أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة التاسعة عشر : دور الجهاد في حفظ الإسلام وسعادة الإنسان
 
 


الخطبة التاسعة عشر : دور الجهاد في حفظ الإسلام وسعادة الإنسان

البريد الإلكتروني طباعة

رسول الله فقال : « ليس رحمة احدكم نفسه خاصة ولكن حتى يرحم الناس عامة ولا يرحمهم الا الله » .
وروي عنه ايضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا علي اربع من كن فيه بنى الله تعالى له بيتا في الجنة من آوى اليتيم ورحم الضعيف واشفق على والديه ورفق بمملوكه » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ارحم من في الارض يرحمك من في السماء » .
وعن ابي جعفر عليه السلام قال : اتى رسول الله رجل فقال يا رسول الله اوصني فكان مما اوصاه به ان قال له : « إلق اخاك بوجه منبسط » وروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « ثلاث يصفين ود المرء لاخيه المسلم يلقاه بالبشر اذا لقيه ويوسع له في المجلس اذا جلس اليه ويدعوه بأحب الاسماء اليه » .
وهناك امور اخرى كثيرة حث الإسلام عليها لما ينشأ منها من المحبة والتعاطف والتعاون بين افراد المجتمع ـ وذلك كافشاء السلام والمصافحة والتزاور والسعي في سبيل قضاء الحاجة والصلاة في المسجد واذا كانت جماعة فالثواب اعظم واعظم حيث ورد في ثوابها ما مضمونه : اذا زاد عدد المأمومين على عشرة فلا يحصي ثوابها الا الله تعالى .
كل ذلك نظرا لما يترتب على هذه الامور من الفوائد العظيمة في الدنيا والآخرة .

نهي الإسلام عن كل ما يوجب العداوة والتقاطع :
وفي مقابلها الامور التي تسبب العداوة والبغضاء ـ كالغيبة والنميمة


( 196 )


والسخرية والتجسس والتنابز بالالقاب ونحو ذلك من مسببات الخصومة والعداوة كما ورد النهي عن عدة امور تؤدي بطبعها الى ذلك في عدة رويات واردة عن أهل البيت عليهم السلام من ذلك ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم ان يهجر اخاه فوق ثلاث » .
واذا اصيب المجتمع بداء العداء لسبب ما ـ أتى دور الاصلاح ليكون الدواء المساعد على ازالة هذا العارض الخطير الذي يؤدي بطبعه الى الكثير من الاضرار الخطيرة في الدنيا والآخرة لذلك كان للإصلاح فضله واجره الكثير لانه يقوم بدورين عظيمين احدهما ازالة مرض العداوة والشحناء التي تؤدي بطبعها الى الكثير من المضاعفات السلبية .
والثاني : إعادة اللحمة ونشر المحبة والرحمة مكان العداوة والخصومة وقد مر ذكر بعض الايات والروايات المحرضة عليه والمرغبة فيه أظهرها قوله تعالى :
( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) (1) .

شروط اساسية لنجاح مهمة الإصلاح :
وكما يشترط في كثير من الاحيان شروط معينة في استعمال الدواء المادي المعهود ليترتب عليه اثره المنشود كذلك يشترط في استعمال دواء الاصلاح شروط اساسية لها اثرها البليغ في تحقق العلاج المطلوب والشفاء المرغوب وهي عديدة ، اهمها صلاح الشخص او الجماعة التي تريد ان تقوم بدور الاصلاح بمعنى استقامتها في طريق الشرع بفعل
____________
(1) سورة الحجرات ، الآية : 10 .


( 197 )


المأمور به وترك المنهي عنه وذلك لان معنى الاصلاح بمفهومه اللغوي والعرفي هو اعطاء الصلاح للفرد الفاقد له او الجهة المحتاجة اليه من اجل ازالة الفرقة واعادة اللحمة التي فقدت بسبب النزاع الحاصل ومن المعلوم منطقيا ان الشخص الذي يريد ان يقوم بهذا الدور اي دور الاصلاح ـ لابد ان يكون واجدا لصفة الصلاح في نفسه ـ حتى يتمكن من ايجادها في غيره لان فاقد الشيء لا يعطيه .
ومن شروط الاصلاح التوازن والموضوعية في شخص المصلح لانه اذا كان فاقدا لهذه الصفة ومعروفا بالانتماء لاحد الطرفين المتخاصمين مع الميل له فكريا وعاطفيا فلا يستطيع ان يقوم بدور الحكم المنصف المصلح بعد ان كان طرفا في النزاع وخصما ولو بحسب الظاهر لاحد الطرفين .
ومن شروط الاصلاح اتباع الاسلوب القرآني والتجمل بالادب الاسلامي المتمثل بالدعوة الى التقارب والتحابب بالحكمة والموعظة الحسنة لان ذلك يساهم مساهمة فعالة في تحقيق هدف الصلاح والاصلاح بخلاف الاسلوب القاسي المثير فهو يعقد المشكلة ويعمق الخصومة بدل ان يزيلها .
وما امس حاجتنا لان تشيع روح الصلاح وتنتشر ظاهرة الاصلاح على نطاق واسع بين افراد مجتمعنا وعلى الاخص في هذه الايام التي تعاون فيها اعداؤنا على الإثم والعدوان في مجال إثارة الفتن الداخلية بتحريك النعرات الطائفية والمذهبية والخلافات السياسية من اجل ان يحصل التصادم ويضعف الجميع بتصادمهم ويقوى العدو بضعفهم ويحقق اهدافه الاستعمارية على حساب اهدافهم انطلاقا من قاعدته الشيطانية القائلة : فرق تسد ، ولذلك يطلب من الجميع ان يكونوا حذرين


( 198 )


من التأثر بكل تلك الوسائل والحبائل الاستعمارية وذلك بالانطواء تحت راية الوحدة الوطنية وتجميد كل انواع الصراع او تناوله من قبل العقلاء الحكماء ـ بالحوار الهادىء الهادف فما يتفقون عليه من المواقف والآراء يتعاونون على تنفيذه وما يبقى محلا للخلاف يجب ان يجمد هذا الخلاف فيه وينطلق الكل تحت راية القواسم المشتركة والثوابت الواضحة من دون ان يفسد ذلك الخلاف للود قضية .

دعوة الإسلام للوحدة ونهيه عن الانقسام والفرقة :
وحيث ان الاسلام دين القوة والعزة والوحدة فقد امر المسلمين بالاعتصام بحبل الوحدة ونهاهم عن الشرذمة والفرقة فقال سبحانه في كتابه المجيد : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (1) .
ونهاهم عن التنازع المؤدي الى الفشل والضعف بقوله تعالى :
( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين ) (2) .
كما امر بكل ما يؤدي الى التآلف والتعاطف والتعاون على تحقيق مرضاة الله سبحانه وخدمة المصلحة العامة ونهى عن كل ما يؤدي الى عكس ذلك وقد مرت الاشارة الى ذلك خلال الحديث .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء اولا وآخرا ورحمة الله وبركاته .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 103 .
(2) سورة الانفال ، الآية : 46 .


( 199 )


الخطبة التاسعة عشر(1)

دور الجهاد في حفظ الإسلام وسعادة الإنسان

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : حيث ان هذه الايام هي ايام الجهاد والشهادة والاستشهاد ناسب ذلك ان اتحدث حول موضوع الجهاد ودوره الطليعي في تشييد الصرح الاسلامي وصونه من الانهيار امام التحديات المتطرفة والتيارات الجارفة عبر التاريخ .
وقبل ان ابين ذلك ينبغي ان ابين اهمية الدين ودوره في بناء شخصية الانسان ومساعدته على نيل سعادته وعزته في دنياه وآخرته ـ لان
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 3 ـ 4 ـ 1412 هـ الموافق 11 ـ 10 ـ 1991 م .


( 200 )


أهمية الجهاد في سبيل الدين انما تكتسب قيمتها من اهمية الدين باعتبار ان الوسيلة تكسب شرفها من الغاية المترتبة عليها فبقدر ما تكون الغاية شريفة وسامية تكون الوسيلة كذلك ـ فأقول :
ان الانسان يولد اول ما يولد حيوانا حاملا في طي كيانه كل الغرائز والطبائع الموجودة في سائر الفصائل الحيوانية كيف لا وهو حيوان ناطق ـ كما ذكر المناطقة في تعريفه وبيان حقيقته وانما يتميز عن غيره من هذه الفصائل بأمرين :
أحدهما مادي ظاهر والآخر معنوي مستتر اما الاول فهو الشكل والصورة واما الثاني فهو الاستعداد وقابلية الترقي من صف الحيوانية الذي يولد فيه الى صف الانسانية الذي يريد الله منه ويوجب عليه ان يترقى له ويصل اليه من خلال دخوله مدرسة الدين التي تمهد له وتساعده على استثمار قابليته البشرية التي اودعها الله فيه ليصقلها وينميها ويرقى بها من صف حيوانيته الادنى الى صف انسانيته الاعلى قياسا على حالة الجهل والامية التي يولد عليها الانسان ويرتقى منها بعد ذلك ويتجاوزها الى مرحلة العلم والثقافة بسبب دخوله مدرسة العلم والترقي ـ والدين وحده هو المدرسة الوحيدة التي يستطيع الانسان بواسطتها ان يصعد ويترقى من صف حيوانيته الى صف انسانيته .

قيمة الإنسان بالعلم والإيمان :
وذلك لان الإنسان لم يكن له وزن وقيمته التي كرمه الله بها وفضله على الكثير من مخلوقاته واسجد له ملائكته .
أجل : إن الإنسان لم يكن له هذا الوزن والاعتبار لقامته المستطيلة وصورته الجميلة ـ وانما كان له ذلك بأخلاقه الفاضلة واعماله الصالحة


( 201 )


وسلوكه المستقيم ومن المعلوم ان هذا لا يحصل له ولا يصدر منه الا بالالتزام بخط الدين من خلال الايمان الصادق بأصوله الفطرية المعهودة وبما تفرع عليها من القوانين العادلة الشاملة مع العمل بها في إطار العبادة العامة والخضوع لإرادة الله سبحانه بكل التصرفات وفي مختلف المجالات .
واما العلم والثقافة فلا يساهمان في بناء شخصية الانسان والترقي به من صف حيوانيته النازلة الى صف انسانيته الفاضلة الا اذا سارا معا في ركاب الدين فكان الدافع لهما والمحرك لشخص المتعلم في درب الغاية التي خلقه الله من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ـ في هذا الفرض وحده يكون للعلم اثره الايجابي في بناء كيان الانسان وهو الذي جعله الله فريضة على كل مسلم ومسلمة .
واما اذا تجرد طلب العلم عن هذا الدافع الرسالي ولم ينطلق بصاحبه في خط الغاية السماوية الباعثة لخلقه كما هو شأن الكثيرين ممن يطلبون العلوم العصرية لاهداف مادية جامدة بعيدة عن روح الدين ومثله السامية ـ اما اذا تجرد طلب العلم عن ذلك من حيث الباعث في البداية والهدف والمقصد في النهاية فإن ضرره يكون اكبر واكثر من نفعه ـ إن كان له شيء من النفع ـ حيث يصبح لدى غير المتدين كالسلاح الواقع في يد غير العاقل فهو يسدده الى صدور الاخوان والاصدقاء اكثر من تسديده الى صدور الاعداء .

دور الدين في صنع شخصية الإنسان :
وما حدث في العالم ولا يزال يتكرر من الحروب الطاحنة في اكثر الاقطار ولاتفه الاسباب ـ اصدق شاهد واوضح دليل على واقعية هذه


( 202 )


الحقيقة المرة التي نشأت من تجرد العلم والعرفان عن الدين والايمان الامر الذي ادى الى بقاء الكثيرين في صف حيوانيتهم التي تغذت ونمت في ظل انطلاقهم مع الاهواء المنحرفة ليصبحوا بذلك حيوانات مفترسة بدل ان يترقوا بالدين والايمان الى مستوى انسانيتهم الفاضلة .
وقد اشرت الى دور الدين في بناء شخصية الانسان والترقي به في سماء الفضيلة مع الاشارة الى حصول عكس ذلك بسبب البعد عن رسالة السماء والانطلاق في ميدان الاطماع والاهواء ـ وذلك بمقطوعة شعرية اهديتها في الخمسينات من النجف الاشرف الى بعض الاساتذة القائمين بمهمة التدريس في مدرسة بلدتنا ـ معركة ـ وهي كما يلي :


بعثتك الطاف السماء رســـولا * لتشيد مجــتمعا وتبني جـيلا
فاغرس بـذور الدين في افـكاره * لينال من توجيهه المــأمـولا
الدين مدرسة الهـدى فبـــغيره * لا يستطيع الى الصلاح وصولا
والعلم لا يجدي بغير عــقيـدة * كالنور لا يجدي الضرير فتيـلا
كم ذا ترقى الغرب في إبــداعه * صور الفنون وكم تخطى مـيلا
لكنه طرح العقـيدة فاغـــتدى * سيفا على رأس الهدى مـسلولا
ان التقدم في العلوم تــــأخر * ان لم يهذب انفسـا وعــقولا
لا يبعث الانوار سلـك ثقــافة * ما لم يكن بسنا الهدى موصـولا
فاقرن بدرس العلم درس عقيـدة * عصماء واكشف سرها المجهولا
ليسير جيلك للأمام مهــــذبا * بهدى السماء ويحـذر التضـليلا
لا زلت للأجيال خـير مــثقف * تسدي بتهذيب النفوس جــميلا



المقارنة بين وضع الإنسان الجاهلي ووضعه الديني :
أجل : إن الدين هو مدرسة الهدى والفضيلة ومعهد الرقي والسعادة


( 203 )


وتتأكد لدينا هذه الحقيقة اكثر فاكثر اذا القينا نظرة خاطفة على الوضع الجاهلي الذي كان سائدا في العالم بصورة عامة وفي شبه الجزيرة العربية بصورة خاصة وقارنا بين هذا الوضع المأساوي الذي انسلخ به الإنسان عن إنسانيته ولم يبق له منها سوى الشكل والصورة ـ الا من رحمه الله ـ والوضع الجديد المجيد الذي تحول له ووصل اليه ببركة دخوله في مدرسة الإسلام العظيم وبضدها تتميز الاشياء .
ففي الامس القريب كان يعبد الاصنام واليوم تحول إلى عبادة الله الواحد العلام وكان اذا اظلم عليه الليل ركب فرسه وحمل سيفه ورمحه وانطلق بدافع جاهليته الجهلاء العمياء ليغزو القبائل الاخرى ويسلب منها ما يسلب ويرجع مفتخرا بذلك وانه ابن الليل والبطل الشجاع الذي يصارع الرجال ولا يخشى الاهوال ـ واذا لم يجد قبيلة اجنبية ليحقق غرضه الجاهلي منها انعطف على قبيلته وحقق هدف جاهليته .
واليوم اصبح في ظل الدين المجيد ـ يجول على الفقراء بصدقة السر ليلا ليزيد أجره ويكثر ثوابه بعد ان كان في السابق يجول ليلاً ليثير الرعب والخوف ويسلب الراحة والامن والاستقرار وربما الحياة اذا لزم الامر .
وكانت المرأة في نظره سلعة تباع وتشترى في سوق المتاع الرخيص فاقدة لحقوقها المادية والمعنوية ـ وأصبحت في العهد الجديد محترمة الكيان مصونة الحقوق ومساوية لاخيها الرجل في الحقوق والواجبات ولا فضل لاحدهما على الآخر الا بالتقوى والعمل الصالح ـ واعتبر الاسلام مساعدة الرجل زوجته في الاعمال المنوطة بها والراجعة غالبا اليها من افضل المستحبات التي يتقرب بها الى الله زلفى ـ كما اعتبر الهدية التي يقدمها الزوج بقصد إدخال السرور الى


( 204 )


قلبها قربة لله سبحانه افضل من الصدقة التي يقدمها للفقير .

المقارنة بين وضع الإنسان قبل الإسلام ووضعه بعده :
وأصبحت البنت هدية من الله لوالديها ورحمة ينال بتربيتها الصالحة الاجر العظيم والثواب الجسيم ـ على ضوء الحديث المروي عن الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحاصله :
من كان له ابنتان فرباهما واحسن تربيتهما ضمنت له على الله الجنة ـ وروي حديث بهذا المضمون بالنسبة الى الاخت ايضا ـ وبملاحظة جوهر الحديث نعرف شمول الثواب وترتبه على تربية البنت الواحدة والاخت الواحدة ايضا وعدم اختصاصه بالعدد الوارد في الرواية وان كانت درجة الثواب تترقى بزيادة العدد المقتضية بطبعها لزيادة المشقة والمعاناة .
أجل : هكذا اصبحت البنت في نظر اهلها وسائر افراد المجتمع الاسلامي بعد ان كانت عاراً يتوارى والدها عن الآخرين بسببه ويظل وجهه مسودا وهو كظيم من سوء ما بشر به واصبح الانسان في ظل الاسلام محبا لاخيه ما يحبه لنفسه وكارها له ما يكرهه لها ـ ولا يقف عند حد الانفعال العاطفي في حبه وكراهته بل يتمم ذلك بفعله لاخيه ما يحب فعله لنفسه وبتركه ما يكرهه من الغير كما يتركه ولا يفعله لشخصه ـ وذلك تجاوبا مع إسلامه العظيم إسلام الاخلاق والرحمة حيث يقول :
لا يؤمن احدكم او لا يكمل إيمان احدكم حتى يحب لاخيه ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لها .
وكذلك اصبح مهتما بأمور إخوانه المسلمين كما اصبحوا سالمين


( 205 )


من يده ولسانه وذلك من اجل ان يؤكد مصداقية اسلامه القائل : من اصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم والقائل : المسلم من سلم الناس من يده ولسانه ـ بعد ان كان في ظل العهد الجاهلي على عكس ذلك .

دور الإسلام في تقدم وسعادة الإنسان :
وحاصل هذه المقارنة بين العهدين الجاهلي المحطم والاسلامي المعظم ـ ان الانسان في الاول كان حيوانا مفترسا واصبح في الثاني بشرا سويا ومؤمنا وليا خبره مضمون وشره مأمون وقد اشرت الى كلا العهدين مقارنا بين الوضعين الجاهلي الساحق والاسلامي المنقذ المشرق ـ بمقطوعة شعرية هي جزء من قصيدة نظمت والقيت بمناسبة احدى الذكريات السنوية لانتصار الثورة الاسلامية والخطاب فيها موجه للإنسان الذي عاش كلا العهدين الجاهلي والاسلامي وهي كما يلي :


قد كنت قبل الدين سبعا ضاريا * يخشاك حتى الأهل والولدان
فإذا أتاك الليل كان مطـــية * يسطو عليها السلب والعدوان
وإذا أتتك البنت فهي جريـمـة * تخفي معالم قبـحها التربان
وإذا اردت عبادة ترضي بــها * رب الهوى فالقـبلة الاوثان
وكذا بقيت تعيش جهلا مرديـا * حتى أتاك بنهجه الــقرآن
فطرحت شركا واعتنقت شريعة * سمحاء ابدع خطها الرحمن
فإذا الجزيرة روضة فـواحـة * بالخير ينشر عطره الإحسان
وإذا النفوس تطلع وتشـــوق * للحق ينشر نوره الإيــمان
والفضل للاتـقى وإن لم يـعله * نسب رفيع الشأن أو تـيجان
تبت يدا عم النبي وقد غـــدا * من آل بيت محمد ســلمان

( 206 )


أهمية الجهاد في الشريعة الإسلامية :
وبما تقدم نعرف قيمة الدين ودوره الفعال في بناء شخصية الانسان وخروجه من الظلمات الى النور فردا ومجتمعا وحيث انه مدرسة حق ومعهد فضيلة والحق كان ولا يزال محاربا من قبل اهل الباطل ـ شرع الله سبحانه فريضة الجهاد ليصون بها تلك الاحكام والقوانين العادلة التي جاء بها الاسلام لتكون رحمة للعالمين .
فهذه الفريضة المقدسة ـ اي فريضة الجهاد ـ تمثل بالنسبة الى الدين السياج الذي يصون بستان الفضيلة ومعهد الحق من اعتداء الظالمين وتطرف المنحرفين ـ وقد اراد الله سبحانه ان يلفت النظر الى اهمية هذه الفريضة ودورها الطليعي في صيانة الاسلام وسعادة الانسان ـ من خلال الاسلوب البياني الخاص الذي استعمله في مقام بيان تشريعها والحث على العمل بها ـ فقال سبحانه : ( * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقران ) (1) .
وقال تعالى : ( يآيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (2) .
بهذا الاسلوب الرائع ابرز الله سبحانه اهمية الجهاد حيث عبر عنها عن طريق ابرام عقد البيع والشراء للأنفس والاموال من المؤمنين واعتبار
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(2) سورة الصف ، الآيتان : 10 ـ 11 .


( 207 )


الجنة الثمن الثمين لما اشتراه منهم مؤكدا ذلك بقوله في آخر الآية الاولى : ( ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) (1) .
وكذلك بين في الآية الثانية الربح العظيم المترتب على التجارة الواقعة بين الله سبحانه وعباده المؤمنين مشيرا اليه اجمالا بقوله :
أولاً : ( ننجيكم من عذاب اليم ) .
وثانياً : بقوله : ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .

مدى اهتمام الإسلام بفريضة الجهاد المقدسة :
وبعد هذا البيان الاجمالي للربح الحاصل من هذه التجارة الرابحة الناجحة بينه مفصلا في آخر الآية بقوله تعالى : ( يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) (2) .
وقد عطف الله سبحانه على هذه الارباح الاخروية التي تحصل للمؤمنين في الآخرة ربحا آخر معجلا يحصلون عليه في هذه الحياة وذلك بقوله تعالى في الاية التالية لآية التجارة :
( وأُخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ) (3) .
وحيث ان هذا الربح لا يحصل الا للمؤمنين المتاجرين مع الله سبحانه : قال في آخر الآية الثانية التالية : ( وبشر المؤمنين ) .
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 111 .
(2) سورة الصف ، الآية : 12 .
(3) سورة الصف ، الآية : 13 .


( 208 )


واستلهام إبداء الله سبحانه المزيد من الاهتمام بفريضة الجهاد من بين سائر الفرائض ـ يكون من ناحيتين .
الناحية الاولى : عرض هذه الفريضة وابداء مطلوبيتها المؤكدة بهذا الاسلوب التفصيلي المشوق الذي امتازت به دون سواها من الفرائض التي امر الله بها وابرز وجوبها بالاسلوب العادي الطبيعي كما في قوله تعالى بالنسبة الى الصلاة والزكاة : ( فأقيموا الصلاة واتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ) (1) .
وقوله تعالى في مقام بين وجوب الصوم : ( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (2) .
وقوله تعالى بالنسبة الى فريضة الحج :
( ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ) (3) .
الناحية الثانية : هي ان الاعمال العبادية والآثار الايجابية المترتبة على تملك الله سبحانه لانفس المؤمنين وأموالهم كثيرة شاملة لجميع الاعمال والتصرفات الراجحة وجوبا او استحبابا ـ وأبرزها العبادات المشهورة وخصوصا الصلاة التي هي عمود الدين والصوم الذي هو جنة من النار ـ فذكر الجهاد على وجه التخصيص يدل على مدى اهتمام الله سبحانه به وقد مرت الاشارة الى وجه هذه الاهمية بما حاصله ان الدين الاسلامي بما اشتمل عليه من اصول حقه وقوانين عادلة ـ هو حق منزل من قبل الإله الحق من أجل تحقيق الهدف الحق وهو إخراج الانسان من
____________
(1) سورة المجادلة ، الآية : 13 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 183 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 97 .


( 209 )


ظلمات الجاهلية الى نور الانسانية بما تحمله هذه الكلمة من مثل سامية وقيم رفيعة ـ وحيث ان الحق كان ولا يزال محاربا من قبل اهل الباطل ـ كان لا بد له من تشريع خاص يمثل السياج الواقي والدرع المانع من إصابته بالاضرار والاخطار المتوقع تسربها اليه من اعداء الانسانية وقد نهضت فريضة الجهاد المقدس بهذ الدور المبارك منذ فجر الدعوة المحمدية حيث كان لها الاثر البليغ في تشييد صرح الرسالة بعد الهجرة ـ كما كان لها الدور البارز في ثبات المؤمنين وصبرهم على الاذى في سبيل الله ـ قبلها الامر الذي ثبت اقدامهم على المنهج الحق رغم الايذاء الشديد الذي تعرضوا له من قبل اعداء الدعوة الجديدة المجيدة .
ومن المعلوم ان الثبات في ساحة الصراع وعدم الانهزام أمام المعتدين الظالمين ـ رغم قلة العدد وتواضع العُدد ـ يعتبر من اعلى مراتب الجهاد ومن هنا عبر عنه بالجهاد الاكبر ـ وهكذا انطلقت فريضة الجهاد مع الرسالة جنبا الى جنب تحميها من العدوان الفكري والسياسي كما تحميها من العدوان العسكري ـ وقد نهض كل واحد من أهل البيت عليهم السلام بدور طليعي في هذا المجال ـ وان اختلفت نوعية ادوارهم تبعا لاختلاف ظروفهم والعوامل الموضوعية التي كانت معاصرة لكل واحد منهم .
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلاثة من الأئمة وهم علي ونجلاه الحسن والحسين عليهم السلام قام كل واحد منهم بفريضة الجهاد بكل نوعيها الفكري والعسكري وانحصرت بعد ذلك بأحد نوعيها وهو الفكري الثقافي ابتداء من الامام زين العابدين عليه السلام وانتهاء بالمهدي عجل الله فرجه وهو لا يقل اهمية عن الجهاد العسكري .


( 210 )


دور الثورة الحسينية في حفظ الشريعة الاسلامية :
وتأتي الثورة الحسينية وجهادها المقدس لتكون الشاهد الواضح والناطق الموضح لدور فريضة الجهاد في حفظ الرسالة وصونها من الانهيار امام العدوان الاموي والطغيان اليزيدي الذي استهدف الرسالة المحمدية وحاول القضاء عليها من خلال القضاء على رموزها اللامعة ومصابيحها الساطعة ولكن الله سبحانه بعنايته ـ رد كيدهم الى نحورهم وصان شريعته من شرهم ببركة ما قام به وليه الحسين العظيم من امتثال امره بالجهاد وتقديمه نفسه النفيسة ومن يتعلق به من الاعزاء فداء للدين وصونا له من التضعضع والانهيار امام اعتداء الظالمين والى هذا المعنى اشار السيد جعفر الحلي وهو يتحدث عن يزيد وإجرامه وعن بطولة الحسين عليه السلام واقدامه وذلك بالابيات التالية :


لم ادر أين رجال المسلمين مضـوا * وكيف صار يزيد بيـنهم مــلكا
لئن جرت لفظة التوحيد في فمــه * فسيفه بسوى التوحيد ما فتـــكا
قد اصبح الدين منه يشتكي سقــما * وما الى أحد غير الحسين شــكا
فما رأى السبط للـدين الحنيف شفا * الا اذا دمه في كربلاء ســـفكا
بقتله فاح للإسلام نشـر هـــدى * فكلما ذكرته المســلمون ذكــا
نفسي الفداء لفاد شرع والــــده * بنفسه وبـأهله ومـا مــــلكا


ويسرني ان اختم الحديث حول موضوع الجهاد بأبيات نظمتها حول هذا الموضوع وهي كما يلي :


إن الجهاد فريضة قدســية * بسياجها يتحـصن الإسلام
لولاه ما قامت شريعة أحمد * وغدت ترف بأفقها الاعلام

 


( 211 )

 

هو في السلام سماحة وتعاطف * ولدى المعارك موقف وحسام
وكلاهما شـرع تألق نــوره * ليزول من أفق الحياة ظـلام


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الاحباء اولا وآخرا ورحمة الله .


( 212 )


الخطبة العشرون (1)

التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم ايها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : قال الله سبحانه في كتابه المجيد : ( يآيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * واخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ) (2) .
____________
(1) القيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الامام المهدي ( عج ) وذلك في 28 ـ 3 ـ 1413 هـ الموافق 25 ـ 9 ـ 1992 م .
(2) سورة الصف ، الآيات : 10 ـ 13 .


( 213 )


بهذا الخطاب القرآني البليغ الرقيق خاطب الله سبحانه عباده المؤمنين طالبا منهم ابداء رغبتهم في ان يدلهم على تجارة رابحة ناجحة في الدنيا والآخرة . وحيث ان رغبتهم في ذلك متحققة جزما ـ يعتبرون بحكم المجيب على هذا السؤال بقولهم بلسان الحال :
نعم دلنا يا رب على هذه التجارة الرابحة ، وتأتي الاجابة منه سبحانه بقوله :
( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) .
وقدم الله سبحانه الايمان بالله ورسوله على الجهاد في سبيله بالاموال والانفس باعتبار ان ذلك يمثل التعاقد وايجاد عقد التجارة مع الله سبحانه كطرف اصيل في كل المعاملات والتجارات الإلهية ومع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بصفته الوكيل الممثل له والنائب عنه كما هو الشأن في كل مورد لا يوجد فيه مجال لان يحصل التعامل مع الاصيل مباشرة ـ وبعد حصول هذا العقد يأتي دور العمل بمقتضاه وحيث ان الله سبحانه هو المشتري للأنفس والاموال من عباده المؤمنين كما هو نص الآية القائلة :
( * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) (1) .
والمعطي ثمنها وهو الجنة ـ يجب ان يسلم هذا المبيع لمشتريه وذلك بصرفه في سبيل الله وهو كل مورد يكون صرف المال فيه او
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 111 .


( 214 )


ممارسة بعض الاعمال ـ راجحا على وجه الوجوب او الاستحباب .
والتعبير بممارسة بعض الاعمال اشارة الى تسليم المبيع الثاني وهو النفس لان المراد منها هو العمل الصادر عنها لا نفسها كما هو واضح فكأن الله سبحانه قال :
ان الله اشترى من المؤمنين اعمالهم واموالهم بأن لهم الجنة ـ وبهذا الاعتبار تكون آية الشراء مفسرة للمراد من آية التجارة ومبينة للمراد منها .
والربح الذي اشار الله اليه في آية التجارة يمكن تقسيمه بلحاظ نوعيته ومكان حصوله الى اربعة اقسام لانه يقسم اولا بلحاظ نوعيته الى قسمين وهما الربح المعنوي الروحي والربح المادي الجسمي ـ وكل واحد منهما يقسم الى قسمين احدهما المعجل الحاصل في هذه الحياة والثاني المؤجل الذي سوف يحصل في الاخرة .
والمراد بالربح المترتب على التجارة مع الله سبحانه وهي موضوع الحديث المنفعة الحاصلة منها بالمعنى العام لهذه المنفعة الشاملة للأقسام الاربعة المذكورة والمراد بالمعنوي الروحي المعجل كل منفعة تعود الى الروح وتسبب لها البهجة والسرور والسمو والصفاء ونحو ذلك من المنافع المعنوية الحاصلة لها في هذه الحياة مقابل ما يحصل لها من ذلك في الآخرة وبذلك يعرف المراد بالربح المادي المعجل والمؤجل وللمزيد من التوضيح نقول : المراد به كل منفعة مادية تعود الى الجسم لتنعشه وتعطيه النمو والقوة والنشاط في الحاضر وفي مستقبل الآخرة حيث اعد الله سبحانه فيها ما تشتهيه الانفس من انواع النعيم المادي والروحي مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .


( 215 )


أنواع الربح المترتبة على التجارة مع الله سبحانه :
وحيث ان الربح المعنوي الروحي اهم ، قدمه الله بالذكر على غيره حيث قال سبحانه : ( تنجيكم من عذاب اليم ) .
باعتبار ان النجاة والسلامة من الضرر الحاصلة بالتجارة مع الله سبحانه ـ تعطي المؤمن نعيما روحيا معجلا كما تعطيه منفعة وربحا ماديا يعود على جسمه بالقوة والحيوية نتيجة تجارته مع الله سبحانه وعمله بمقتضى هذه التجارة بصرف امواله في سبيل الله وحصر اعماله وتصرفاته الاختيارية في اطار مرضاته تعالى وعبادته وحده لا شريك له .
وقد اشار الله سبحانه الى عدة اقسام من النعميم والربح الروحي الحاصل للمؤمن في الاخرة منها ما هو حاصل له بسبب عفو الله عنه ومغفرته له وهو ما ذكر الله بقوله : يغفر لكم ذنوبكم ومنها ادخال الجنة المعبر عن رضا الله ومحبته مع خصوصية جريان الانهار تحتها فهو يعطي للنفس بهجة وللروح انتعاشا ومنها كون المساكن التي يقيمون فيها طيبة ومنها كونها في جنات عدن اي خلود ودوام ـ فإن ذلك يتمم النعيم الروحي بخلاف نعيم الدنيا المقترن بالعلم بزواله وعدم بقائه وهذا يخفف من الارتياح والانشراح به ان لم يؤد الى عدم حصوله اصلا .
وقد اشار الله سبحانه الى بعض انواع النعيم الروحي المعجل في هذه الدنيا وهو السرور والبهجة الحاصلة للمؤمنين بنصره لهم على اعدائهم وتحصيلهم الفتح القريب وقد اراد الله سبحانه ان يعجل لهم هذا النعيم الروحي والربح المعنوي بتقديم البشارة لهم بنيل كل ما وعدهم به من انواع النعيم حيث قال تعالى : ( وبشر المؤمنين ) وخصص البشارة


( 216 )


بالمؤمنين باعتبار انهم الذين يتاجرون مع الله سبحانه ببيعهم له اموالهم وانفسهم لينالوا منه ثمنها وهو الجنة .
واما غير المؤمنين فقد باعوا اموالهم وانفسهم للشيطان وسوف يقدم لهم ثمن ذلك عذاب النيران وذلك هو الخسران المبين .

بيان كيفية الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال :
وبعد بيان الربح المترتب على التجارة مع الله سبحانه بأقسامه المذكورة نشير الى كيفية الجهاد في سبيل الله بالانفس والاموال فنقول : مرت الاشارة الى ان المراد بالانفس الواردة في آيتي الشراء والتجارة الاعمال الصادرة عنها لا نفسها لان المكلف قادر على تسليم اعماله الاختيارية وتصرفاته الارادية وتسليمها لله عبارة عن الاتيان بها منسجمة مع ارادته تعالى وهو روح العبادة بمعناها العام .
واما الجهاد في سبيل الله بالاموال فيكون بصرفها في المصارف الراجحة المحبوبة لله سبحانه وجوبا او استحبابا وذكر الجهاد بالخصوص لاهميته كما مر بيانه مفصلا في الخطبة السابقة على هذه ومن المعلوم ان الجهاد في هذا السبيل مرتكز على بذل المال بشكل اساسي نظرا لحاجة المجاهد نفسه للنفقة اللازمة له ولمن تجب نفقته عليه من الابوين والزوجة والاولاد ونحوهم مع حاجة المعركة الى الذخيرة اللازمة التي تتوقف عليها مواجهة العدو بثبات وتحمل حتى ادراك هدف التحرر والتطهير وهناك موارد عديدة للجهاد بالمال في سبيل تحصيل مرضاة الله سبحانه وهي تأتي في المرتبة الثانية في الاهمية بعد الجهاد به في سبيل التحرير واستعادة العزة والحرية والكرامة ويمكن ان يشار الى هذه الموارد بعنوان اجمالي يشير اجمالا اليها وينطبق عليها وهو عنوان اغاثة


( 217 )


الملهوف الذي وقع في ازمة اقتصادية واصبح بحاجة ماسة الى من ينقذه من ازمته ويخرجه من شدته ـ وفيما يلي الاشارة الى بعض افراد هذا العنوان العام .

المصرف الافضل لبذل المال في سبيل الله تعالى:
من افراد الشخص الذي تراكمت عليه اقساط اجرة المنزل الذي استأجره من بعض الاشخاص واخذ المالك يراجع باستمرار مطالبا بتسديد تلك الاقساط لكونه مضطرا لها ولا يسمح له بالتصرف بأي عمل في منزله حتى الصلاة لانتهاء مدة الاجارة وعدم موافقته على تجديدها قبل استلام الاقساط المستحقة .
ففي هذا الفرض ماذا يصنع هذا المستأجر هل يبقى في منزله بدون رضاه ليبقى على مطالبته له وإحراجه بكلمات اللوم وربما الشتم واتهامه بعدم التقوى والالتزام الديني بحجة انه يصلي مع عائلته في منزله بدون رضاه واذا أراد هذا المستأجر المغلوب المنكوب ان يترك له منزله فالى اين يذهب ؟ وفي اي مكان يستقر ؟ وهو إنسان محترم له عزته وكرامته ؟ ومن أفراد الإنسان الملهوف المنكوب ـ شخص له اولاد وهو يريد ان يخرجهم من ظلمات الامية والجهل الى نور العلم والثقافة الا ان راتبه او كسبه الذي يحصله بعمله المتواضع لا يكفي لمصارفه البيتية الضرورية المعهودة فضلا عن الاقساط المدرسية الراقية واثمان الكتب الغالية ـ ومثل هذا الشخص ماذا يصنع امام هذه المشكلة المعقدة والمؤلمة فهل يبقي اولاده في منزله بلا علم وتعلم لابسط انواع المعرفة الضرورية وذلك قضاء على وجودهم المعنوي وتحطيم لمستقبلهم الدنيوي والاخروي او يغامر بتسجيلهم بواسطة الاقتراض ولا يوجد من يقرضه


( 218 )


واذا وجد فبأية وسيلة يسدد دين الاقتراض ؟ .

اغاثة الملهوف من افضل الاعمال المقربة من الله تعالى :
ومن افراده شخص اصيب بعارض صحي خطير وكان انسانا مستضعفا لا يملك ما يحتاجه لنفقته الضرورية له ولأفراد أسرته ومثل هذا الشخص ماذا يصنع هل يسكت ويقعد عن المعالجة وحياته مهددة بالخطر او يقدم عليها ولا حول له ولا قوة اقتصادية او معنوية تلفت نحوه الانظار وتوفر له الاعوان والانصار ؟ ومن مصاديق انساننا المستضعف في هذه الايام شخص اقدم على اجراء عقد القران على فتاة اعجبته وملكت عواطفه وخشي اذا تأخر عن ربطها به بالعقد الشرعي ان تفلت من يده ويكون مصيرها لغيره وبعد ذلك اصطدم بالواقع المر والازمة الاقتصادية الخانقة فأجرة الشقة غالية وثمنها اغلى وكذلك ثمن الاثاث وحينئذ يضطر هذا المسكين لان يبقى منتظرا الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر وفي الغالب يبقى على وضعه الصعب ويضعف امله بالانفراج ويضطر بعد ذلك لان يهدم ما بناه على اساس الامل حتى لا تبقى خطيبته معلقة غير متزوجة فعلا وعملا ـ ولا مطلقة .
وهناك نماذج اخرى للإنسان المستضعف في وقتنا الحاضر والامثلة التي ذكرتها انعكاس عن واقعنا المأساوي الذي يمر به الكثيرون ـ وهنا يأتي دور لفت النظر والتنبيه على ان هذه النماذج هي السوق الذي يتوقع من المؤمنين بالله واليوم الآخر وبمضمون آيتي الشراء والتجارة التي هي مضمونة الربح والنجاح في الدنيا والاخرة لأن التعامل فيها مع الله سبحانه كما مر بيانه مفصلا والله سبحانه وعد بالربح العظيم المترتب على الاتجار معه وبيع الانفس والاموال له وهو سبحانه اوفى الواعدين واصدق القائلين .


( 219 )


القرض الحسن للمضطر من أفضل الاعمال :
وقد لاحظنا مدى الصعوبة والمعاناة النفسية وربما الجسمية بالنسبة الى المستضعف المريض ـ ومن المعلوم ان الاجر المترتب على قضاء أية حاجة تكون كميته ومقداره بقدر اهمية تلك الحاجة فبقدر ما تكون ماسة وملحة يكون الاجر المترتب على قضائها عظيما وجسيما حتى يصل الى درجة ثواب احياء النفس الذي اشار الله سبحانه الى اهميته بقوله :
( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (1) لان إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب تكون بمثابة احياء النفس وانقاذها من الهلاك المادي .
وانقاذ هؤلاء المستضعفين يكون بعدة اسباب ووسائل وهي تختلف من شخص لآخر كما سيتضح ذلك .
من هذه الوسائل توفير المساعدة له عن طريق القرض الحسن وذلك اذا كانت حاجته الى المساعدة حالة استثنائية طارئة لبعض الطوارىء وكان قادرا على تسديد الاقساط في اوقاتها وقد حث الاسلام كتابا وسنة وسيرة على القيام بهذه الخدمة الانسانية ورتب عليها الثواب العظيم والاجر الجسيم .
قال سبحانه : ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم اجرٌ كريم ) (2) .
____________
(1) سورة المائدة ، الآية : 32 .
(2) سورة الحديد ، الآية : 18 .


( 220 )


وقال تعالى : ( إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ) (1) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « إن الدرهم منه اي من القرض بثمانية عشر درهما والصدقة بعشرة وذلك ان القرض لا يكون الا لمحتاج والصدقة ربما وقعت في يد غير محتاج » .

بيان أهمية القرض الحسن وثوابه العظيم :
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم ايضا قوله : « يكتب لصاحبه ـ اي القرض ثواب قيام الصلاة مع الملائكة حتى يأخذه » .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ومن اقرض اخاه المسلم كان له بكل درهم اقرضه وزن جبل اُحد حسنات فإن رفق به في طلبه يعدى به على الصراط كالبرق الخاطف اللامع بغير عقاب ولا عذاب » وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، في مقابل ذلك قوله : « ومن احتاج اليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل حرم الله عليه ريح الجنة » .
واطلاع المؤمن على اهمية القرض وما يترتب عليه من الثواب العظيم ـ كاف لان يندفع نحوه برغبة وتوجه ليتاجر به مع الله وينال بذلك الربح الكثير والاجر الجزيل ويؤكد ذلك عنده ما يترتب على تركه مع القدرة عليه ـ من الخسارة العظيمة الجسيمة بحرمانه من ريح الجنة ونعيمها الخالد ورضوان الله الاكبر .
وكما تترجح نصيحة الإخوان الموسرين بالاقدام على هذه التجارة الرابحة وهي القرض الحسن لاخوانهم المحتاجين كذلك تترجح النصيحة
____________
(1) سور التغابن ، الآية : 17 .