أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة التاسعة : ذكر الله سبحانه ودوره في تقديم الإنسان وسلامة مسيرته
 
 


الخطبة التاسعة : ذكر الله سبحانه ودوره في تقديم الإنسان وسلامة مسيرته

البريد الإلكتروني طباعة


الخطبة التاسعة (1)

ذكر الله سبحانه ودوره في
تقدم الإنسان وسلامة مسيرته

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


السلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله الا بذكر الله تطمئن القلوب ) (2) .
وقال سبحانه : ( والذاكرين الله كثيراً والذاكرات اعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما ) (3) .
المراد بالذكر الذي مدح الله به عباده المؤمنين وبين انه السبب في اطمئنان قلوبهم وتعلقها بربهم ـ هو التذكر لعظمة الله سبحانه وجلاله
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي عليه السلام في 18 ـ 10 ـ 1985 م .
(2) سورة الرعد ، الآية : 28 .
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 35 .


( 94 )


واستحضار هذه العظمة في الذهن والاحساس الشعوري الباطني ليظل الذاكر له بهذا المعنى على ارتباط به واقبال عليه في كل احواله واوضاعه .
وهذا ما يوحي به قوله تعالى :
( إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولى الالباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (1) .
فقد بين الله سبحانه ان المراد بذكر الله تعالى الذي يحصل من المؤمنين العقلاء في هذه الاحوال الثلاثة هو التفكر في خلق السماوات والارض بقرينة عطف قوله : ويتفكرون في خلق السماوات إلخ ، على قوله : ( يذكرون الله ) عطف تفسير كما هو الظاهر بدليل انه حصل لهم بهذا التفكر ايمانهم بحكمته تعالى وانه لم يخلق هذا الكون بما فيه ومن فيه عبثا وباطلا بلا هدف وحكمة ـ بل خلق الكون لخدمة الإنسان كما صرح بذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم .
منها قوله تعالى : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منهُ ) (2) .
وقوله تعالى : ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض ) (3) .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآيتان : 190 ـ 191 .
(2) سورة الجاثية ، الآية : 13 .
(3) سورة لقمان ، الآية : 20 .


( 95 )


وخلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما صرح بذلك في قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (1) .
ومن الواضح ان الوصول الى هذه النتيجة لا يكون بمجرد الذكر اللساني الخالي من التفكر القلبي والتدبر العقلي .
وهذا ما ورد النص عليه في الكثير من الروايات وبيان الكثيرين من المفسرين .
وبعد معرفة هذه الحقيقة وان الذكر الذي مدح الله عباده المؤمنين به هو التفكر واستحضار عظمة الله سبحانه وجلاله وانه الكامل بالكمال المطلق الذي اوجد الكون بقدرته الجبارة وسيره لخدمة الإنسان بحكمته البالغة وانه مصدر الخير كله والملجأ الامين لدفع الشر والسلامة منه وانه لم يكلف عباده بالعبادة الا ليتوصلوا بها الى الكمال والسعادة .
أجل : بعد معرفة ذلك كله والاطلاع عليه بوعي وتدبر يأتي دور بيان الفوائد المترتبة على هذه العبادة الباطنية التي هي روح العبادة الظاهرية كما يوحي بذلك بعض الروايات القائلة ما حاصله : لا يكتب للإنسان من صلاته الا ما اقبل به على ربه .
فأقول : الذكر بالمعنى المذكور يكون حاضرا لدى الإنسان المؤمن الذاكر الملتفت إما تفصيلا او اجمالا وارتكازا في كل احواله واوضاعه وسأقتصر على ذكر فائدة حصوله عند اهم الاوضاع التي يكون لوجوده فيها أثر بالغ ودور بارز في حياة الإنسان وتصرفاته وهي ما يلي :
حالتا النعمة والمصيبة وحالتا الاطاعة والمعصية فعلا او الاقدام عليها وحالتا الرضا والغضب وهناك احوال اخرى لم اذكرها اما لرجوعها
____________
(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .


( 96 )


الى ما ذكر كحالتي الغنى والفقر ـ لانهما ترجعان الى حالتي النعمة والمصيبة ببعض الاعتبارات او لامكان الاستغناء عن ذكرها بالخصوص لامكانية معرفة دور الذكر فيها من معرفة فائدته فيما ذكر .
اما فائدة ذكر الله سبحانه حال النعمة فواضحة بسبب ما يوحي به تذكر الله سبحانه حال التمتع بنعمه التي لا تحصى من كونه المصدر الحقيقي لكل ما ظفر به وحصل له من النعم وقد نص على ذلك بقوله تعالى : ( ومابكم من نعمة فمن الله ) (1) .
واكد ذلك بقوله سبحانه : ( وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ) (2) .
مع الالتفات التفصيلي ببركة هذا التذكر الى انه سبحانه لم يتفضل عليه بهذه النعمة الا ليستعين بها على تحقيق الغاية الكبرى التي خلقه من اجلها وهي عبادته وحده لاشريك له وانه إذا صرفها في هذا السبيل كان شاكرا الله عليها بالشكر العملي الذي يقتضي بطبعه زيادة النعمة وبقاءها عند صاحبها الشاكر مع توفيقه لطول البقاء والسلامة من البلاء لما هو المعروف المشهور من ان الصدقة الواجبة او المستحبة تطول الاعمار وتعمر الديار وتدفع البلاء وقد أبرم إبراماً .
أجل : إن تذكر الله المنعم من قبل صاحب النعمة يؤدي الى صرفها في سبيل إطاعته سبحانه وذلك يؤدي الى هذه النتائج الايجابية المباركة والفوائد العديدة .
وقد اشار سبحانه الى ما يترتب على شكر النعمة الناشىء عن ذكر
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 53 .
(2) سورة النحل ، الآية 18 .


( 97 )


المنعم بها والتفكر فيما يستحقه من الشكر وما يترتب عليه من الزيادة والخير والبركة بقوله تعالى :
( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (1) .
وإذا كان الذاكر لله سبحانه واعيا وملتفتا ببركة تذكره الواعي الى ان العذاب المترتب على الكفر بنعمة الله سبحانه ليس مقصورا على العذاب الاخروي بل هو شامل للعذاب الدنيوي المعجل الذي يتحقق بسلب النعمة عن الكافر بها الصارف لها في غير اطاعة الله سبحانه ، فإن تذكره هذا والتفاته الى هذه النتيجة السلبية الخطيرة يدفعه ويحتم عليه صرف نعمة الله في سبيل اطاعته ليحصل تلك الفوائد العظيمة ويسلم من نتائج الكفر العقيمة الجسيمة .
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه المجيد نموذجا للمؤمن الشاكر الذاكر وبين نتيجة شكره لله على نعمه الكثيرة والكبيرة وهي اعطاؤه ملكا واسعا لم يحصل لغيره من الحكام في هذه الدنيا .
وكان موضوع هذا الحديث السماوي القرآني هو النبي سليمان الذي ملك الدنيا بتوفيق الله وفضله ولكنها لم تملكه ولم تؤثر على موقعه العبودي من المنعم بها عليه ـ ولم يزده إقبالها عليه من جميع الجهات الا اقبالا على الله سبحانه بالشكر القلبي الذي ابرزه بالشكر اللساني عندما قال : ( هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر ام اكفر ) (2) .
وتوج كلا الشكرين القلبي بمعرفة مصدر هذا الملك العظيم واللساني بالاعتراف بأنه من فضل الله .
____________
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 7 .
(2) سورة النمل ، الآية : 40 .


( 98 )


أجل : توج هذين النوعين من الشكر بالشكر العملي الذي تمثل بصرف هذه النعمة الواسعة في سبيل مرضاته تعالى وحصل بذلك دوامها مع تحصيله حياة الخلود في هذه الدنيا ـ بالذكر العاطر الذي سجله الله له على صفحات كتابه الكريم بحروف من نور ( والذكر للإنسان عمر ثاني ) .
كما ذكر سبحانه نموذجا آخر هو على العكس من الاول وهو قارون الذي اعطاه الله سبحانه المال الكثير الذي عبر عن كثرته بقوله :
( وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوأُ بالعصبة اولى القوة ) (1) .
حيث انه قابل نعمة الله سبحانه بالكفر القلبي بإنكاره وجود تدخل للإرادة الإلهية في حصول هذه النعمة له وترجم هذا الانكار بحصر سبب حصولها له بعلمه ومهارته حيث قال : ( إنما أُوتيته على علم عندي ) (2) .
واذا دققنا النظر في مصدر هذا الانكار والكفر القلبي واللساني وما ترتب على ذلك من الكفر العملي حيث امتنع عن دفع الحق الشرعي الذي تعلق بثورته لمستحقه نرى ان مصدر ذلك هو الغفلة المطبقة وعدم تفكره وتذكره للمصدر الحقيقي لكل النعم التي تحصل للإنسان في هذه الحياة ـ ولذلك أخذه الغرور والطغيان الذي ادى به الى تلك النتيجة السلبية التي ترتبت على طغيانه هذا وهي خسف الله به وبداره الارض كما تحدث بذلك القرآن الكريم حيث قال سبحانه مبينا مصيره المؤلم المظلم :
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 76 .
(2) سورة القصص ، الآية : 78 .


( 99 )


( فخسفنا به وبداره الارض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ) (1) .
وقد ذكر الله سبحانه هذين النموذجين من الناس من اجل ان نستوحي الدرس والعبرة ونبقى دائما وابدا على حالة ذكر لله وتذكر والتفات الى كونه هو المصدر الحقيقي لجميع الآلاء والنعم التي يتمتع بها الإنسان في هذه الحياة وقد اكد هذه الحقيقة الفطرية بقوله سبحانه :
( ومابكم من نعمة فمن الله ) (2) .
وقوله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ) (3) .
كما بين لنا نتيجة ذكره وشكره وهي زيادة النعمة ودوامها ونتيجة الغفلة والتنكر لمصدر النعمة ـ وهي سلب هذه النعمة وما يترتب عليه من العذاب النفسي وذلك بقوله تعالى :
( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (4) .
وقد مر بيان ذلك مفصلا في أواخر صفحة 65 .

فائدة ذكر الله سبحانه حال الابتلاء بالمصيبة :
وأما الفائدة المترتبة على ذكر الله سبحانه حال ابتلاء الانسان بالمصيبة فهي تختلف باختلاف مصدرها فإذا كانت حاصلة له بسبب معصيته ومخالفته لمناهج السماء تكون فائدة ذكره لله سبحانه والتفاته الى
____________
(1) سورة القصص ، الآية : 81 .
(2) سورة النحل ، الآية : 53 .
(3) سورة النحل ، الآية : 18 .
(4) سورة إبراهيم ، الآية : 7 .


( 100 )


أن معصيته له كانت السبب في إصابته بتلك المصيبة هي التوبة والرجوع الى منهج الاستقامة لينال ثواب التوبة ويسلم من تلك المصيبة وبذلك تكون الإصابة بالمصيبة على أثر حصول المعصية ، درسا تربويا وعقوبة معجلة من الله الرحيم ليردع بها الإنسان عن انحرافه ويعيده الى جادة عبوديته له ويسلمه من التمادي في الإنحراف وما يترتب عليه من المضاعفات السلبية الخطيرة كما يسلمه من العذاب الاكبر والاطول يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم وسلوك مستقيم وقد اشار ذلك الشاعر الحكيم الى هذا المعنى بقوله :

وقسا ليزدجروا ومن يك راحما * فليقس احيانا على من يرحم


وإذا كانت المصيبة حاصلة له من ظلم الغير تكون فائدة ذكر الله سبحانه واللجوء اليه بالتضرع هي الاستعانة بالقوة العادلة من اجل دفع الظلم عنه وارجاع الحق اليه .
وإذا اقتضت الحكمة الإلهية تأخير الانتصار لهذا المظلوم الى المستقبل القريب في الدنيا او البعيد في الآخرة فإن ذكره سبحانه وتذكره عدله وانه لا بد ان يحكم بينه وبين ظالمه بالعدل عاجلا ام آجلا يجعله في حالة تطلع وترقب لإشراق فجر العدل عليه بنور الانتصار له ودفع الظلم عنه ـ فلا يغرق في ظلام ليل اليأس المظلم المؤلم ـ وهذه اعظم فائدة واطيب ثمرة يقطفها المؤمن من شجرة ذكره لله وتذكره عدله ورحمته بصورة تفصيلية تزيل عنه الم اليأس من الفرج .
وإذا كانت المصيبة حاصلة له بالقدر والقضاء بدون تدخل عامل اختياري بشري ذاتي أو غيري فإن فائدة التذكر لعدل الله سبحانه الشامل ورحمته الواسعة وانه لا يقدر لعبده المصيبة الا ليكفر سيئاته ويضاعف حسناته اذا رضي بها وصبر عليها ويدخله بعد ذلك الجنة بغير حساب .


( 101 )


أجل : إن فائدة ذكره الله سبحانه في هذه الحالة بالتذكر القلبي الواعي تتمثل بالصبر عليها وعدم التبرم والضجر منها وينال بذلك اولا ان يخف المها ويسهل تحملها حاضرا كما ينال ثانيا الجوائز الكبيرة التي وعد الله بها عباده المؤمنين الصابرين بقوله سبحانه :
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (1) .

فائدة ذكر الله سبحانه حال الطاعة والمعصية :
واما فائدة ذكره لله سبحانه حال الطاعة فهي تتمثل بإعطاء الروح لها لان قيمة الاطاعة والعبادة لله سبحانه ودرجة ثوابها تكون بقدر ما يكون الإنسان العابد المطيع متذكرا لعظمته تعالى ومنشدا اليه بسلك الرجاء والطمع في ثوابه والخوف والخشية من عقابه واذا ترقت درجة التذكر والالتفات لعظمة الله ذاتا وحقا وانه اهل ان يطاع ويعبد لذاته لا لعامل الخوف والرجاء فتلك اعظم فائدة ينالها العابد المطيع واسمى مرتبة يرقى اليها على سلم العبودية الواعية الخالصة .
واما فائدة الذكر لله سبحانه حال المعصية فعلا او الاقدام عليها قبل وقوعها فهي تتمثل بالتوبة والرجوع اليه وبترك ذلك الاقدام والتحول منه الى موقف الإنابة الراجحة والتوبة الناجحة التي تعود عليه بالسلامة من مضاعفات الانحراف عن خط الاستقامة في هذه الحياة مع السلامة من الخطر الاكبر والمصاب الاخطر يوم الحساب مضافا الى ما يناله
____________
(1) سورة البقرة ، الآيات 155 ، 156 ، 157 .


( 102 )


بالرجوع الى جادة العبودية لله تعالى من المنافع العظيمة والمعنوية والمادية الدنيوية والاخروية .

فائدة ذكر الله سبحانه حال الرضا والغضب :
وأما فائدة الذكر لله سبحانه حال الرضا من الآخرين والتجاوب معهم فهي تظهر بالمحافظة على الاستقامته في خط مرضاة الله سبحانه ومنهج عبادته مهما كانت المغريات قوية والضغوطات شديدة لان رضا الله سبحانه وحده هو الذي ينفع ويرفع وسخطه هو الذي يحطم ويدمر كيان المغضوب عليه وبذلك تظهر وتعرف فائدة ذكر الله حال الغضب وهي الاستمرار على منهج العدالة وعدم الانحراف عنها يمينا او شمالا تحت تأثير العامل النفسي الثائر وذلك هو روح العدالة والتقوى التي تعود على صاحبها بالخير العميم والاجر الجسيم الذي ينسى معه الإنسان المؤمن التقي كل المتاعب والمصائب التي تطرأ عليه نتيجة استقامة في خط السماء وعدم تجاوبه مع ميول وأهواء الاعداء .
وقد ترجم الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بقوله مخاطبا الله سبحانه في مناجاة تبتل وانقطاع : ان لم يكن بك غضب عليّ فلا ابالي ، كما ترجمه سيد الشهداء على صعيد الطف يوم عاشوراء عندما ذبح طفله الرضيع على يده بقوله : هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب ، وترجمه ايضا بقوله بلسان المقال او الحال :


رضاك رضاك لا جنات عـــدن * وهل عدن تطيب بلا رضـاك
ولـو قـطـعـتني في الحب إرباً * لما مال الفؤاد إلى ســـواكا


وينسجم مع هذا الجو الإيماني الثابت قول ذلك الشاعر مخاطبا الله تعالى :


( 103 )

 

وليتك تحلو والحياة مـريرة * وليتك ترضى والانام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العـالمين خراب


وإلى نفس هذا المعنى اشرت بمقطوعة شعرية نظمتها سابقا في النجف الاشرف :


كن مع الله والتمس بـرضاه * رحمة منه واستمد ثوابـاً
أقبل الناسُ أم أشاحوا وراحوا * يُرسلون العتاب مراً وصابا
غضبُ الخلق لا يضير إذا ما * دنت للحق واتبعت الصوابا
إن هذي الحياة منجم كسـب * يحتوي الدر ضائعاً والترابا
كن مع الله إن اردت فلاحـاً * واطرح القشر وأخذن اللبابا


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله .


( 104 )


الخطبة العاشرة (1)

من وحي عاشوراء

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


السلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :
قد ادركنا على ضوء الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في شأن الشعائر الحسينية ودعوتهم الى الاهتمام بها مضافا الى احيائهم لها في عصرهم .
أجل : قد ادركنا على ضوء هذا وذاك ان لإحياء الشعائر الحسينية اهمية كبرى وفائدة عظمى وهذا اصبح واضحا لدى جماهير عاشوراء وانما الشيء الذي كان ولا يزال محاطا بشيء من الخفاء والضبابية هو مدى هذا الإحياء وهل هو محدود ومقصور على ايام العشر الاولى من محرم الحرام في كل عام او ان لذكرى عاشوراء امتدادا شاملا وواسعا بحيث يشمل حدود المكان والزمان والاذهان بصورة عامة ؟ ، والصحيح
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 9 ـ 6 ـ 1995 م .


( 105 )


هو الثاني ويتضح ذلك بعد ان ندرك ان الصراع الذي وقع في التاريخ لم يكن صراعا بين الاشخاص لتنتهي عاشوراء بانتهائهم وانما كان صراعا بين مبدأي الحق والباطل والصراع بينهما قد وقع بين افراد اول مجتمع وجد على صعيد هذه الحياة وبذلك ندرك ان لعاشوراء بهذا الاعتبار امتدادا وجذورا ضاربة في اعماق التاريخ ولم يكن حدوثها متأخرا ومقصورا على زمان الامام الحسين عليه السلام وخصومه . وقد ذكر لنا القرآن الكريم نموذجا لهذا الصراع المبدئي التاريخي وهو الذي وقع بين ابني آدم هابيل وقابيل وانطلق بعد ذلك في رحاب الزمن حتى وصل الى عصر الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعوته المباركة وزحف بعده حتى وصل الى ذورته في عصر حفيده الامام الحسين عليه السلام وتابع زحفه حتى وصل الى زماننا هذا وسيستمر الى ان يبزغ فجر النصر النهائي لمبدأ الحق والعدل والفضيلة على اضدادها على يد المصلح الاكبر الامام المهدي المنتظر ( عج ) عندما يصدر الامر الإلهي بظهوره ليملأ الارض كلها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
وبامتداد هذا الصراع الى عصرنا تتمثل لنا كربلاء جديدة في كل أرض يحصل فوقها كما تتجدد عاشوراء وتتمثل في كل يوم يحصل فيه اي ذلك الصراع .
وقد ادرك الإمام الصادق عليه السلام هذه الحقيقة المبدئية التاريخية فترجمها بقوله عليه السلام كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء .
وذلك لان طرفي هذا الصراع في الدرجة الاولى هما المبدآن المذكوران ويسري منهما الى كل من يحملهما من الافراد في كل زمان ومكان ومن الواضح ان الصراع الخارجي مسبوق بالصراع الداخلي الواقع بين هذين المبدأين في عالم الفكر والقلب والنفس .


( 106 )


ويتمثل مبدأ الحق الثابت في هذا العالم بالإيمان بالعقائد الحقة وبما يتفرع منها من النظم العادلة التي تتحقق بتطبيقها عبادة واضعها وهو الله سبحانه وحده لا شريك له ونفع الإنسان فردا ومجتمعا كما اراد تعالى وحيث ان هذه النظم مشرعة من قبل الله تعالى تكون حقا كما ان العمل بها يكون كذلك .
ومن المعلوم ان كل حق في مورد يقابله باطل مناف له ومصطدم معه فالعقيدة الحقة تعارضها وتصادمها العقيدة الباطلة كالالحاد والشرك المنافيين للتوحيد ونظرية تجويز الظلم في حقه تعالى المنافية للإيمان بضرورة اتصافه بالعدل وهكذا سائر العقائد الباطلة مقابلة لما ثبت بالبرهان القاطع حقيته من العقائد الصحيحة المعهودة .
وكذلك القوانين الحقة والنظم العادلة الصادرة عن الله الحق تقابلها النظم الجائرة الصادرة عن غير الله سبحانه من واضعي قوانين البشر فهذه تكون مصداقا للباطل ما دامت صادرة عن غير الله الحق والعمل بالقانون الباطل يكون من مصاديق الباطل ايضا .
وحيث ان الحسين عليه السلام قد ذاب في الإسلام عقيدة وشريعة وعملا وفي مقابله خصومه الذين انحرفوا عنه اي عن الإسلام في هذه المجالات فكل من يحمل عقيدته الحقة ويؤمن ويلتزم بشريعته العادلة ويطبق ما تشتمل عليه من احكام وقوانين ـ يكون من أنصار الحسين واتباعه من حيث انه مع الحق والحق معه كأبيه علي عليه السلام وبذلك يكون كل واحد من هؤلاء الانصار قد قبل الحسين بقبول الحق كما اراد هو عليه السلام عندما قال : فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ـ وفي المقابل يعرف ان كل من ينحرف عن دين الله الحق بما يحمله من عقيدة باطلة وينتمي اليه ويلتزم به من قانون مناف لشرع الله سبحانه وبما


( 107 )


يمارسه من سلوك منحرف عن خط السماء يكون من انصار خصوم الحسين في جبهة الباطل المحاربة لجبهة الحق في كربلاء المبدأ والنظام والسلوك .
وهذا كله على مستوى الطرح العام والبيان الكلي للمبادىء والنظم والممارسات الحقة العادلة وما يقابلها من ذلك كله مما هو منطلق في خط معاكس .
ومن أجل التوضيح والتصريح نخرج من إطار العموم الى حيز الخاص حيث تبرز لنا صورة الصراع بين الحق والباطل في كربلاء الخارج بعد ان تصورنا حصوله على عالم الفكر والنفس بين المبادىء وما ينشأ منها فنقول :
إذا خرجنا واخرجنا هذا الصراع من عالم الفكر الى حيز الواقع نجد ان اول ساحة تكون مسرحا له هي ساحة الاسرة المجتمع الصغير وبعدها ساحة المجتمع الواسعة ـ حيث توجد في كلتا الساحتين ولافراد كلا المجتمعين الصغير والكبير حقوق وواجبات كما هو معلوم من واقع شريعتنا الاسلامية العادلة الكاملة .
ففي إطار المجتمع الاول حقوق لكل واحد من الزوجين على الآخر ولكل واحد من الابوين حقوق على الاولاد كما ان للاولاد حقوقا عليهما ـ وفي مقابل كل حق واجب كما هو معلوم .
وإذا خرجنا من إطار المجتمع الصغير ـ الاسرة ـ وانطلقنا في رحاب المجتمع الكبير فهنا توجد ايضا حقوق وواجبات بين افراد هذا المجتمع وهي حق الجار على جاره وحق المسلم على أخيه المسلم وحق الإنسان على اخيه في الإنسانية ـ لأن الإنسان أخو الإنسان كما


( 108 )


روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وحيث ان الإسلام دين الرحمة والرفق قد شمل بذلك حتى الحيوان وجعل له حقا واجبا ومستحبا على صاحبه ـ وكذلك الحقوق الثابتة بين أفراد الاسرة والمجتمع ـ يراد بها ما هو اعم من الواجب والمستحب .
ومن المعلوم انه في اي مجال يوجد حق وعدل وفضيلة فهناك الاسلام الحق لان ذلك هو روح تشريعه وفلسفة نظمه وتعاليمه كما يوجد كل واحد من اهل البيت المعصومين عليهم السلام باعتبار انهم يمثلون بسلوكهم القرآن الناطق والاسلام العملي المتحرك ـ وحيث ان الحسين عليه السلام احد افراد هذه العترة الطاهرة فنحن نجده هناك ناصرا للدين الحق وطالبا منا ان نكون من انصاره في معركة المواجهة بينه وبين خصومه .
ومن المعلوم ان نصرته في هذه المعركة انما تكون بنصرة الدين الحق بتعلم اصوله وفروعه والعمل بما توجبه علينا من إعطاء كل ذي حق حقه ابتداء بحق الله سبحانه الثابت له بحكم العقل والمنطق على عباده وهو ان يعبد وحده لا شريك له كما امر ومروراً بالنفس وافراد الاسرة والمجتمع وانتهاء بأي مخلوق مهما كان اذا كان له حق .
ويقابل نصر الدين بما ذكرنا خذلانه وترك نصرته واذا كان نصر الدين الحق نصرا للحسين بالاعتبار المتقدم فخذلانه يكون خذلاناً له اي للحسين ووقوفا الى جانب الباطل ودعما له بطريق غير مباشر لان خذلان الحق يسبب ضعفه من ناحية فاعليته وتأثيره في الساحة العملية ومن المعلوم ان إضعاف المبدأ الحق يؤدي الى نصرة الباطل وسيطرته على انصاره فيكون الخاذل له مشاركا لمحاربه في النتيجة


( 109 )


ولذلك نسب الى الإمام علي عليه السلام قوله : في حق جماعة ولومه لهم (1) : إنهم لم ينصروا الباطل ولكنهم خذلوا الحق فأدى ذلك الى انتصار جبهة الباطل على جبهته في ساحة المواجهة .
وبذلك نستطيع ان نميز ونعرف من هو الناصر للحسين ومن هو المحارب او الخاذل له في كل معركة يتصارع فيها الحق والباطل العدل والظلم سواء كان ذلك في عالم الفكر والعقيدة او في عالم العمل والممارسة .
فكل شخص يحمل مبدأ الحق عقيدة في قلبه وينصره بالعمل بمقتضاه ويدافع عنه ويضحي في سبيل حقظه ، يكون من أنصار الحسين في كل زمان ومكان وإذا قتل في هذا السبيل يحشر مع الحسين عليه السلام ويحسب من الشهداء المقاتلين بين يديه .
وكل شخص يحمل مبدأ مضاداً لمبدأ الحسين الحق ويقاتل في سبيل نصرة مبدئه الباطل ـ يكون من اعداء الحق والحسين المحاربين له ـ ويلحق به من يؤمن بالحق وعقيدته الصحيحة ولكنه لا يعمل بإيمانه ولا ينصر عقيدته ومبدأه وربما زاد انحرافه السلوكي الى مرحلة يقف فيها ضدها متعاونا على الإثم والعدوان مع أعدائها كما كان وضع أولئك الجهلاء السفهاء الذين آمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وولاية أهل بيته الا ان ضعف ايمانهم مع قوة طمعهم وحرصهم على الدنيا وزينتها الفانية ادى لان يكونوا محلاً لما وصفهم به الفرزدق من كون قلوبهم مع الحسين عليه السلام وسيوفهم عليه .
ومما تقدم نعرف ان الإحياء الحقيقي للشعائر الحسينية وباستمرار
____________
(1) على موقفهم الحيادي السلبي تجاه الحق وأهله .


( 110 )


إنما يكون بتحقيق الاهداف السامية التي جاهد في سبيلها واستشهد من اجلها وهي التي اعلن عنها بصريح قوله عليه السلام :
وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي اريد ان امر بالمعروف وانهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب إلخ ، فالهدف الاولي الذي انطلق الامام الحسين عليه السلام بثروته من اجل تحقيقه هو الاصلاح في امة جده ومن المعلوم ان النهوض بهذه المهمة ليس مقصورا عليه ومختصا به بل هو مشترك بينه وبين سائر افراد الامة وفي كل ادوار التاريخ كفريضة الصلاة والصيام وسائر الفرائض الإسلامية .
وحيث ان القيام بدور الاصلاح في الامة وبين افرادها متوقف على اصلاح النفس في الدرجة الاولى تمهيدا للقيام بهذا الدور الكبير في إطار المجتمع كما هو واضح ، يتعين في حق كل مكلف يريد ان يقوم بهذا الواجب المقدس قيامه اولا بمقدمته وبما يتوقف عليه كما يجب على من يريد ان يأتي بالصلاة مثلا على الوجه المشروع الصحيح ان يأتي بمقدماتها المعهودة ويتجنب موانعها وقواطعها .
فإذا توفق لاصلاح نفسه اولا واستطاع بعد ذلك ان يقوم بدور الاصلاح العام في امة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ويأمر بالمعروف بعد فعله وينهى عن المنكر بعد تركه يكون بذلك محييا للشعائر الحسينية بالإحياء العملي المستمر كما يريد الله ورسوله وأئمة أهل البيت جميعهم عليهم وعلى جدهم الاكرم افضل التحية وازكى التسليم .
وإذا قامت الافراد بهذه المهمة المقدسة وفعلت اهم معروف امر الله به وهو الاعتصام بحبل الوحدة والتضامن وتركت اخطر منكر نهى عنه وهو التمزق والتفرق تكون الامة نفسها وهي الأم الطاهرة لأبنائها البارة


( 111 )


قد نهضت بأقدس واجب وساهمت مساهمة فعالة بإحياء الشعائر الحسينية واعدت واستعدت لاستعادة دور الشريعة الاسلامية والنظم السماوية لتقود الأمة المحمدية من جديد تحت راية الحق والعدل الى هدف السعادة والسلام والتضامن والوئام .
وبهذا وذاك يتحقق الاحياء العملي الحقيقي للذكرى الحسينية المجيدة وقد اشرت الى ذلك بمقطوعة شعرية مخاطبا بها الإمام الحسين عليه السلام :


ذكـراك لا تحيى بــقـول رثاء * كلا ولا بمدائح الشـعـراء
ذكراك فــوق المدح تـرقى بالذي * أُعطيته من رفعة وعــلاء
ذكراك تحيى يوم نـحيي وحــدة * نقضي بقوتها على الاعـداء
ونسير (1) في درب التقى بتضامن * وتــعاطف ومودة وإخـاء
الله قائــدنـا الوحيد وقــصدنا * نصر الهدى والشرعة الغراء
وإزالة الطاغــوت من اوطـاننا * وجميع من يحميه من عملاء
وإعادة الإسلام فــينـا حاكمـا * بالعدل في السراء والضـراء


وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله .
____________
(1) هذه الأبيات الاربعة المتممة لهذه المقطوعة حصل الاشتراك فيها بين هذه المقطوعة ومقطوعة اخرى نظمتها بمناسبة الاحتفال بعيد المولد النبوي .


( 112 )


الخطبة الحادية عشر (1)

فلسفة الابتلاء

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته :
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (2) .
اذا كان المراد من البلاء الوارد في قوله تعالى : ( ولنبلونكم ) هو الابتلاء والامتحان يتوجه نحونا حينئذ سؤالان :
السؤال الأول : ما معنى ان يمتحن الله عباده وهو العالم بأوضاعهم
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في 26 ـ 12 ـ 1415 هـ الموافق 26 ـ 5 ـ 1994 م .
(2) سورة البقرة ، الآيات : 155 ، 156 ، 157 .


( 113 )


واحوالهم قبل وجودهم في هذه الحياة وبعده الى ان يرث الارض ومن وما عليها وبذلك يرتفع موضوع الاختيار الذي يصدر من اجل معرفة حال الممتحن كالأستاذ يمتحن طلابه لمعرفة الناجح وغيره والاب ولده ليعرف بره وعدمه والصديق صديقه ليعرف إخلاصه والزوجة زوجها وبالعكس ليعرف كل واحد منهما وفاء الآخر وإخلاصه له وهكذا ؟ .
السؤال الثاني : ما معنى ان يبتلي الله عباده بهذه المحن والمصائب وهو ارحم الراحمين الذي سبقت رحمته غضبه ووسعت كل شيء ؟ .
وحاصل الجواب على السؤال الاول : ان الإمتحان مرة يكون للتعرف على حال الممتحن والإطلاع على وضعه واخرى يكون من اجل ان يعرف الانسان نفسه ويطلع الآخرون من الناس على واقع حاله من حيث قوة الايمان وضعفه والممتنع في حقه سبحانه هو الأول دون الثاني كما هو واضح وفلسفة هذا الامتحان بمعناه الثاني هي ان الكثيرين من الناس يكونون في حال الرخاء والسلام على حالة جيدة من الالتزام الديني والبروز بالمظهر الحسن الذي يوحي للآخرين بأنه قد بلغ المرتبة العالية في الالتزام الشرعي وربما طرأ عليه الاعجاب والغرور بحاله وحصل له الاطمئنان بأنه قد بلغ هذه الدرجة .

فلسفة الابتلاء في هذه الحياة :
وحيث ان الله سبحانه هو الحق فلا يرضى من الأنسان الا بالإيمان الحق القائم على اساس ثابت وراسخ ولا يعرف واقع ذلك الا بعد مرور الشخص بتجربة صعبة ومحنة شديدة اشار الله سبحانه الى بعض انواعها بالآية المذكورة .


( 114 )


وفي حال إصابته بشيء من ذلك اذا بقي على وضعه الاول من الالتزام بخط السماء بالايمان الصادق والاستقامة في خط التقوى يعرف انه قوي العقيدة وثابت الموقف لا تزيده المصيبة الا ثباتا على منهج الحق بعقيدته واستقامته وتسليمه لقدر الله سبحانه ورضاه به منتظرا احد امرين اما الفرج والسلامة ليقابل ذلك بشكر الله سبحانه على تفضله باستجابة دعائه وكشف بلائه او استمرار المصيبة وبقاءها الى اجل غير مسمى ليقابل ذلك بالاستمرار على الصبر والتسليم وينال ثواب الصابرين وجائزتهم التي اشار الله سبحانه اليها بقوله في آخر الآية المذكورة .
( أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمةُ وأُولئك هم المهتدون ) (1) .
وإذا حصل منه تبدل وتغير في الوضع بتحوله من موقف الالتزام والاستقامة في العقيدة والسلوك الى موقف الانحراف عنه فإنه بذلك يظهر واقعه امام نفسه والآخرين وان التزامه الذي كان عليه لم يكن قائما على اساس ثابت بدليل اهتزاز موقفه وتغير تصرفه من الاستقامة الى الإنحراف ليكون مصداقا لقوله تعالى :
( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن اصابه خير اطمأن به وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين ) (2) .
وكما يكون الامتحان بالمصيبة كذلك يكون بالنعمة والتكليف الحقيقي الواقعي الذي صدر من المولى بقصد العمل والامتثال او الظاهري الذي لم يصدر منه لذلك بل لمجرد الاختبار والامتحان فقط .
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 157 .
(2) سورة الحج ، الآية : 11 .


( 115 )


ونجاح المؤمن في امتحان النعمة يكون :
أولاً : باعترافه بكونها من الله سبحانه وتوفيقه وليست لمجرد توفير الاسباب المادية العادية المتعارفة فيكون ذلك منطلقا من إيمانه بمؤدى قوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) (1) .
وثانياً : بصرف هذه النعمة في سبيل إطاعته تعالى انطلاقا من إيمانه بأنه سبحانه إنما وفقه لنيل هذه النعمة ومن بها عليه من اجل ان يستعين بها على اطاعته وعبادته التي خلقه من اجلها وبنجاحه في هذا الامتحان ينال من الله سبحانه جوائز معجلة في هذه الحياة ومؤجلة الى اليوم الموعود .
أما الأولى : فتتمثل بزيادة النعمة ودوامها وطول العمر ودفع البلاء وقد ابرم ابراما كما تقدم في خطبة سابقة .
والمصداق الواضح للمؤمن الناجح بهذا الامتحان هو النبي سليمان على نبينا وعليه فضل التحية والسلام كما تقدم مفصلا حيث اعترف بأن ملكه الواسع كان من فضل الله سبحانه وقد من به عليه ليبلوه ويمتحنه ايشكر الله عليه بصرفه في سبيل اطاعته ام يكفر بصرفه في غير هذا السبيل ؟ وحيث صرفه في السبيل الاول وحقق بذلك واجب الشكر كان ناجحا في إمتحان النعمة ونال الجوائز العظمى والفوائد الكبرى في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم .
ويأتي قارون في المقابل ليكون المثال الواضح للإنسان الراسب في إمتحان النعمة حيث انكر كونها من الله سبحانه وادعى انها إنما حصلت
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 53 .


( 116 )


له لعمله وقدرته الذاتية البشرية وذلك هو الكفر القلبي الباطني وترتب عليه الكفر الظاهري العملي بامتناعه عن دفع الحق الشرعي الذي امره الله به بواسطة النبي موسى عليه السلام ونال بذلك جزاءه العادل وخسارته الكبرى عندما خسف الله به وبداره الارض وخسر بذلك الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين .

نجاح المؤمن في امتحان التكليف :
وأما النجاح في امتحان التكليف الواقعي فهو يكون بالالتزام به إيمانا وعملا مهما كانت الصعوبات ما لم تصل الى درجة الضرر او الحرج لان الشارع يرفع عنه الالزام في احد هذين الفرضين الا مع فريضة الجهاد المقدس الذي يتوقف عليه حفظ الدين من الزوال وتحرير الوطن من الاحتلال وانقاذ الشعب من الاذلال والاستغلال حيث يبقي على وجوبه والالزام به مهما كانت التضحية جسيمة لان الهدف اسمى والغاية أعلى وأغلى .
والناجح في هذا الامتحان ينال جائزته المعجلة بتحصليه مصلحة الواجبات بفعلها وسلامته من مفسدة المحرمات بتركها واذا اراد ان يضيف مصلحة المستحبات الضعيفة بفعلها مع الواجبات مع اضافته ترك المكروهات الى ترك المحرمات ليسلم من مفسدتها الخفيفة فذلك نور على نور وبذلك يعرف مصدر الرسوب والفشل في هذا الامتحان لأنه بضدها تتميز الاشياء وتكون نتيجة رسوبه هي حرمانه من المصلحة ووقوعه في المفسدة وهذه عقوبة معجلة .
وأما عقوبته المؤجلة فهي واضحة ومعلومة .
وقد نال الحسين عليه السلام الدرجة العالية من النجاح في امتحان


( 117 )


النعمة بما من الله به عليه من نعمة منصب الإمامة والجاه العريض والمال الكثير والذرية الصالحة المعصومة وغير ذلك من النعم والآلاء الجسيمة وذلك لأنه سخر ذلك كله وصرفه في سبيل مرضاة الله سبحانه وصون شريعته الغراء من الزوال والفناء كما نجح في امتحان التكليف الصعب الذي توجه نحوه من اجل حفظ الدين وصونه من التحريف والتزييف .

بلوغ الإمام الحسين عليه السلام قمة النجاح في امتحان البلاء والتكليف :
وقد نهض بمسؤولية هذا التكليف وضحى في سبيل امتثاله بنفسه النفيسة واولاده الاحباء واخوته الاعزاء واصحابه الاوفياء كما عرض عياله ومن بقي من ابنائه لاقسى الوان المشقة والعناء ايام سبيهم والانتقال بهم من بلد الى بلد ونال الإمام زين العابدين عليه السلام النصيب الاوفر من الالم النفسي والعذاب الجسمي في هذا السبيل .
أجل : لقد نال الامام الحسين عليه السلام الدرجة السامية بل الاسمى والاعلى من النجاح في امتحان التكليف الشاق والصعب حيث امتثله بصبر وتجلد وهو يقول بلسان الحال او المقال :

إن كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي يا سيوف خذيني


ويقول أيضا بهذا اللسان الصادق والإيمان الواثق :


رضاك رضاك لا جنات عدن * وهل عدن تطيب بلا رضاك
ولو قطعتني في الحب إربـاً * لما مال الفؤاد إلى سواكــا


وكذلك نال هذه الدرجة الارقى من النجاح في امتحان البلاء حيث واجه تلك المحن والخطوب التي نزلت عليه واحاطت به من كل جانب


( 118 )


بقوة صبر ورحابة صدر مناجيا ربه بقوله عليه السلام : هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب .
وتبعه كل من كان معه بنيل الدرجة العالية من النجاح في هذا الامتحان العسير حيث قدموا المثل الاعلى في التضحية والفداء والاخلاص والوفاء لقائدهم ورسالتهم مستبشرين بما سينالونه من النعيم الخالد والسعادة الابدية في ظل جوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين والتابعين لهم بإحسان وحسن أولئك رفيقاً .
وعلى العكس من هؤلاء أولئك الاعداء الذين سقطوا في اصعب امتحان ونالوا الذل والهوان وفي الآخرة اعظم الخسران .

نجاح إبراهيم وابنه إسماعيل في امتحان التكليف الظاهري :
وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام انه مأمور بذبح ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مكلف بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ عن هذا الاعتقاد اقدامه على الامتثال بالذبح فعلا وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعا بتقديم نفسه قربانا لله وتقربا منه فأقدم على التنفيذ معبرا عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله :
( يأبتي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللهُ من الصابرين ) (1) .
ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على
____________
(1) سورة الصافات ، الآية : 102 .


( 119 )


العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجا لعدم كونه مطلوبا للمولى ومقصودا له من هذا التكليف الظاهري .
وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الامتحان الصعب عندما اسلما امرهما لله سبحانه واقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي من الله به عليه حال الشيخوخة والكبر واقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قربانا له سبحانه .
وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما اراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الايمانية السامية .
أجل بعد حصول ذلك كشف الله سبحانه لهما عن واقع الرؤيا وان المقصود المطلوب منهما واقعا هو الاقدام على الذبح لا نفسه وذلك بقوله تعالى :
( ونـدينه أن يإ براهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) (1) .
وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وولده الروحي علي بن ابي طالب عليه السلام وذلك عندما طلب منه بأمر من الله سبحانه ان ينام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطيا لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والامارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو بقي في فراشه يفرض اصابته لعلي عليه السلام ووقوعه عليه ومع هذا اقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ان يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداء
____________
(1) سورة الصافات ، الآيتان 104 ـ 105 .


( 120 )


للرسول والرسالة كما أقدم علي على أن يقدم نفسه المطمئنة فداء لهما .

نجاح الرسول وعلي عليه السلام في امتحان التكليف الظاهري :
وقد نال النجاح الباهر في هذ1 الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران واذا كان فداء اسماعيل وصونه من الذبح بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي عليه السلام وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم وتقدير حكيم من اجل ان يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجا بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته .
وحاصل الجواب على السؤال الثاني : ان المصيبة مرة يحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره واخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثة تحصل بقدر وقضاء من السماء .
أما النوع الاول : من المصيبة فلا تصح نسبته الى الله سبحانه لنحتاج الى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من ان الإنسان مخير في اعماله وليس مجبورا عليها وبذلك يندفع الاشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقا لقوله تعالى : ( وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون ) (1) .
وبذلك يعرف الجواب بالنسبة الى النوع الثاني من المصيبة : وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لان الله سبحانه وان اقتضت حكمته ان يخلق الإنسان حراً مختاراً في افعاله من الناحية التكوينية ولكنه
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 118 .


( 121 )


قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سلم وسلم غيره من الظلم كما اراد الله سبحانه ، وكتب الله له الثواب على التزامه وامتثاله واذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عجلت له في الدنيا اذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك .

عدالة السماء تقف مع المظلوم في وجه الاعتداء :
واما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدرا بل لا بد ان ينظر اليها بعين العدل التشريعي معجلا وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص اذا كانت الجناية على حياته او اخذ الدية اذا تنازل الولي عن الاخذ بحق القصاص ووافق على اخذ الدية وكذلك اذا كان الاعتداء على احد اعضائه عمدا فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدى عليه الحق بالقصاص او الدية اذا تنازل عن الاول ورضي بها واذا لم يكن الاعتداء جناية على النفس او على احد الاعضاء على وجه توجب القصاص او الدية بل كان مسببا ما هو اقل من ذلك فقد اعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى : (