال وهذا بخلاف التوكل على الإله الخالق ـ فهو غير محدود الفائدة في الحاضر المعجل بل يشمل الفائدة الاخروية التي يرتبها الله سبحانه ويعطيها لمن توكل عليه ، ولذلك يكون التوكل عليه سبحانه مضمون النجاح ومعلوم الحصول اما عاجلا اذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك وإما آجلا وفي الدار الآخرة المعدة لتحصيل الفوائد واستلام الجوائز .

فائدة التوكل في الدنيا والآخرة :
وتتمثل الفائدة الاخروية بالثواب العظيم والنعيم الخالد الذي يعطيه الله سبحانه لعبده المتوكل عليه والمنقطع إليه باعتبار ان نفس هذا الانقطاع عبادة لله سبحانه وعمل باطني راجح يقرب من الله زلفى ـ وحيث ان الاستخارة نوع من التوكل على الله سبحانه واللجوء اليه لبيان ما هو الصالح لعبده المستخير ـ قال الامام الصادق عليه السلام على ما روي عنه :
لا أبالي بعد ان استخرت على اي جنب وقعت وذلك لان المستخير اذا لم ينل مطلوبه المعجل الذي اقدم على تحصيله اعتمادا على استخارة الله واستشارته فهو ينال عوضه في الآخرة ما هو خير وابقى له مما فاته من العرض الزائل والى هذا المضمون اشار الامام عليه السلام في دعائه : « ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور » .
ومن مجموع ما تقدم يعرف ان اهم فائدة يحصلها المؤمن المتوكل على الله سبحانه هي راحة النفس واطمئنان القلب لسلامة المصير وحسن العاقبة المترتبة على اللجوء الى كنف الإله وعطفه وهي تتمثل بإحدى


( 236 )


الحسنيين وقد تتمثل بكلتيهما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والرحمة السماوية وهما حصول الفائدة المطلوبة معجلا وما يترتب على نفس الرجوع الى الله سبحانه وتسليم الامر اليه ـ من الثواب الاخروي العظيم وقد لاحظنا حالة الفرح والاطمئنان التي كان عليها ذلك العبد نتيجة اعتماده على سيده ومالكه وهو مخلوق ضعيف مثله لا يجلب له نفعا ولا يدفع عنه ضررا الا بحول من الله سبحانه وعونه .

الفرق بين التوكل على الخالق والتوكل على المخلوق :
وهذا بخلاف الاعتماد على المالك والسيد الحقيقي القادر على كل شيء فإن الاعتماد عليه واللجوء اليه يكون اعتمادا على ركن وثيق لا يخيب آمله ولا يرد سائله الا بما يفيده حاضرا ومستقبلا دنيا وآخرة او في الآخرة لانها خير وأبقى ـ والتنبه لهذه الحقيقة الإيمانية هو الذي حرك في قلب الخليفة باعث الرجوع الى المرجع الحقيقي والملجأ الواقعي بالاعتماد عليه وايكال الامر اليه ونتج عن ذلك إزالة ظاهرة الحزن والكآبة وعودة الناس الى الوضع الطبيعي وحيث ان للتوكل على الله سبحانه بكل اقسامه المتقدمة دوره البارز في زرع الثقة والاطمئنان في نفس المؤمن المتوكل فقد ورد التنويه بشأنه والثناء على المتصفين به في العديد من الآيات والكثير من الروايات كما ورد ذلك في كلام بعض الحكماء وشعر الشعراء .
وقد مر ذكر بعض الآيات والروايات في صدر الحديث ويسرني ان اختمه برواية واردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الحكم والابيات الشعرية الواردة حول موضوع التوكل .
روي عن ابن عباس انه قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي : إني


( 237 )


أعلمك كلمات : إحفظ الله يحفظك اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان تنفعك بشيء لا ينفعوك الا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت على ان تضرك بشيء لا يضرونك الا بشيء قد كتبه الله عليك .
ومن كلام لبعض الحكماء في بيان فائدة التوكل على الله سبحانه وتسليم الامر اليه :
من ايقن ان الرزق الذي قسم له لا يفوته تعجل الراحة ومن ايقن ان الذي قضي به عليه لم يكن ليخطئه فقد استراح من الجزع ومن علم ان مولاه خير له من العباد فقصده كفاه همه وجمع شمله .
وقال الشاعر :

وما ثم إلا الله في كل حـالة * فلا تتكل يوماً على غير لطفه
فكم حالة تأتي ويكرهها الفتى * وخيرته فيها على رغم أنـفه


وقال آخر :

توكل على الرحمن في الأمر كله * فما خاب حقاً من عليه توكلا
وكن واثقاً بالله واصبر لحــكمه * تفز بالذي ترجوه منه تفضلا


وقال بعض الأعلام :

كن عن همومك معرضا * وكل الامور الى القـضا
فلرب أمـر مــسخط * لك في عواقبه رضــا
ولربما اتسع المضـيق * وربما ضـاق الفــضا
الله عـودك الجــميل * فقس على ما قـد مضى


وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولا وآخراً ـ ورحمة الله وبركاته .


( 238 )


الخطبة الثانية والعشرون (1)

العبادات والتوبة خاصة حمامات روحية

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : كان المنطلق للحديث حول موضوع العبادات والتوبة خاصة ودورها في نظافة الروح والنفس من أوساخ الذنوب والخطايا .
أجل : كان المنطلق لهذا الحديث هو إعادة صبغ المسجد الذي القيت فيه هذه الخطبة ـ وهو مسجد الامام المهدي عليه السلام وذلك بتشبيه النفس البشرية بالامور المادية التي تعرض عليها النظافة بعد التوسيخ والجمال بعد التشويه .
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 8 ـ 8 ـ 1986 م .


( 239 )


وحاصل ما ذكرته حول هذا الموضوع في هذه الخطبة التي دارت حوله وتحركت في فلكه هو ان النفس البشرية تولد نظيفة من كل الاوساخ المعنوية وطاهرة من جميع النجاسات الروحية وانما يطرأ عليها بعد ذلك ما يطرأ من الاوساخ المعنوية نتيجة الاخطاء والذنوب التي تحصل منها عندما تدخل في سلك التكليف وتنطلق في طريق المسؤولية وتتغلب فيها عوامل الانحراف على بواعث الاستقامة بسبب عدم العصمة .
وحيث ان الله ارحم الراحمين فهو يقدر الصعوبة والمعاناة التي تتحملها النفس البشرية عندما تخوض معركة الصراع في ميدان الحياة وتضغط عليها غرائزها الجامحة الى درجة تؤدي بها الى السقوط في ساحة هذا الصراع والله سبحانه برحمته الواسعة لا يريد لها البقاء على سقوطها ورسوبها في الامتحان الصعب لذلك يطلب منها ان تنهض من كبوتها وتقلع عن خطيئتها وتعود الى جادة الاستقامة من جديد وهيأ لها الوسائل التكوينية الفطرية التي اودعها فيها لتدفعها نحو التوبة والعودة الى منهج الشرع القويم وصراطه المستقيم واهم الوسائل التكوينية غريزة الندم التي تثير وخزا في الضمير وألماً في النفس الامر الذي يدفع بها الى واحة الرضوان الإلهي لتتفيأ ظلاله الوارفة وتتقي حرارة الشعور بالخطيئة .

الوسيلة التكوينية والتشريعية لحصول التوبة :
كما هيأ لها الوسيلة التشريعية المؤكدة لتلك الوسائل التكوينية وتأتي العبادات المعهودة في الطليعة من بين الوسائل التشريعية التي تساهم مساهمة فعالة في مرحلتين :


( 240 )


الأولى : مرحلة الوقاية من الوقوع في الانحراف بسبب ربطها للمخلوق بخالقه بسلك التقوى والاستقامة في جادة العبودية .
والثانية : مرحلة العلاج بعد الإصابة وحصول المخالفة .
ودور التوبة منحصر في المرحلة الثانية لانها مطلوبة من العبد لتكون عملية تطهير وتنظيف للنفس من اوساخ الذنوب كما هو واضح .

دور الصلاة في تحقق الطهارة الروحية والجسمية :
والآن نلقي نظرة خاطفة خلال وقفة تأمل في دور كل واحدة من العبادات في مجال الوقاية والعلاج ولنبدأ بأهمها وهو الصلاة لكونها عمود الدين كما المعروف فنقول :
ان الصلاة حمام روحي وجسمي لاقتضائها بطبيعتها تنظيف الجسم والثوب مع اقتضائها ايضا نظافة الروح والنفس والضمير مما يعلق بها اثناء انطلاقها في درب الحياة من اوساخ الخطايا باعتبار انها في واقعها صلة النفس البشرية وارتباطها المعنوي بالمبدأ الاعلى فكريا وروحيا وهذا يقتضي بطبعه قربها من الحق والهدى والخير وبعدها في المقابل عن الباطل والضلال والشر ـ وهذا هو الوجه في اقتضاء الصلاة النهي والانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما هو مضمون الآية الكريمة وبهذا الاعتبار شبهها الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالحوض الذي يكون في دار الشخص فكما انه اذا اغتسل ونظف جسمه به خمس مرات في اليوم لا يبقى على جسمه شيء من الوسخ المادي ـ كذلك الصلاة التي يلتزم المؤمن بالاتيان بها يوميا خمس مرات لا تبقي على روحه ونفسه شيئا من اوساخ الذنوب .


( 241 )


ويؤكد هذا المعنى مضمون قصة حاصلها ان شخصا اراد ممارسة الحرام مع امرأة فرفضت واشترطت لموافقتها على اجابة طلبه ان يلتزم بالصلاة جماعة مدة محددة من الزمن ـ وقبل انتهاء المدة هداه الله سبحانه وعدل عما كان عازما عليه بالحرام ليوفقه الله بعد ذلك لحصول مراده بالحلال على كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مضمون قوله تعالى :
( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لايحتسب ) (1) .
والوجه في ايصال الصلاة لهذه النتيجة هو ان المصلي اذا تنبه لمعاني اذكار الصلاة واقوالها ومرامي حركاتها وافعالها وتفاعل معها نفسيا وشعوريا بحيث تكون صلة بالله سبحانه وصلاة له بالروح والجسم معا فلا بد ان تسير به في طريق التقوى والاستقامة كما اراد الله سبحانه .

دور الصلاة في تطهير الإنسان نفسا وولداً ومالاً :
وكما ان الصلاة تطهر النفس والقلب بالطهارة المعنوية من نجاسات الذنوب ـ كذلك تطهر المال والولد من الحرام ليصبح المال حلالاً والولد ولد حلال وذلك لان الصلاة كما تقتضي بطبعها النهي والانتهاء عن الفحشاء والمنكر كذلك هي تقتضي من ناحية خارجية تطهير المال الذي يريد ان يشتري به ثوبا للصلاة من الحق الشرعي الذي تعلق به لاشتراط صحتها بذلك كما هو معلوم على حد اشتراطها بطهارة البدن والثوب من النجاسة المادية واما تأثير الصلاة في تولد الولد من الحلال
____________
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 ، 3 .


( 242 )


فباعتبار دفعها المكلف لتطهير المال من الحرام ومنعها له من اكتسابه من المصدر الحرام وبذلك يكون هذا المال طاهرا وحلالا فيكون الولد المتولد من النطفة المتكونة من الدم الناشىء من الغذاء الحلال ـ ولد حلال ولا يكون ابن حرام متولدا من العلاقة غير الشرعية او من الغذاء الحرام لان الصلاة الصادرة من المؤمن الواعي لاهدافها والمحقق لغاياتها تمنع المصلي من كل نوع من انواع الحرام بمقتضى نهيها وانتهاء المصلي بها عن الفحشاء والمنكر كما سبق .
وهذا بخلاف الشخص الذي يترك الصلاة ويقطع صلته بالله سبحانه ليطلق لنفسه الامارة بالسوء ـ العنان في ميدان الاهواء فلا يلتزم بفعل واجب ولا ترك حرام ـ فقد تكون علاقته الجنسية غير شرعية ولو كانت شرعية ولكنه لا يتورع عن تناول الغذاء الحرام او المشتمل على الحرام ـ وتكون النتيجة ما ذكرناه من تولد ولده بالطريق غير الشرعي او من الغذاء الحرام وكلا السببين يؤديان الى نتيجة سلبية بالنسبة الى هذا الولد حيث يكون ميله الى الشر اقوى من ميله الى الخير ويسبب ذلك صعوبة في تربيته بالنسبة الى من يشرف عليها ويتحمل مسؤوليتها كما يصعب عليه نفسه ان يسيطر عليها ويسير بها في درب التقوى والاستقامة ـ ولهذا ورد في حق ابن الزنا ـ انه لا ينجب الا من رحمه الله وادركته العناية الإلهية وهيأت له من يجاهد في سبيل تربيته والسير به في درب الخير والفضلية والنجابة .
والصوم ايضا حمام روحي آخر يطهر النفس من أدناس الذنوب والمعاصي بماء التقوى باعتبارها الغاية الاساسية المقصودة منه والفائدة الكبيرة المترتبة عليه لقوله تعالى :


( 243 )


( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (1) .
والصوم يطهر الجسم ايضا من الامراض التي يصاب بها وينحصر علاجها به لان الصوم بطبيعته يقوم اولا بدور الوقاية من الاصابة بكثير من الامراض كما يقوم ثانيا بدور العلاج بعد حصول الاصابة وهذا ما اشار اليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : « صوموا تصحوا » .

دور فريضة الحج في تطهير نفس المكلف وماله :
وفريضة الحج حمام روحي ايضا يطهر الروح والنفس من اوساخ الذنوب كما يطهر في الغالب المال من الحق الشرعي حيث لا يصح الا بالمال المطهر من حق الغير كما هو واضح ولذلك نرى كثيرين ممن لا يلتزمون بالفريضة المالية خمسها وزكاتها يلتزمون بتطهير مالهم الذي يحجون به لتوقف صحته على ذلك ـ وربما توفق بعضهم للقيام بعملية تطهير شاملة لكل امواله مع الالتزام بإخراج الحق الشرعي سنويا بعد تحديد رأس سنة له على يد أحد وكلاء المرجع الذي يرجع غليه في التقليد ـ وهذا واجب على كل مكلف بقطع النظر عن فريضة الحج واقتضائها تطهير المال من الحق الشرعي لان هذا التطهير واجب مستقل كالصوم والصلاة ـ لذلك يطلب من كل مكلف ان يتنبه لهذه الوظيفة الشرعية الهامة التي تتم بها سائر الفرائض لتوقف صحتها عليها كما تقدم بالنسبة الى الصلاة والحج حيث لا تصح الصلاة بثوب اشتري بمال متعلق للحق الشرعي كما لا يصح الحج بمثل هذا المال ايضا .
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 183 .


( 244 )


ومع فرض صحة هاتين الفريضيتن وعدم توقفهما على اخراج الحق الشرعي كما يتفق ذلك في بعض الفروض ـ ولكن المتأمل في حكمة تشريع العبادات كلها بصورة عامة والصوم والصلاة والحج بصورة خاصة يدرك جيدا ان الغاية الاساسية المقصودة منها هي التقوى المتمثلة بفعل الواجبات وترك المحرمات ومن المعلوم ان تأدية الفريضة المالية بإخراج الخمس وإيتاء الزكاة من اهم الواجبات وتركها من أبرز المحرمات لانه يشتمل على المعصية من ناحيتين .
الأولى : ترجع الى الخالق المشرع .
والثانية : تعود الى المخلوق بسبب غصب حقه وحرمانه منه وبذلك يعرف دور الفريضة المالية في تطهير المال من حق الغير مع تطهيرها النفس من درن الشح ودنس البخل والحرص .

دور التوبة في تطهير الإنسان نفسا ومالاً وولداً :
واذا طهرت الروح وسلم القلب من الامراض المعنوية المذكورة ونحوها من الصفات الذميمة المدمرة يسلم الجسم من الكثير من الامراض المادية التي تنشأ غالباً من تلك الامراض المعنوية المحطمة وعلى هذا يصح ان يقال : الجسم السليم في العقل والقلب السليمين ـ كما يقال في المقابل العقل السليم في الجسم السليم .
وهناك حمام اكبر واوسع من حمام العبادات المذكورة وهو حمام التوبة الذي يطهر النفس والروح من اوساخ الذنوب الحاصلة من ارتكاب المحرمات وترك الواجبات وخصوصا الواجبات العبادية المعهودة التي تقدم انها حمامات روحية تطهر النفس من النجاسات المعنوية فإن ترك


( 245 )


هذا الواجبات مضافا الى ترك الواجبات الاخرى وفعل المحرمات يؤدي لان يسقط مثل هذا الإنسان في مستنقع من اوساخ الذنوب وادران الخطايا ولا ينقذه منه ويطهره من أقذاره سوى حمام التوبة الكبير القابل لان يزيل عنه ذلك ويعيده الى حالته الاولية من الطهارة والنقاء كما اراد الله سبحانه له بفتح باب التوبة امام المنحرفين عن جادة العبودية وشجعهم على التطهير من الادناس بمائها بأنه سبحانه بعد تنظيفهم لنفوسهم يصبحون محبوبين لديه ومقربين اليه وكأنه لم يحصل منهم شيء من الخطأ والانحراف ـ وهذا ما أراد بيانه لهم بقوله تعالى :
( إن الله يحبُ التوابين ويحب المتطهرين ) (1) .

الأمور المحققة للتوبة الواجبة على المكلف :
وحيث ان للتوبة دورها البارز في تنظيف النفس وتطهير الروح من شوائب الخطايا ـ فقد اوجبها الله بالوجوب الفوري والمؤكد وهي لا تتحقق الا بشروط عديدة أهمها ما يلي :
الأول : الندم على ما حصل من المخالفة والانحراف عن جادة العبودية .
الثاني : العزم والإصرار على عدم العودة الى المخالفة .
الثالث : ايصال الحقوق التي غصبت بسبب المخالفة والإنحراف عن الجادة .
وبعد التأمل بمضمون كل واحد من هذه الامور يعرف انها مقومة
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 222 .


( 246 )


لحقيقة التوبة على حد تقوم الصلاة بأجزائها المعهودة وخصوصا الركنية منها وليست شروطا خارجة عن طبيعتها ودخيلة في صحتها وترتب الاثر عليها كما هو المفهوم من كلمة الشرط .
وتوضيح ذلك : ان التوبة معناها الرجوع الى جادة الاطاعة عمليا والعدول عما كان عليه ومن المعلوم ان هذا لا يتحقق الا بعد الشعور بالخطأ والندم على ما سلف وهذا لا بد ان يكون بمرتبة قوية بحيث تسبب عند التائب ردة فعل وحالة انقباض فكري وعاطفي تجاه المخالفة السالفة لان ذلك هو الذي يحقق الامر الثاني المتمم للأول ـ وهو ـ اي الثاني الإصرار على عدم الرجوع الى ما كان عليه لان الإصرار على العودة يدل على عدم الندم والتردد في العودة واحتمال حصولها يدل على ضعف الندم او عدمه .

اشتراط تحقق التوبة بارجاع كل حق الى صاحبه :
وبذلك يعرف الوجه في اعتبار الامر الثالث في تحقق التوبة وهو ارجاع كل حق اغتصبه بالمعصية ـ الى صاحبه وذلك لان التوبة في واقعها عملية تطهير من دنس المخالفة ومن المعلوم ان ازالة هذا الدنس لا يكون الا بازالة السبب المؤدي له لأن بقاء السبب واستمراره يقتضي بقاء ما نشأ منه وترتب عليه وحيث ان المخالفة ادت الى غصب حق الإطاعة لله سبحانه وقد يقترن ذلك باغتصاب حق بعض الناس ـ ففي هذا الفرض اذا كان حق الله سبحانه واجب القضاء والتدارك كالصلاة والصوم والزكاة والخمس والحج ـ اذا تركها المكلف وجب عليه قضاؤها ويفترق الواجبان الاولان والخامس (1) عن الواجبين الماليين ـ وهما الخمس
____________
(1) والخامس وهو الحج .


( 247 )


والزكاة ـ بأن الماليين يثبت فيهما حقان احدهما معنوي وهو حق الإطاعة لله بالقضاء والثاني حق مادي وهو نفس الحق الشرعي الذي تعلق بمال العاصي لمستحقه وأما غير هذين الواجبين من الفروض الثلاثة المذكورة وهي الصلاة والصوم والحج فليس فيها سوى حق واحد وهو حق القضاء وهو بديل عن حق الاداء الذي كان ثابتا قبل حصول المخالفة المفوته .
والحاصل : أن المعصية اذا أدت الى غصب حق معنوي لله سبحانه ـ وحده او مع غصب حق مادي للغير وكان واجب القضاء فالتوبة لا تتحقق الا بقضاء ما وجب عليه قضاؤه لصاحبه لانه مع عدم القضاء يكون واقعا في معصية اخرى وراء المعصية الاولى ـ وهي نجاسة معنوية ثانية تضاف الى سابقتها ومع ذلك لا يعقل حصول التوبة بمعنى الطهارة والنظافة من دنس المعصية كما هو واضح ـ من أجل هذا وذاك اشترطوا لتحقق التوبة إرجاع كل حق غصب بالمخالفة السابقة ـ الى صاحبه والله سبحانه هو المسؤول ان يوفقنا جميعا لما فيه رضاه وسعادتنا في الدنيا والآخرة .
والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .


( 248 )


الخطبة الثالثة والعشرون (1)

من وحي عيد الاضحى

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : إن عيدي الفطر والاضحى عيدان إسلاميان عظيمان قد اهتم بهما الاسلام واحتفل المسلمون سابقا ولا يزالون يحتفون بهما لاحقاً والله سبحانه عندما شرع هذين العيدين فقد استهدف بذلك حكمة بالغة ومصلحة عامة هامة كما هو الشأن في جميع ما شرعه من احكام فهو الحكيم الذي لا يشرع حكما الا لحكمة فيه ومصلحة تترتب عليه وتعود على الانسان فرداً ومجتمعا .
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في 15 ـ 8 ـ 1986 م الموافق 10 ـ 12 ـ 1407 هـ .


( 249 )


واذا نظرنا بعين البصيرة الى الحكمة المستهدفة من جعل اليوم الاول من شهر شوال عيداً عاماً للمسلمين ويسمى بعيد الفطر ـ ندرك ان الحكمة في ذلك والغاية المتوخاة منه هي الاحتفاء والاحتفال بإقامة مهرجان تكريمي بمناسبة تخرج مجموعة من أبطال العقيدة من مدرسة التدريب الروحي باعتبار ان صوم شهر رمضان المبارك يعتبر دورة تدريبية سنوية يتدرب فيها الصائمون على ما يقوي ارواحهم واجسامهم ويجعل منهم ابطالا شجعانا يتحملون المشاق ويقتحمون المعارك في سبيل نصرة المبدأ والدفاع عن الوطن وتحريره وبعد انتهاء فترة الدورة يكون التخرج والاحتفال بهذه المناسبة كما جرت العادة على ذلك بمناسبة تخرج مجموعة من الضباط والجنود الابطال من المدرسة الحربية بنجاح وتفوق من اجل تكريمهم وتوزيع الجوائز التكريمية عليهم .
وهكذا الاحتفال بيوم عيد الفطر إنما كان لهذه الغاية وتلك الحكمة .

عيد الفطر لا يشمل المفطرين بدون عذر :
وبذلك يعرف ان هذا العيد مقصور على خصوص الصائمين الناجحين في مدرسة الصيام بامتثالهم امر الله سبحانه وقيامهم بهذه الدورة التدريبية ـ ولا يشمل بوجه من الوجوه اولئك الذين أفطروا في شهر رمضان المبارك وخالفوا تعاليم الرحمن فهم خارجون عن هذا العيد وهم انفسهم يشعرون بخروجهم عنه كما خرجوا عن جادة الطاعة في شهر الرحمة والمغفرة .
والذي يتوقع حصوله لهم هو خجلهم من أنفسهم ومن الآخرين في


( 250 )


هذا اليوم الذي يقدم فيه المؤمن الملتزم لاخيه المشابه له بالالتزام التهنئة بما وفقه الله له من الانتصار على الذات وعدم الانجراف بتيار الاهواء والشهوات كما حصل لغير الملتزم الذي انهزم في معركة الجهاد الاكبر واصبح يعيش ذل الهزيمة وهوانها في الوقت الذي يعيش فيه اخوه الصائم بهجة الانتصار وعزة الفخار ـ وما يحصل لكل واحد من الصائم الملتزم ـ من الفرحة والبهجة المعجلة ـ وما يحصل للمفطر المنهزم من ألم النفس ووخز الضمير والشعور بالسقوط والرسوب في امتحان التكليف .
أجل : إن ما يحصل للأول من نعيم الفرحة ونشوة العزة وللثاني من وهن الهزيمة وألم الكآبة ـ يعتبر جزاء معجلاً على ما قدمه من خير وشر انطلاقا من قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ ) (1) .
ويبقى الجزاء الاوفى والاعظم مؤجلا ليوم الجزاء الخالد بالسعادة الدائمة او الشقاوة المستمرة ( ولايظلم ربك أحداً ) (2) .
ثم إن الرسوب في مدرسة الصيام نوعان :
الأول : الرسوب الواضح وهو الحاصل بترك الصيام من الاساس .
والثاني : هو الحاصل بعدم تحقيق الغاية المقصودة من الصوم بعد الإتيان به وهي الالتزام بمنهج التقوى ـ كما يستفاد ذلك من صريح قوله تعالى :
____________
(1) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 ، 8 .
(2) سورة الكهف ، الآية : 49 .