أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة الخامسة : دور الجهاد والشهادة في صون الامة والرسالة
 
 


الخطبة الخامسة : دور الجهاد والشهادة في صون الامة والرسالة

البريد الإلكتروني طباعة

من ؟ قال : « أمك » قال ثم من ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أباك » .
ومن مجموع ما تقدم ظهر لنا مدى اهتمام الاسلام بالمرأة بنتاً وزوجة وأماً ومدى اهتمامه بشأن الوالدين وخصوصاً الأم .
ومن اجل إقامة بناء الاسرة على اساس وطيد من المحبة والاحترام المتبادل جعل لكل فرد منها حقاً على الآخر حيث جعل للوالدين حقاً على الاولاد كما جعل للأولاد حقا على الوالدين وجعل للزوجة حقوقا على الزوج وجعل له حقوقا عليها واوجب على كل فرد ان يؤدي ما عليه من الحق للآخر لان ذلك يقوي العلاقة ويعمق المودة وينشر الحب والحنان والبر والاحسان في اجواء الاسرة ويجعل منها وحدة متماسكة متضامنة كالجسم الواحد بحيث إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقام تشبيه المؤمنين المتعاطفين المتضامنين بالجسد الواحد ـ ومن المعلوم ان وحدة الاسرة وتضامنها يساهم مساهمة فعالة في وحدة الاسرة الكبيرة المجتمع لانه مؤلف من مجموعة الاسر الصغيرة ومن هنا يكون تابعاً لها ومتأثراً بها قوة وضعفا وحدة وتفرقا وكما جعل الاسلام حقوقا وواجبات بين افراد الاسرة من اجل تقويتها وايصالها الى خيرها وسعادتها في دنياها وآخرتها كذلك جعل حقوقا لافراد الاسرة الكبيرة المجتمع وطلب من كل واحد منهم ان يؤدي ما عليه من الحق نحو الآخرين .

نظام الحقوق والواجبات في الإسلام :
ويتمثل ذلك بما جعله من الحق للجار على جاره وللمؤمن على اخيه في الإيمان وللإنسان على اخيه في الإنسانية وحيث ان الإسلام دين


( 49 )


الرحمة والفضيلة فقد وسع دائرة الحق الإنساني ليشمل الحيوان حيث جعل له حقا على الإنسان وسأشير باختصار الى هذه الحقوق ليعرف كل إنسان ما له وما عليه من حق فيؤدي ما عليه ويطالب بماله بالاسلوب الإسلامي القائم على اساس الحكمة والموعظة الحسنة .
ويترجح الابتداء بذكر الحقوق الثابتة لبعض افراد الاسرة على البعض الآخر .
فأقول : ذكر الفقهاء وعلماء الاخلاق ان لكل واحد من الزوجين حقوقاً على الآخر وذكروا من حقوق الزوجة ما يلي بلسان الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق :
وحق الزوجة ان تعلم ان الله عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً وتعلم ان ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها وترفق بها وان كان حقك عليها اوجب فإن لها عليك ان ترحمها لانها اسيرك وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها .
وقد ورد في كتاب مكارم الاخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفيد ويبين حق الزوج على الزوجة بكلا قسميه الواجب والمستحب كما يظهر من ذكر بعض الامور المستحبة له وليست واجبة عليها وذلك هو ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم ، « حق الرجل على المرأة إنارة السراج وإصلاح الطعام وان تستقبله عند باب بيتها فترحب به وان لا تمنعه من نفسها الا من علة » .

حق الأبوين على الاولاد وحقهم على الوالدين :
وبين الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق حق الأم


( 50 )


بقوله عليه السلام : فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً الى ان يقول في آخر كلامه : فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه الا بعون الله وتوفيقه .
فقد بين الإمام عليه السلام بكلامه هذا ان من حق الأم على ولدها ان يعرف فضلها ويعترف بحقها عليه ثم يشكرها على هذا الفضل بالبر والإحسان والإطاعة في غير معصية الله تعالى .
وحق أبيك ان تعلم انه اصلك وانه لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم ان أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله .
ومقصود الإمام عليه السلام من بيان حق الأب على الولد بالأسلوب المذكور هو ان يندفع بعامل الدين والاخلاق والإنسانية لمكافأة أبيه على إحسانه بالبر والاحسان والعطف والحنان والاطاعة في غير معصية الله سبحانه وفي غير ما يوجب له الضرر او العسر والحرج ـ ونفس الشيء يقال بالنسبة الى الأم كما سبق .
وبين الإمام عليه السلام حق الولد على والده بقوله : وحق ولدك ان تعلم انه منك ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وانك مسؤول عما وليته من حسن الادب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته فاعمل في امره عمل من يعلم انه مثاب على الإحسان اليه معاقب على الاساءة اليه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله في هذا المجال : حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويضعه موضعاً صالحاً .


( 51 )


وأضيف في رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، الى تحسين الاسم وتعليم الكتابة حق الولد في التزويج إذا بلغ (1) .

حق الجار على جاره والأخ على أخيه :
وبين الإمام عليه السلام حق الاخ على أخيه في رسالته ايضاً بقوله : وحق اخيك ان تعلم انه يدك التي تبسطها وظهرك الذي تلتجىء اليه وعزك الذي تعتمد عليه وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ولا عدة لظلم خلق الله ولا تدع نصرته على نفسه ومعونته على عدوه والحؤول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة له والإقبال عليه في الله فإن انقاد لربه واحسن الإجابة له والا فليكن الله اثر عندك واكرم عليك منه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق الجار انه قال : هل تدرون ما حق الجار ؟ ما تدرون حق الجار إلا قليلا الا لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جاره بوائقه وإذا استقرضه ان يقرضه وإذا اصابه خير هنأه وإذا اصابه شر عزاه ولا يستطيل عليه في البناء يحجب عنه الريح الا بإذنه وإذا اشترى فاكهة فليهد له وان لم يهد له فليدخلها سراً ولا يعطي صبيانه منه الشيء يغايظون صبيانه (2) .
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام بيان حق المسلم على اخيه المسلم مع حصره في سبعة حقوق حيث قال عليه السلام لعلي بن خنيس عندما سأله بقوله : ما حق المسلم على المسلم ، فأجابه بما حاصله : أيسر حق منها
____________
(1) عن الحديقة الناشرية ص 90 .
(2) عن الحديقة الناشرية ص 199 .


( 52 )


ـ أي من السبعة ـ أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك .
والحق الثاني : أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته .
والحق الثالث : أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك .
والحق الرابع : أن تكون عينه ودليله ومرآته .
والحق الخامس : أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى .
والحق السادس : أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب ان تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه .
والحق السابع : أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته وإذا علمت ان له حاجة تبادر الى قضائها ولا تلجئه الى ان يسألها إلخ (1) .
وإذا نظرنا الى جوهر الدين الإسلامي وما يحفل به من السماح ، والرحمة والانفتاح ليعم ذلك الى سائر افراد المجتمع على ضوء نظرته الشاملة ورحمته الواسعة ندرك السر في شموله لكل الناس بعدله ومساواته بين افراد المجتمع بالبر والإحسان ومهد لذلك نظرياً باعتباره الإنسان أخا الإنسان في الخلق والإنسانية كما يوحي بذلك الحديث النبوي القائل :
الإنسان اخو الإنسان أحب أم كره ـ ويلتقي معه في المضمون ما ورد من قول الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر ما حاصله : الناس صنفان إما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق .
____________
(1) عن الحديقة الناشرية ص 83 و 84 .


( 53 )


حق المسلم على أخيه المسلم :
ويأتي التطبيق العملي من قبل أهل البيت عليهم السلام والسائرين على نهجهم لتلك الاخلاق السامية والتعاليم السمحاء شاهد صدق على مثالية الرسالة الإسلامية وسمو اخلاق الملتزمين بها ، من ذلك موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جاره اليهودي بالسماح والعفو الذي تمثل بسعيه لعيادته رغم اساءته المتكررة وإيذائه المثير وموقف الإمام علي عليه السلام من ذلك النصراني عندما وجده يستجدي ويطلب المعونة من الآخرين حيث استنكر هذه الظاهرة وأمر بأن يجعل له عطاء شهري من بيت مال المسلمين ، ومما سبق نعرف السر في تعميم الدين الدعوة الى الرحمة والرفق حتى بالحيوان حيث اوجب على مالكه ان يقدم له مايحتاج اليه من الطعام والشراب والعلاج وحرم عليه التقصير في حقه ان يرهقه بأي سبب من الأسباب المرهقة له ومن هذا المنطلق كان نهيه عن ان تجعل ظهور الحيوانات المركوبة كراسي ومجالس لأصحابها ـ عندما وجد قوماً يتحدثون وهم راكبون وقد اوقفوا حيواناتهم في الطريق وطلب منهم النزول عنها او السير بها نحو غايتهم من أجل ان يخفف عن تلك الحيوانات ويرفع عنها المزيد من المشقة .

الإسلام دين الرفق حتى بالحيوان :
ومن ذلك يظهر الوجه في استحقاق امرأة العقاب بسبب حبسها هرة وعدم تقديم ما تحتاجه من الطعام والشراب ومنعها من الانطلاق لتحصل ذلك خارج نطاق هذا الحبس اللئيم كما يظهر الوجه في استحقاق رجل الثواب ودخوله الجنة بسبب سقيه كلباً وجده في صحراء


( 54 )


على حالة شديدة من العطش ـ على ما ورد في بعض الروايات المتضمنة لهاتين القصتين المتضادتين .
وبمجموع ما تقدم في هذا الحديث من اوله الى آخره يظهر لنا بجلاء ووضوح واقعية المضمون الذي يشير اليه موضوعه وهو ( الإسلام سبيل السعادة والسلام ) ، وذلك لانه مشرع من قبل خالق الإنسان العالم بما يصلحه ويصلح له من النظم العادلة الكاملة التي تحقق له أهدافه وتطلعاته في مختلف المجالات كما تعالج جميع مشكلاته الطارئة وتساير جميع التطورات الحادثة لتقدم لكل موضوع حكماً ولكل حاجة قضاء ولكل مشكلة حلاً .
وقد ذكرت في بداية هذا الحديث الوضع الجاهلي المتردي الذي كانت عليه الأمم والشعوب عامة والامة العربية خاصة قبل الإسلام وكيف تحولت وتطورت الامة العربية واصبحت خير أمة أخرجت للناس ببركة التزامها بالإسلام إيمانا وعملاً .
وأخيراً تركت هذا الدين العظيم وطبقت النظم المستوردة من الشرق والغرب فرجعت الى ما كانت عليه في ظل الجاهلية الاولى من التفرق بعد الوحدة والضعف بعد القوة والذل بعد العزة والهزيمة بعد النصرة ـ وتأتي مأساة فلسطين وسقوطها في ايدي الغاصبين المعتدين رغم قلة عددهم وكثرة عدد الامتين العربية والإسلامية لتكون شاهد صدق على واقعية هذه الحقيقة المرة التي اشرت اليها بأبيات قلت فيها :

هــذي الحقيقة مـرة لكنها * جـاءت نتيجة ما جنته يدانا
لم يـنصر الله اليهود وإنـما * خذل الألى قد أهملوا القرآنا
هذا الـكتاب مهدد ومبــلغ * أياً تهز القلب والــوجدانا
إن تنصروا الله الجليل أثابكم * نصراً وإلا نلتم الخــذلانا

 


( 55 )


لا سعادة ولا سلام إلا في ظل الإسلام :
وعلى ضوء هذه الحقيقة الموضوعية ندرك جيداً ان الامة العربية لن تعود الى سابق قوتها وعزتها والامة الإسلامية لن ترجع الى سالف وحدتها واصالتها واستقلالها إلا بمصدر ذلك كله وهو الإسلام لأنه وحده سبيل السعادة والسلام فمن سلكه وصل إليهما ومن تركه وقع في ضدهما وضد السعادة الشقاء وضد السلام الحرب .
وبذلك يعرف السبب في شيوع الاضطراب والحروب ويظهر أيضاً تفسير قوله تعالى :
« ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكنهم كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون »
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .


( 56 )


الخطبة الخامسة (1)

دور الجهاد والشهادة في صون الأمة والرسالة

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


السلام عليكم أيها الاخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : حيث اننا نعيش في هذه الايام في اجواء الشهادة والشهداء نظراً لانتقال مجموعة من أبنائنا المجاهدين المقاومين الحسينيين الى جوار الله سبحانه راضين مرضيين اقتضى ذلك ان نقدم لكم اليوم حديثا من وحي الشهادة والشهداء لنعرف قيمة الشهادة ودورها في حفظ الرسالة من الانهيار والامة من الانحلال والوطن من الاحتلال وتحريره منه بعد حصوله .
فأقول : إن للشهادة منزلتها السامية في الشريعة الإسلامية الغراء
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في 7 ـ 4 ـ 1996 م .


( 57 )


وقد نبه الله سبحانه على ذلك بالعديد من آيات كتابه الكريم كما نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها بالكثير من روايات سنته المطهرة وروي عن الإمام علي عليه السلام ما يلتقي معه بالمضمون والمحتوى لأنهما نفس واحدة تنهل من منبع واحد .
من جملة ما ذكره الله سبحانه في مقام بيان عظمة الشهادة والشهداء قوله تعالى : ( * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التورات والإنجيل والقران ) (1) .
ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام محتوى هذه الآية المباركة لنعرف الوجه في دلالتها على اهمية الجهاد والاستشهاد .
فأقول : قد بين الله سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه وقع بينه وبين عباده المؤمنين عقدُ بيع وشراء تتوفر فيه كل العناصر الاساسية التي يجب ان تتوفر في عقد البيع وهي اربعة البائع والمشتري والثمن والمثمن ، والبائع في هذا العقد السماوي والتجارة الرابحة هو المؤمنون والمشتري هو الله سبحانه والمثمن هو الانفس والاموال والثمن هو الجنة ـ وقد شاءت الحكمة الإلهية ان يضم الله سبحانه الى تلك الاركان الاساسية المحققة لطبيعة عقد البيع ما جرت العادة على حصوله بين المتعاقدين من سند للعقد يثبت حصوله ويؤكد تحقيقه بينهما وهو ما صرح به تعالى بقوله : ( وعداً عليه حقاً في التورات والإنجيل والقران ) (2) .
وهنا آية (3) أخرى تلتقي مع الآية المذكورة بالمحتوى والمضمون
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(3) عبرت بكلمة أية عن الآيتين 10 و 11 ـ لأنهما بمنزلة الآية الواحدة ..


( 58 )


وهي قوله تعالى : ( يأيها الذين ءامنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (1) .

أهمية الجهاد ودور الاستشهاد في صون الرسالة وتحرر الأمة :
والوجه في دلالة هاتين الآيتين المباركتين على أهمية الجهاد وما يترتب عليه من الشهادة والاستشهاد هو ان الله سبحانه نص عليه بالخصوص في مقابل سائر الاعمال القربية الواجبة او المستحبة كالصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من الواجبات التي لها اهميتها في الإسلام حيث اعتبرت من اركانه التي بني عليها .
وتظهر أهمية فريضة الجهاد من خلال ملاحظة ما يترتب عليه من الفوائد العظيمة والمنافع الجسيمة التي اشرت اليها اجمالا في صدر هذا الحديث مبيناً دوره في صون الامة من الانحلال وتحرير الوطن من الاحتلال وحفظ الرسالة من الانهيار وتفصيل ذلك ان الله سبحانه وهو الحق قد أنزل الرسالة الحق على نبيه الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج بها الناس من الظلمات الى النور ويحققوا بذلك الهدف السامي الذي خلقهم من اجله وهو عبادته وحده لا شريك له من اجل ان يتوصلوا بهذه العبادة الى ما اراد لهم أن يصلوا إليه من الكمال والسعادة وحيث أن الحق المتمثل بكل ما انزله سبحانه على رسله كان ولا يزال محارباً من قبل انصار الباطل واتباعه في كل ادوار التاريخ لانه يقف في وجه اهوائهم ويمنعهم من الانطلاق في ميادين غرائزهم الجامحة الى تحقيق اطماعهم الطامحة فكان لا بد لصرح الدين الحق من سور يحجبه من العدوان واعداد حراس مبدئيين يقفون في وجه اعتداء المعتدين ويجاهدون في سبيل
____________
(1) سورة الصف ، الآيتان 10 ـ 11 .


( 59 )


تطهيره وتحريره إذا قدر له ان يحتل من قبل الظالمين الغاصبين وجاءت فريضة الجهاد لتكون ذلك السور المانع كما جاء جهاد المؤمنين المناضلين ليحقق الحراسة الحافظة والصيانة المانعة .

سبب محاربة الكفار والمنافقين لشريعة رب العالمين :
وتظهر لنا هذه الحقيقة بصورة واضحة عندما نلقي نظرة موضوعية فاحصة على الفترة الصعبة التي خاضت فيها الطليعة الاسلامية الاولى اصعب مراحل الجهاد وادقها عندما هبت في وجهها قوى الشرك والانحراف العقيدي والعملي لتضع حداً لزحف الإسلام المقدس فتمنع شمسه من الإشراق ونوره من التألق والانطلاق في آفاق الوجود الرحبة واجوائه الواسعة .
فولا ثبات الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه على صعيد الجهاد الاكبر وتحملهم كل انواع الاذى النفسي والجسدي من أجل نصرة المبدأ الحق والجهاد الجديد في سبيل انتشاره ـ لما استطاع هذا المبدأ العظيم ان يصمد في مرحلته الاولى المكية امام تلك التحديات الصعبة ويشق دربه بصعوبة تحت جنح الظلام حتى تحول بعد ذلك بعون الله سبحانه وتوفيقه من مرحلة الدعوة في مكة الى مرحلة الدولة في المدينة حيث بدأت مرحلة جديدة وصعبة من مراحل الجهاد من اجل صون هذه الدولة الفتية من اعتداء المشركين وطغيان الظالمين ـ وحيث كان الجهاد في سبيل الله ونصر دين الله سبحانه ـ فقد كلله تعالى بالنصر والتأييد وفاء بوعده الذي قطعه على نفسه حيث قال : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (1) .
____________
(1) سورة محمد ، الآية : 7 .


( 60 )


وإذا لاحظنا الاسباب والعوامل التي انطلقت منها الحروب الرسالية بقيادة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم نجدها كلها كانت دفاعية من اجل وضع حد لعدوان المعتدين والانتصار لشريعة رب العالمين وهذا وذاك هو السبب في نصر الله سبحانه لعباده المجاهدين في كل تلك المعارك التاريخية التي خاضوها لنصرة الحق والعدل وانقاذ المستضعفين من استكبار الظالمين .

قوة الإيمان والإخلاص في النية مصدر النصرة وعكسه مصدر الهزيمة :
أما انتكاسة أُحد فقد جاءت نتيجة طبيعة لمخالفة أولئك المرابطين للتعاليم السماوية التي قدمها لهم الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم مؤكداً عليهم البقاء في مكانهم مهما كان سير المعركة ـ وقد طبقوا اول الامر هذه التعاليم ونصروا الله بذلك فنالوا النصر منه وعندما خالفوها وتركوا سبب النصر حرموا منه ووقعوا في عكسه .
وكذلك الهزيمة التي اصيب بها المسلمون اول الامر في معركة حنين كانت نتيجة لغرور بعضهم واعتداده بكثرة العدد جاهلاً بأن النصر يأتي بعناية الله سبحانه وتوفيقه عندما يتوكل المجاهدون عليه ويثقون بأن النصر من عنده يعطيه من يشاء متى يشاء عندما تتوفر مؤهلاته ومقدماته الخارجية بالاعداد والاستعداد مع مقدماته النفسية بالاخلاص في النية والتوكل عليه سبحانه حيث قال :
« ومن يتوكل على الله فهو حسبه » وقال تعالى :


( 61 )


( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيثُ لا يحتسبُ ) (1) .
وقد اعطانا الامام علي عليه السلام درساً رائعاً في الإخلاص لله في القصد والنية ـ وذلك في معركة الاحزاب يوم برز الايمان كله ممثلاً بشخصه الكريم الى الشرك كله ممثلاً بشخص عمرو عندما اراد علي هذا قطع رأسه بعد ان رد على ضربته الفاشلة بضربة إيمانية قاتلة ـ وفي هذه اللحظة الحاسمة شتمه عمرو فقام عن صدره واخذ يتمشى قليلاً ثم عاد اليه وقطع رأس الشرك منه وانطلق به نحو المسلمين وعندما سألوه عن سبب تأخره عن قطع رأسه أجابهم بقوله :
عندما شتمني غضبت فتوقفت عن قطع رأسه في حالة غضبي وانتظرت حتى زالت هذه الحالة مني ليكون قطعي رأسه خالصا لوجه الله سبحانه ولا يكون لحالة الغضب والانفعال الذاتي دخل في ذلك .

قوة الإيمان والإخلاص في النية مصدر النصرة :
ومن المعلوم ان هذه البطولة في الصدق والاخلاص لله سبحانه هي التي سددت هذه الضربة وسببت نصرة الاسلام وهزيمة أعدائه اللئام وحيث كانت السبب لبقاء هذا الدين العظيم عبر التاريخ منطلقاً لعبادة الله سبحانه بكل عمل يصدر من صاحبه على ضوء توجيهاته القيمة ـ اعتبرها الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم معادلة لعبادة الثقلين الى يوم القيامة .
وذلك لان حقيقة العبادة لله سبحانه تتمثل بتطبيق منهج الدين الذي انزله سبحانه ليكون نظام حياة ودستور عبادة وخضوع لإرادته في كل التصرفات الأختيارية التي يمارسها الانسان المكلف على صعيد هذه
____________
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و 3 .


( 62 )


الحياة فلو قدر للشرك كله ان ينتصر على الإيمان والإسلام لكان معنى ذلك زوال الايمان واندراس الاسلام فلا يبقى هناك دين وشرع يتعبد الناس لله سبحانه بتطبيقه وبهذا الموقف البطولي الذي وقفه الإمام علي عليه السلام في هذه المعركة وما ترتب عليه من حفظ الاسلام والمسلمين وانقاذهما من الخطر الكبير الذي احدق بهما يومذاك نعرف قيمة الجهاد ودوره في صون الرسالة من الزوال والامة من الاضمحلال ويأتي بعد ذلك موقف علي في غزوة خيبر متمما لموقفه السابق في معركة الاحزاب ـ حيث كانت الامة والرسالة متعرضتين للخطر الفادح الذي احس الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتوجهه من قبل اليهود فأراد ان يقوم بدور الوقاية منه بغزوهم في عقر دارهم والقضاء على الخطر في مهده قبل تسربه الى الجهة المستهدفة به .

مواقف الإمام علي عليه السلام البطولية وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقه :
ويوجد تشابه واضح بين هذين الموقفين من حيث الأثر الإيجابي العظيم الذي ترتب عليهما وهو نصر الاسلام ووقايته من شر اعدائه اللئام ومن حيث ما قاله الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حق الامام علي عليه السلام مقدراً ومعجباً .
أما في الموقف الاول فللرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقه كلمتان :
الاولى : تقدم ذكرها بالمناسبة اجمالاً والآن نذكرها تفصيلاً وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ضربة علي عمروا يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين الى يوم القيامة .
والكلمة الثانية : قالها في بداية المواجهة بين الطرفين عندما قال صلى الله عليه وآله وسلم : برز الإيمان كله الى الشرك كله والتعبير عنها بالثانية بلحاظ


( 63 )


اقتضاء المناسبة ذكر الكلمة الاخرى اولا قبل ذكرها وإن كان الترتيب بلحاظ زمن صدور كل واحد منها يقتضي التعبير بالعكس .
وأما ما قاله في حقه بمناسبة الموقف الثاني فهو قوله المشهور : « لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه » .
والمراد من محبة الإمام عليه السلام لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المحبة الموضوعية الواقعية المتمثلة بالإطاعة والانقياد في كل المواقف وبكل التصرفات وذلك هو السر في تلك القدرة الخارقة التي مكنته من اقتلاع باب خيبر رغم ضخامته وثقله الخارج عن الوزن الطبيعي المتعارف في الابواب العادية وقد اشار ابن ابي الحديد الى ذلك بقوله مخاطباً الإمام علياً عليه السلام :

يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت أكف أربعون وأربع


وقد اعترف الإمام عليه السلام بمصدر قوته التي مكنته من ذلك بقوله :
« ما قلعت باب خيبر بقدرة جسمية ولكن بقدرة ربانية » .
وإذا انطلقنا في رحاب التاريخ ولاحظنا الخطر الذي احدق بالإسلام في عهد بني أمية بعد ان تحولت الخلافة الى ملك يتوارثه الابناء الظالمون المنحرفون عن خط الإسلام في العقيدة والسلوك عن الآباء المماثلين لهم في ذلك .
الثورة الحسينية منطلق الثورات العادلة والحسين رائد الاحرار المجاهدة :
ورأينا الدور الطليعي الرائد الذي مثله على صعيد الطف ابو الشهداء ورائد الاحرار في العالم الامام الحسين عليه السلام واستطاع بجهاده المرير


( 64 )


واستشهاده مع الكوكبة الطليعية البطلة من ابنائه واقاربه واصحابه ان يدفع ذلك الخطر الجسيم عن شرع جده العظيم مردداً بلسان الحال :

إن كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي يا سيوف خذيني


أجل : إذا لاحظنا ذلك ندرك جيداً اهمية دور الجهاد وقيمة الشهادة والاستشهاد وما ترتب على ذلك عبر التاريخ من حفظ الدين الحنيف من الاخطار المعنوية والمادية وصون الامة من الضياع والضلال المدمر الذي يعود بها الى سابق عهدها قبل بزوغ فجر الرسالة الاسلامية الخالدة .
ولم يقف دور الجهاد المقدس عند حدود التاريخ بل انطلق مع الزمن ليعلب دوره الطليعي على يد ابطال الحق وجنود الرسالة ليعطي لكل مرحلة حقها ويلبس في كل حرب لباسها المناسب لها وهذا هو سر تنوعه وتمثله مرة بالكفاح العسكري المسلح واخرى بالكلمة الابية الثائرة وهي التي اشار اليها الحديث القائل :
« أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر » .

دور المقاومة الحسينية في فلسطين ولبنان في دحر العدوان :
وهذا الاسلوب هو الذي انطلق به ائمة اهل البيت بعد الامام الحسين عليه السلام والسائرون على خطهم السليم وصراطهم المستقيم ولم يحصل اللجوء الى الكفاح المسلح الا عندما يشتد الضغط ويستفحل الخطر من قبل الجهة المعادية وتتوفر الشروط الموضوعية الموجبة للاطمئنان بنجاح الثورة وانتصار المقاومة العسكرية كما حصل للثورة الاسلامية في إيران الإسلام على يد البطل الحسيني الشجاع روح الله


( 65 )


الخميني ( قده ) وجنوده الاحرار الابطال .
وعلى هداها سارت الثورة الحسينية في لبنان وفي افغانستان والشيشان وسائر الاقطار التي تفاعلت مع روح الجهاد وانطلقت شعوبها على درب الاستشهاد لنيل احدى الحسنيين .
وإذا لاحظنا مدى الخطورة المترتبة على استمرار الاحتلال الاسرائيلي لما احتلته إسرائيل سابقا ولاحقا من الاراضي العربية وادركنا على ضوء الواقع المحسوس والوضع المعاش ـ انحصار استئصال هذه الغدة السرطانية وإزالة هذا الشر المطلق بالمقاومة المسلحة لاحتلالها وعدم الركون للصلح الاستسلامي الذي لهث وراء سرابه البعض .

بيان دور الجهاد في صون الاسلام والمسلمين من الاضطهاد :
أجل : على ضوء تلك الملاحظة الواعية وهذا الادراك المنطقي المستوحى من الارقام الواقعية ندرك جيداً اهمية الجهاد المقدس والمقاومة الحسينية التي يخوضها ابطالنا الاشاوس داخل فلسطين السليبة الحبيبة وفي جنوب لبنان الابي وبقاعه الصامد ـ ووصف هذه المقاومة العادلة ـ بالارهاب من قبل الاعداء الظالمين لا يسلب عنها شرعيتها ولا يبدل حقيقتها وانها جهاد عادل في سبيل تحرير الارض واستعادة العزة والكرامة كما لا يبدل واقع احتلالهم وانه ظلم للآخرين وإرهاب آثم وغصب فاضح واضح لحقوق المستضعفين .
قال الشاعر :

ومهما تكن عند امرىء من خديعة (1) وإن خالها تخفى على الناس تعلم


____________
(1) الوارد في البيت كلمة خليقة وبدلتها بكلمة خديعة لمناسبة المقام .


( 66 )


ويسرني ان اختم هذه الخطبة بالمقطوعة الشعرية التي نظمتها سابقاً حول موضوع الجهاد موضع الحديث ومحل البحث .


لــولا الجهاد لـحطم الاسلام * حتماً وعم العالمين ظـلامُ
فـهو المجن يصونه من كل ما * يبغيه من كيد بـه الظلامُ
سيــظل رغم المعتدين منارةً * للحق مهـما طالت الايامُ
ويظل رغم الحاقدين مــناهلاً * للخيرمهما صالت الاقزامُ
حتى يقود الثائرين محمدُ العصر * الأبي وتُــرفع الاعلامُ
وهناك ينهزم الطغاة وتزدهـي * في العالمين مودة وسلامُ


والسلام عليكم أيها الاخوة الاعزاء والابناء الاحباء اولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .من ؟ قال : « أمك » قال ثم من ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « أباك » .
ومن مجموع ما تقدم ظهر لنا مدى اهتمام الاسلام بالمرأة بنتاً وزوجة وأماً ومدى اهتمامه بشأن الوالدين وخصوصاً الأم .
ومن اجل إقامة بناء الاسرة على اساس وطيد من المحبة والاحترام المتبادل جعل لكل فرد منها حقاً على الآخر حيث جعل للوالدين حقاً على الاولاد كما جعل للأولاد حقا على الوالدين وجعل للزوجة حقوقا على الزوج وجعل له حقوقا عليها واوجب على كل فرد ان يؤدي ما عليه من الحق للآخر لان ذلك يقوي العلاقة ويعمق المودة وينشر الحب والحنان والبر والاحسان في اجواء الاسرة ويجعل منها وحدة متماسكة متضامنة كالجسم الواحد بحيث إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقام تشبيه المؤمنين المتعاطفين المتضامنين بالجسد الواحد ـ ومن المعلوم ان وحدة الاسرة وتضامنها يساهم مساهمة فعالة في وحدة الاسرة الكبيرة المجتمع لانه مؤلف من مجموعة الاسر الصغيرة ومن هنا يكون تابعاً لها ومتأثراً بها قوة وضعفا وحدة وتفرقا وكما جعل الاسلام حقوقا وواجبات بين افراد الاسرة من اجل تقويتها وايصالها الى خيرها وسعادتها في دنياها وآخرتها كذلك جعل حقوقا لافراد الاسرة الكبيرة المجتمع وطلب من كل واحد منهم ان يؤدي ما عليه من الحق نحو الآخرين .

نظام الحقوق والواجبات في الإسلام :
ويتمثل ذلك بما جعله من الحق للجار على جاره وللمؤمن على اخيه في الإيمان وللإنسان على اخيه في الإنسانية وحيث ان الإسلام دين


( 49 )


الرحمة والفضيلة فقد وسع دائرة الحق الإنساني ليشمل الحيوان حيث جعل له حقا على الإنسان وسأشير باختصار الى هذه الحقوق ليعرف كل إنسان ما له وما عليه من حق فيؤدي ما عليه ويطالب بماله بالاسلوب الإسلامي القائم على اساس الحكمة والموعظة الحسنة .
ويترجح الابتداء بذكر الحقوق الثابتة لبعض افراد الاسرة على البعض الآخر .
فأقول : ذكر الفقهاء وعلماء الاخلاق ان لكل واحد من الزوجين حقوقاً على الآخر وذكروا من حقوق الزوجة ما يلي بلسان الإمام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق :
وحق الزوجة ان تعلم ان الله عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً وتعلم ان ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها وترفق بها وان كان حقك عليها اوجب فإن لها عليك ان ترحمها لانها اسيرك وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها .
وقد ورد في كتاب مكارم الاخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يفيد ويبين حق الزوج على الزوجة بكلا قسميه الواجب والمستحب كما يظهر من ذكر بعض الامور المستحبة له وليست واجبة عليها وذلك هو ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم ، « حق الرجل على المرأة إنارة السراج وإصلاح الطعام وان تستقبله عند باب بيتها فترحب به وان لا تمنعه من نفسها الا من علة » .

حق الأبوين على الاولاد وحقهم على الوالدين :
وبين الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق حق الأم


( 50 )


بقوله عليه السلام : فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحداً الى ان يقول في آخر كلامه : فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه الا بعون الله وتوفيقه .
فقد بين الإمام عليه السلام بكلامه هذا ان من حق الأم على ولدها ان يعرف فضلها ويعترف بحقها عليه ثم يشكرها على هذا الفضل بالبر والإحسان والإطاعة في غير معصية الله تعالى .
وحق أبيك ان تعلم انه اصلك وانه لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم ان أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله .
ومقصود الإمام عليه السلام من بيان حق الأب على الولد بالأسلوب المذكور هو ان يندفع بعامل الدين والاخلاق والإنسانية لمكافأة أبيه على إحسانه بالبر والاحسان والعطف والحنان والاطاعة في غير معصية الله سبحانه وفي غير ما يوجب له الضرر او العسر والحرج ـ ونفس الشيء يقال بالنسبة الى الأم كما سبق .
وبين الإمام عليه السلام حق الولد على والده بقوله : وحق ولدك ان تعلم انه منك ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وانك مسؤول عما وليته من حسن الادب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته فاعمل في امره عمل من يعلم انه مثاب على الإحسان اليه معاقب على الاساءة اليه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله في هذا المجال : حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويعلمه الكتابة ويضعه موضعاً صالحاً .


( 51 )


وأضيف في رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، الى تحسين الاسم وتعليم الكتابة حق الولد في التزويج إذا بلغ (1) .

حق الجار على جاره والأخ على أخيه :
وبين الإمام عليه السلام حق الاخ على أخيه في رسالته ايضاً بقوله : وحق اخيك ان تعلم انه يدك التي تبسطها وظهرك الذي تلتجىء اليه وعزك الذي تعتمد عليه وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ولا عدة لظلم خلق الله ولا تدع نصرته على نفسه ومعونته على عدوه والحؤول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة له والإقبال عليه في الله فإن انقاد لربه واحسن الإجابة له والا فليكن الله اثر عندك واكرم عليك منه .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق الجار انه قال : هل تدرون ما حق الجار ؟ ما تدرون حق الجار إلا قليلا الا لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جاره بوائقه وإذا استقرضه ان يقرضه وإذا اصابه خير هنأه وإذا اصابه شر عزاه ولا يستطيل عليه في البناء يحجب عنه الريح الا بإذنه وإذا اشترى فاكهة فليهد له وان لم يهد له فليدخلها سراً ولا يعطي صبيانه منه الشيء يغايظون صبيانه (2) .
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام بيان حق المسلم على اخيه المسلم مع حصره في سبعة حقوق حيث قال عليه السلام لعلي بن خنيس عندما سأله بقوله : ما حق المسلم على المسلم ، فأجابه بما حاصله : أيسر حق منها
____________
(1) عن الحديقة الناشرية ص 90 .
(2) عن الحديقة الناشرية ص 199 .


( 52 )


ـ أي من السبعة ـ أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك .
والحق الثاني : أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته .
والحق الثالث : أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك .
والحق الرابع : أن تكون عينه ودليله ومرآته .
والحق الخامس : أن لا تشبع ويجوع ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى .
والحق السادس : أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب ان تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه .
والحق السابع : أن تبر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته وإذا علمت ان له حاجة تبادر الى قضائها ولا تلجئه الى ان يسألها إلخ (1) .
وإذا نظرنا الى جوهر الدين الإسلامي وما يحفل به من السماح ، والرحمة والانفتاح ليعم ذلك الى سائر افراد المجتمع على ضوء نظرته الشاملة ورحمته الواسعة ندرك السر في شموله لكل الناس بعدله ومساواته بين افراد المجتمع بالبر والإحسان ومهد لذلك نظرياً باعتباره الإنسان أخا الإنسان في الخلق والإنسانية كما يوحي بذلك الحديث النبوي القائل :
الإنسان اخو الإنسان أحب أم كره ـ ويلتقي معه في المضمون ما ورد من قول الإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الاشتر ما حاصله : الناس صنفان إما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق .
____________
(1) عن الحديقة الناشرية ص 83 و 84 .


( 53 )


حق المسلم على أخيه المسلم :
ويأتي التطبيق العملي من قبل أهل البيت عليهم السلام والسائرين على نهجهم لتلك الاخلاق السامية والتعاليم السمحاء شاهد صدق على مثالية الرسالة الإسلامية وسمو اخلاق الملتزمين بها ، من ذلك موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جاره اليهودي بالسماح والعفو الذي تمثل بسعيه لعيادته رغم اساءته المتكررة وإيذائه المثير وموقف الإمام علي عليه السلام من ذلك النصراني عندما وجده يستجدي ويطلب المعونة من الآخرين حيث استنكر هذه الظاهرة وأمر بأن يجعل له عطاء شهري من بيت مال المسلمين ، ومما سبق نعرف السر في تعميم الدين الدعوة الى الرحمة والرفق حتى بالحيوان حيث اوجب على مالكه ان يقدم له مايحتاج اليه من الطعام والشراب والعلاج وحرم عليه التقصير في حقه ان يرهقه بأي سبب من الأسباب المرهقة له ومن هذا المنطلق كان نهيه عن ان تجعل ظهور الحيوانات المركوبة كراسي ومجالس لأصحابها ـ عندما وجد قوماً يتحدثون وهم راكبون وقد اوقفوا حيواناتهم في الطريق وطلب منهم النزول عنها او السير بها نحو غايتهم من أجل ان يخفف عن تلك الحيوانات ويرفع عنها المزيد من المشقة .

الإسلام دين الرفق حتى بالحيوان :
ومن ذلك يظهر الوجه في استحقاق امرأة العقاب بسبب حبسها هرة وعدم تقديم ما تحتاجه من الطعام والشراب ومنعها من الانطلاق لتحصل ذلك خارج نطاق هذا الحبس اللئيم كما يظهر الوجه في استحقاق رجل الثواب ودخوله الجنة بسبب سقيه كلباً وجده في صحراء


( 54 )


على حالة شديدة من العطش ـ على ما ورد في بعض الروايات المتضمنة لهاتين القصتين المتضادتين .
وبمجموع ما تقدم في هذا الحديث من اوله الى آخره يظهر لنا بجلاء ووضوح واقعية المضمون الذي يشير اليه موضوعه وهو ( الإسلام سبيل السعادة والسلام ) ، وذلك لانه مشرع من قبل خالق الإنسان العالم بما يصلحه ويصلح له من النظم العادلة الكاملة التي تحقق له أهدافه وتطلعاته في مختلف المجالات كما تعالج جميع مشكلاته الطارئة وتساير جميع التطورات الحادثة لتقدم لكل موضوع حكماً ولكل حاجة قضاء ولكل مشكلة حلاً .
وقد ذكرت في بداية هذا الحديث الوضع الجاهلي المتردي الذي كانت عليه الأمم والشعوب عامة والامة العربية خاصة قبل الإسلام وكيف تحولت وتطورت الامة العربية واصبحت خير أمة أخرجت للناس ببركة التزامها بالإسلام إيمانا وعملاً .
وأخيراً تركت هذا الدين العظيم وطبقت النظم المستوردة من الشرق والغرب فرجعت الى ما كانت عليه في ظل الجاهلية الاولى من التفرق بعد الوحدة والضعف بعد القوة والذل بعد العزة والهزيمة بعد النصرة ـ وتأتي مأساة فلسطين وسقوطها في ايدي الغاصبين المعتدين رغم قلة عددهم وكثرة عدد الامتين العربية والإسلامية لتكون شاهد صدق على واقعية هذه الحقيقة المرة التي اشرت اليها بأبيات قلت فيها :

هــذي الحقيقة مـرة لكنها * جـاءت نتيجة ما جنته يدانا
لم يـنصر الله اليهود وإنـما * خذل الألى قد أهملوا القرآنا
هذا الـكتاب مهدد ومبــلغ * أياً تهز القلب والــوجدانا
إن تنصروا الله الجليل أثابكم * نصراً وإلا نلتم الخــذلانا

 


( 55 )


لا سعادة ولا سلام إلا في ظل الإسلام :
وعلى ضوء هذه الحقيقة الموضوعية ندرك جيداً ان الامة العربية لن تعود الى سابق قوتها وعزتها والامة الإسلامية لن ترجع الى سالف وحدتها واصالتها واستقلالها إلا بمصدر ذلك كله وهو الإسلام لأنه وحده سبيل السعادة والسلام فمن سلكه وصل إليهما ومن تركه وقع في ضدهما وضد السعادة الشقاء وضد السلام الحرب .
وبذلك يعرف السبب في شيوع الاضطراب والحروب ويظهر أيضاً تفسير قوله تعالى :
« ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكنهم كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون »
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .


( 56 )


الخطبة الخامسة (1)

دور الجهاد والشهادة في صون الأمة والرسالة

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


السلام عليكم أيها الاخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : حيث اننا نعيش في هذه الايام في اجواء الشهادة والشهداء نظراً لانتقال مجموعة من أبنائنا المجاهدين المقاومين الحسينيين الى جوار الله سبحانه راضين مرضيين اقتضى ذلك ان نقدم لكم اليوم حديثا من وحي الشهادة والشهداء لنعرف قيمة الشهادة ودورها في حفظ الرسالة من الانهيار والامة من الانحلال والوطن من الاحتلال وتحريره منه بعد حصوله .
فأقول : إن للشهادة منزلتها السامية في الشريعة الإسلامية الغراء
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في 7 ـ 4 ـ 1996 م .


( 57 )


وقد نبه الله سبحانه على ذلك بالعديد من آيات كتابه الكريم كما نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها بالكثير من روايات سنته المطهرة وروي عن الإمام علي عليه السلام ما يلتقي معه بالمضمون والمحتوى لأنهما نفس واحدة تنهل من منبع واحد .
من جملة ما ذكره الله سبحانه في مقام بيان عظمة الشهادة والشهداء قوله تعالى : ( * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التورات والإنجيل والقران ) (1) .
ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام محتوى هذه الآية المباركة لنعرف الوجه في دلالتها على اهمية الجهاد والاستشهاد .
فأقول : قد بين الله سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه وقع بينه وبين عباده المؤمنين عقدُ بيع وشراء تتوفر فيه كل العناصر الاساسية التي يجب ان تتوفر في عقد البيع وهي اربعة البائع والمشتري والثمن والمثمن ، والبائع في هذا العقد السماوي والتجارة الرابحة هو المؤمنون والمشتري هو الله سبحانه والمثمن هو الانفس والاموال والثمن هو الجنة ـ وقد شاءت الحكمة الإلهية ان يضم الله سبحانه الى تلك الاركان الاساسية المحققة لطبيعة عقد البيع ما جرت العادة على حصوله بين المتعاقدين من سند للعقد يثبت حصوله ويؤكد تحقيقه بينهما وهو ما صرح به تعالى بقوله : ( وعداً عليه حقاً في التورات والإنجيل والقران ) (2) .
وهنا آية (3) أخرى تلتقي مع الآية المذكورة بالمحتوى والمضمون
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(3) عبرت بكلمة أية عن الآيتين 10 و 11 ـ لأنهما بمنزلة الآية الواحدة ..


( 58 )


وهي قوله تعالى : ( يأيها الذين ءامنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (1) .

أهمية الجهاد ودور الاستشهاد في صون الرسالة وتحرر الأمة :
والوجه في دلالة هاتين الآيتين المباركتين على أهمية الجهاد وما يترتب عليه من الشهادة والاستشهاد هو ان الله سبحانه نص عليه بالخصوص في مقابل سائر الاعمال القربية الواجبة او المستحبة كالصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من الواجبات التي لها اهميتها في الإسلام حيث اعتبرت من اركانه التي بني عليها .
وتظهر أهمية فريضة الجهاد من خلال ملاحظة ما يترتب عليه من الفوائد العظيمة والمنافع الجسيمة التي اشرت اليها اجمالا في صدر هذا الحديث مبيناً دوره في صون الامة من الانحلال وتحرير الوطن من الاحتلال وحفظ الرسالة من الانهيار وتفصيل ذلك ان الله سبحانه وهو الحق قد أنزل الرسالة الحق على نبيه الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج بها الناس من الظلمات الى النور ويحققوا بذلك الهدف السامي الذي خلقهم من اجله وهو عبادته وحده لا شريك له من اجل ان يتوصلوا بهذه العبادة الى ما اراد لهم أن يصلوا إليه من الكمال والسعادة وحيث أن الحق المتمثل بكل ما انزله سبحانه على رسله كان ولا يزال محارباً من قبل انصار الباطل واتباعه في كل ادوار التاريخ لانه يقف في وجه اهوائهم ويمنعهم من الانطلاق في ميادين غرائزهم الجامحة الى تحقيق اطماعهم الطامحة فكان لا بد لصرح الدين الحق من سور يحجبه من العدوان واعداد حراس مبدئيين يقفون في وجه اعتداء المعتدين ويجاهدون في سبيل
____________
(1) سورة الصف ، الآيتان 10 ـ 11 .


( 59 )


تطهيره وتحريره إذا قدر له ان يحتل من قبل الظالمين الغاصبين وجاءت فريضة الجهاد لتكون ذلك السور المانع كما جاء جهاد المؤمنين المناضلين ليحقق الحراسة الحافظة والصيانة المانعة .

سبب محاربة الكفار والمنافقين لشريعة رب العالمين :
وتظهر لنا هذه الحقيقة بصورة واضحة عندما نلقي نظرة موضوعية فاحصة على الفترة الصعبة التي خاضت فيها الطليعة الاسلامية الاولى اصعب مراحل الجهاد وادقها عندما هبت في وجهها قوى الشرك والانحراف العقيدي والعملي لتضع حداً لزحف الإسلام المقدس فتمنع شمسه من الإشراق ونوره من التألق والانطلاق في آفاق الوجود الرحبة واجوائه الواسعة .
فولا ثبات الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه على صعيد الجهاد الاكبر وتحملهم كل انواع الاذى النفسي والجسدي من أجل نصرة المبدأ الحق والجهاد الجديد في سبيل انتشاره ـ لما استطاع هذا المبدأ العظيم ان يصمد في مرحلته الاولى المكية امام تلك التحديات الصعبة ويشق دربه بصعوبة تحت جنح الظلام حتى تحول بعد ذلك بعون الله سبحانه وتوفيقه من مرحلة الدعوة في مكة الى مرحلة الدولة في المدينة حيث بدأت مرحلة جديدة وصعبة من مراحل الجهاد من اجل صون هذه الدولة الفتية من اعتداء المشركين وطغيان الظالمين ـ وحيث كان الجهاد في سبيل الله ونصر دين الله سبحانه ـ فقد كلله تعالى بالنصر والتأييد وفاء بوعده الذي قطعه على نفسه حيث قال : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (1) .
____________
(1) سورة محمد ، الآية : 7 .


( 60 )


وإذا لاحظنا الاسباب والعوامل التي انطلقت منها الحروب الرسالية بقيادة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم نجدها كلها كانت دفاعية من اجل وضع حد لعدوان المعتدين والانتصار لشريعة رب العالمين وهذا وذاك هو السبب في نصر الله سبحانه لعباده المجاهدين في كل تلك المعارك التاريخية التي خاضوها لنصرة الحق والعدل وانقاذ المستضعفين من استكبار الظالمين .

قوة الإيمان والإخلاص في النية مصدر النصرة وعكسه مصدر الهزيمة :
أما انتكاسة أُحد فقد جاءت نتيجة طبيعة لمخالفة أولئك المرابطين للتعاليم السماوية التي قدمها لهم الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم مؤكداً عليهم البقاء في مكانهم مهما كان سير المعركة ـ وقد طبقوا اول الامر هذه التعاليم ونصروا الله بذلك فنالوا النصر منه وعندما خالفوها وتركوا سبب النصر حرموا منه ووقعوا في عكسه .
وكذلك الهزيمة التي اصيب بها المسلمون اول الامر في معركة حنين كانت نتيجة لغرور بعضهم واعتداده بكثرة العدد جاهلاً بأن النصر يأتي بعناية الله سبحانه وتوفيقه عندما يتوكل المجاهدون عليه ويثقون بأن النصر من عنده يعطيه من يشاء متى يشاء عندما تتوفر مؤهلاته ومقدماته الخارجية بالاعداد والاستعداد مع مقدماته النفسية بالاخلاص في النية والتوكل عليه سبحانه حيث قال :
« ومن يتوكل على الله فهو حسبه » وقال تعالى :


( 61 )


( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيثُ لا يحتسبُ ) (1) .
وقد اعطانا الامام علي عليه السلام درساً رائعاً في الإخلاص لله في القصد والنية ـ وذلك في معركة الاحزاب يوم برز الايمان كله ممثلاً بشخصه الكريم الى الشرك كله ممثلاً بشخص عمرو عندما اراد علي هذا قطع رأسه بعد ان رد على ضربته الفاشلة بضربة إيمانية قاتلة ـ وفي هذه اللحظة الحاسمة شتمه عمرو فقام عن صدره واخذ يتمشى قليلاً ثم عاد اليه وقطع رأس الشرك منه وانطلق به نحو المسلمين وعندما سألوه عن سبب تأخره عن قطع رأسه أجابهم بقوله :
عندما شتمني غضبت فتوقفت عن قطع رأسه في حالة غضبي وانتظرت حتى زالت هذه الحالة مني ليكون قطعي رأسه خالصا لوجه الله سبحانه ولا يكون لحالة الغضب والانفعال الذاتي دخل في ذلك .

قوة الإيمان والإخلاص في النية مصدر النصرة :
ومن المعلوم ان هذه البطولة في الصدق والاخلاص لله سبحانه هي التي سددت هذه الضربة وسببت نصرة الاسلام وهزيمة أعدائه اللئام وحيث كانت السبب لبقاء هذا الدين العظيم عبر التاريخ منطلقاً لعبادة الله سبحانه بكل عمل يصدر من صاحبه على ضوء توجيهاته القيمة ـ اعتبرها الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم معادلة لعبادة الثقلين الى يوم القيامة .
وذلك لان حقيقة العبادة لله سبحانه تتمثل بتطبيق منهج الدين الذي انزله سبحانه ليكون نظام حياة ودستور عبادة وخضوع لإرادته في كل التصرفات الأختيارية التي يمارسها الانسان المكلف على صعيد هذه
____________
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و 3 .


( 62 )


الحياة فلو قدر للشرك كله ان ينتصر على الإيمان والإسلام لكان معنى ذلك زوال الايمان واندراس الاسلام فلا يبقى هناك دين وشرع يتعبد الناس لله سبحانه بتطبيقه وبهذا الموقف البطولي الذي وقفه الإمام علي عليه السلام في هذه المعركة وما ترتب عليه من حفظ الاسلام والمسلمين وانقاذهما من الخطر الكبير الذي احدق بهما يومذاك نعرف قيمة الجهاد ودوره في صون الرسالة من الزوال والامة من الاضمحلال ويأتي بعد ذلك موقف علي في غزوة خيبر متمما لموقفه السابق في معركة الاحزاب ـ حيث كانت الامة والرسالة متعرضتين للخطر الفادح الذي احس الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بتوجهه من قبل اليهود فأراد ان يقوم بدور الوقاية منه بغزوهم في عقر دارهم والقضاء على الخطر في مهده قبل تسربه الى الجهة المستهدفة به .

مواقف الإمام علي عليه السلام البطولية وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقه :
ويوجد تشابه واضح بين هذين الموقفين من حيث الأثر الإيجابي العظيم الذي ترتب عليهما وهو نصر الاسلام ووقايته من شر اعدائه اللئام ومن حيث ما قاله الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حق الامام علي عليه السلام مقدراً ومعجباً .
أما في الموقف الاول فللرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقه كلمتان :
الاولى : تقدم ذكرها بالمناسبة اجمالاً والآن نذكرها تفصيلاً وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ضربة علي عمروا يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين الى يوم القيامة .
والكلمة الثانية : قالها في بداية المواجهة بين الطرفين عندما قال صلى الله عليه وآله وسلم : برز الإيمان كله الى الشرك كله والتعبير عنها بالثانية بلحاظ


( 63 )


اقتضاء المناسبة ذكر الكلمة الاخرى اولا قبل ذكرها وإن كان الترتيب بلحاظ زمن صدور كل واحد منها يقتضي التعبير بالعكس .
وأما ما قاله في حقه بمناسبة الموقف الثاني فهو قوله المشهور : « لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه » .
والمراد من محبة الإمام عليه السلام لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم المحبة الموضوعية الواقعية المتمثلة بالإطاعة والانقياد في كل المواقف وبكل التصرفات وذلك هو السر في تلك القدرة الخارقة التي مكنته من اقتلاع باب خيبر رغم ضخامته وثقله الخارج عن الوزن الطبيعي المتعارف في الابواب العادية وقد اشار ابن ابي الحديد الى ذلك بقوله مخاطباً الإمام علياً عليه السلام :

يا قالع الباب الذي عن هزه * عجزت أكف أربعون وأربع


وقد اعترف الإمام عليه السلام بمصدر قوته التي مكنته من ذلك بقوله :
« ما قلعت باب خيبر بقدرة جسمية ولكن بقدرة ربانية » .
وإذا انطلقنا في رحاب التاريخ ولاحظنا الخطر الذي احدق بالإسلام في عهد بني أمية بعد ان تحولت الخلافة الى ملك يتوارثه الابناء الظالمون المنحرفون عن خط الإسلام في العقيدة والسلوك عن الآباء المماثلين لهم في ذلك .
الثورة الحسينية منطلق الثورات العادلة والحسين رائد الاحرار المجاهدة :
ورأينا الدور الطليعي الرائد الذي مثله على صعيد الطف ابو الشهداء ورائد الاحرار في العالم الامام الحسين عليه السلام واستطاع بجهاده المرير


( 64 )


واستشهاده مع الكوكبة الطليعية البطلة من ابنائه واقاربه واصحابه ان يدفع ذلك الخطر الجسيم عن شرع جده العظيم مردداً بلسان الحال :

إن كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي يا سيوف خذيني


أجل : إذا لاحظنا ذلك ندرك جيداً اهمية دور الجهاد وقيمة الشهادة والاستشهاد وما ترتب على ذلك عبر التاريخ من حفظ الدين الحنيف من الاخطار المعنوية والمادية وصون الامة من الضياع والضلال المدمر الذي يعود بها الى سابق عهدها قبل بزوغ فجر الرسالة الاسلامية الخالدة .
ولم يقف دور الجهاد المقدس عند حدود التاريخ بل انطلق مع الزمن ليعلب دوره الطليعي على يد ابطال الحق وجنود الرسالة ليعطي لكل مرحلة حقها ويلبس في كل حرب لباسها المناسب لها وهذا هو سر تنوعه وتمثله مرة بالكفاح العسكري المسلح واخرى بالكلمة الابية الثائرة وهي التي اشار اليها الحديث القائل :
« أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر » .

دور المقاومة الحسينية في فلسطين ولبنان في دحر العدوان :
وهذا الاسلوب هو الذي انطلق به ائمة اهل البيت بعد الامام الحسين عليه السلام والسائرون على خطهم السليم وصراطهم المستقيم ولم يحصل اللجوء الى الكفاح المسلح الا عندما يشتد الضغط ويستفحل الخطر من قبل الجهة المعادية وتتوفر الشروط الموضوعية الموجبة للاطمئنان بنجاح الثورة وانتصار المقاومة العسكرية كما حصل للثورة الاسلامية في إيران الإسلام على يد البطل الحسيني الشجاع روح الله


( 65 )


الخميني ( قده ) وجنوده الاحرار الابطال .
وعلى هداها سارت الثورة الحسينية في لبنان وفي افغانستان والشيشان وسائر الاقطار التي تفاعلت مع روح الجهاد وانطلقت شعوبها على درب الاستشهاد لنيل احدى الحسنيين .
وإذا لاحظنا مدى الخطورة المترتبة على استمرار الاحتلال الاسرائيلي لما احتلته إسرائيل سابقا ولاحقا من الاراضي العربية وادركنا على ضوء الواقع المحسوس والوضع المعاش ـ انحصار استئصال هذه الغدة السرطانية وإزالة هذا الشر المطلق بالمقاومة المسلحة لاحتلالها وعدم الركون للصلح الاستسلامي الذي لهث وراء سرابه البعض .

بيان دور الجهاد في صون الاسلام والمسلمين من الاضطهاد :
أجل : على ضوء تلك الملاحظة الواعية وهذا الادراك المنطقي المستوحى من الارقام الواقعية ندرك جيداً اهمية الجهاد المقدس والمقاومة الحسينية التي يخوضها ابطالنا الاشاوس داخل فلسطين السليبة الحبيبة وفي جنوب لبنان الابي وبقاعه الصامد ـ ووصف هذه المقاومة العادلة ـ بالارهاب من قبل الاعداء الظالمين لا يسلب عنها شرعيتها ولا يبدل حقيقتها وانها جهاد عادل في سبيل تحرير الارض واستعادة العزة والكرامة كما لا يبدل واقع احتلالهم وانه ظلم للآخرين وإرهاب آثم وغصب فاضح واضح لحقوق المستضعفين .
قال الشاعر :

ومهما تكن عند امرىء من خديعة (1) وإن خالها تخفى على الناس تعلم


____________
(1) الوارد في البيت كلمة خليقة وبدلتها بكلمة خديعة لمناسبة المقام .


( 66 )


ويسرني ان اختم هذه الخطبة بالمقطوعة الشعرية التي نظمتها سابقاً حول موضوع الجهاد موضع الحديث ومحل البحث .


لــولا الجهاد لـحطم الاسلام * حتماً وعم العالمين ظـلامُ
فـهو المجن يصونه من كل ما * يبغيه من كيد بـه الظلامُ
سيــظل رغم المعتدين منارةً * للحق مهـما طالت الايامُ
ويظل رغم الحاقدين مــناهلاً * للخيرمهما صالت الاقزامُ
حتى يقود الثائرين محمدُ العصر * الأبي وتُــرفع الاعلامُ
وهناك ينهزم الطغاة وتزدهـي * في العالمين مودة وسلامُ


والسلام عليكم أيها الاخوة الاعزاء والابناء الاحباء اولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .