أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة الثانية عشر : دور الإيمان في سعادة الإنسان
 
 


الخطبة الثانية عشر : دور الإيمان في سعادة الإنسان

البريد الإلكتروني طباعة


الخطبة الثانية عشر (1)

دور الايمان في سعادة الإنسان

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته :
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (2) .
بين الله سبحانه بهذه السورة المختصرة لفظا والموسعة معنى ان طبيعي الإنسان واقع في الخسر المطلق المادي والمعنوي الفردي
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 27 ـ 12 ـ 1982 م .
(2) سورة العصر ، الآيات : 1 ، 2 ، 3 .


( 126 )


والاجتماعي الدنيوي والاخروي ولا يسلم من هذا الخسر ويربح السعادة في الدنيا والآخرة الا الاشخاص الذين تتوفر فيهم اربع صفات وهي اولا الايمان الصادق وثانيا العمل الصالح وثالثا التواصي بالحق ورابعا التواصي بالصبر ولا بد من الوقوف بتدبر وتأمل امام آيات هذه السورة المباركة وعباراتها الموحية لنستلهم منها الدروس السامية في العقيدة الراسخة والاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة .
فأقول : المراد بالإيمان الذي يثمر للإنسان ما دلت السورة عليه من العمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر هو العقيدة الراسخة التي يستلهمها الإنسان على ضوء ما اودع الله فيه من الفطرة السليمة والاستعداد لتحصيل الإيمان الجازم بأن لهذا الكون خالقا عظيما متصفا بكل الصفات الكمالية وانه وحده لا شريك له لاستحالة وجود الشريك لذاته المقدسة لمنافاته مع كماله المطلق وقدرته الشاملة وسلطانه الواسع الذي لا يحده معارض ولا يزاحمه طرف مقابل ومن المعلوم ان وجود الشريك المماثل له في ذلك يؤدي الى عكس ما وصفناه به من الكمال المطلق ولوازمه .
هذا كله من ناحية ذاتية ومن ناحية موضوعية خارجية نستفيد وحدانية الخالق لهذا الكون من وحدة النظام والتدبير المسيطر عليه بالارادة التكوينية ليسير على نهج واحد مستمر ومستقر بدون حصول اختلاف ولا اختلال في النظام العام وهذا يوحي على ضوء العقل السليم والوجدان المستقيم بوحدة الخالق المنظم اذ لو كان له شريك مماثل وطرف مقابل لما استقام هذا النظام العام واستمر على نسق واحد كما هو المعلوم بالوجدان الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه .
وقد نبه سبحانه على هذه الحقيقة الموضوعية الفطرية بقوله :


( 127 )


( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (1) .
وبذلك يجزم المؤمن بالاصل الاول من اصول الدين وهو التوحيد وكذلك يستوحي العقل ضرورة اتصافه سبحانه بالعدل باعتبار كونه من لوازم اتصافه بالكمال المطلق ومن المعلوم ان العدل من ابرز الصفات الكمالية وهذا هو مصدر الايمان بالاصل .
الثاني من اصول الدين وهو العدل . ومن الصفات الكمالية الحكمة ومعناها ان المتصف بها لا يصدر منه قولا بلا معنى جاد ولا عمل بلا غاية وهدف ـ واقواله كلها نور وحكمة لا يأتيها الباطل من اية جهة كما ان اعماله ومخلوقاته كانت لغاية وحكمة وهي خدمة الإنسان وقد صرح بذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم واجمعها الآيتان التاليتان :
الأولى قوله تعالى :
( ألم تروا ان الله سخر لكم ما في السموات وما في الارض ) (2) .
والثانية قوله سبحانه :
( وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعاً منهُ ) (3) .
كما خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له وصرح بذلك في قوله تعالى :
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (4) .
____________
(1) سورة الأنبياء ، الآية : 22 .
(2) سورة لقمان ، الآية : 20 .
(3) سورة الجاثية ، الآية : 13 .
(4) سورة الذاريات ، الآية : 56 .


( 128 )


والمراد بالعبادة التي جعلها الله سبحانه العلة الغائية لخلق الجن والإنس الخضوع المطلق لإرادته تعالى بكل عمل اختياري يصدر عن المكلف بإرادته وفق إرادة الله تعالى سواء كان هذا العمل باطنيا كالتفكر في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والتدبر في الآيات الكونية المنتشرة في صفحات الآفاق والانفس كما اراد تعالى من اجل ان يتوصل المتفكر المتدبر في هذه الآيات البينات ـ الى الإيمان بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله الانبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غدا يوم الجزاء .
ام كان هذا العمل الاختياري الخاضع لإرادة الله ظاهريا متمثلا بكل الافعال والتصرفات الخارجية التي يمارسها المكلف وفق ارادته تعالى وفي اطار شريعته ويراد بها في المقام ما يشمل التصرفات السلبية المتمثلة بترك المحرمات .
وعلى ضوء ما تقدم يعرف ان العبادة قسمان باطنية وظاهرية كما بينا وحيث ان العبادة الظاهرية تتحقق بامتثال الاحكام الشرعية الثابتة في الشريعة المقدسة وهي تابعة لما يوجد في متعلقاتها من المصالح والمفاسد كما هو مقتضى الحكمة الإلهية ـ وهي تختلف قوة وضعفا باختلاف مواردها وذلك هو سر اختلاف الاحكام التكليفية الناشئة منها وانقسامها الى خمسة اقسام .
وذلك لان المصلحة اذا كانت قوية بحيث لا يرضي المولى بتفويتها اقتضت الوجوب واذا كانت ضعيفة لا تمنع من الترك والتفويت اقتضت الاستحباب ـ وفي المقابل يقال ايضا في المفسدة الداعية للنهي اذا كانت قوية لا يسمح المولى بالوقوع فيها اقتضت التحريم واذا كانت ضعيفة لا تمنع من الفعل اقتضت الكراهة ـ واذا كانت صفحة العمل


( 129 )


خالية من المصلحة والمفسدة في علم الله سبحانه ففي هذا الفرض يحكم المولى بالاباحة بالمعنى الخاص وهي التي يتساوى الطرفان فيها ولا يترجح طرف الفعل على طرف الترك كما لا يترجح الثاني على الاول .
وحيث ان المكلف لا يعرف بعقله القاصر اصل وجود الملاك (1) المقتضي للحكم كما لا يعرف درجته من حيث القوة والضعف فلا يستطيع تشخيص وظيفته الشرعية ليعرف نوع العبادة المطلوبة منه في كل مورد وهل هي الفعل الزاما او مع الترخيص بالترك او هي الترك الزاما او مع الترخيص بالفعل او هي التخيير بين الفعل والترك بدون ترجيح لأحدهما على الآخر .
لذلك : كان المتعين بحكم العقل ـ في حق الله سبحانه ان يبعث لكل امة رسولا ويبعث لهم معه رسالة تشرح لهم الوظيفة العملية المطلوبة من المكلف في كل مورد ليعرف نوع العبادة الثابتة في حقه ويأتي بها على الوجه المطلوب منه .
وهذا هو الدليل العقلي السليم على ضرورة ان يرسل الله الانبياء مبشرين ومنذرين وبذلك يثبت الاصل .
الثالث من اصول الدين وهو النبوة وقد ادى الله سبحانه هذه المهمة الإلهية حيث ارسل اربعة وعشرين الف نبي اولهم آدم وآخرهم افضلهم نبينا محمد بن عبد الله عليه وعليهم افضل التحية والتسليم .
وبنفس الدليل العقلي المذكور يبرهن على ضرورة ان يعين الله الخلفاء لرسوله لانه اعلم حيث يجعل رسالته وبه يثبت الاصل .
الرابع من اصول الدين وهو الإمامة .
____________
(1) المراد بالملاك سبب تشريع الحكم وهو المصلحة او المفسدة .


( 130 )


واما الخامس وهو المعاد : فالايمان به من لوازم الايمان بعدل الله ( الاصل الثاني ) كما هو واضح وقد شرح مفصلا في محله من كتب العقائد الإسلامية .
فالإنسان اذا حصل الإيمان الصادق المتمثل بالاعتقاد بأصول الدين المذكورة وعمل بمقتضاها بفعل ما أمره الله به وحصل مصلحته مع ترك ما نهاه عنه ليسلم من مفسدته ـ وبذلك الفعل وهذا الترك يتجمل بالفضيلة ويتجنب الرذيلة .
أجل : اذا حصل الإنسان الإيمان الصادق وترجمه على الصعيد الخارجي بالتقوى والعمل الصالح يتوفق بذلك لنيل السعادة والسلامة من الخسارة في الدنيا والآخر .
وقد نص الله سبحانه على ذلك بقوله : ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض .
وقد تقدم شرحها مفصلا في الخطبة الرابعة صفحة 22 .
هذا حاصل ما ينبغي ان يذكر في المقام من وحي الصفتين الاوليين (1) من الصفات الاربع المساهمة في سلامة الإنسان المؤمن من الخسارة الشاملة وظفره بربح السعادة الكاملة .
وبقي عليَّ ان اتابع الحديث حول الصفتين الاخريين وهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر ليعرف الوجه في ترتب السلامة من الخسر عليهما وربح السعادة بواسطتهما فأقول :
حيث ان الفرد يشكل اللبنة في بناء صرح المجتمع وخصوصا
____________
(1) وهما صفتا الإيمان الصادق والعمل الصالح .


( 131 )


المجتمع الإسلامي الذي بناه الإسلام على اساس المحبة والتضامن ليصبح بمنزلة الجسد الواحد الذي اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما هو مضمون الحديث الشريف لذلك لا يحصل لهذا الفرد ما اراد الله سبحانه حصوله له من السلامة من الخسر الشامل مع الظفر بالربح الكامل الا اذا اشاع بين افراد المجتمع ـ الحق في العقيدة والشريعة والسلوك والممارسة على تفصيل مضى في بعض الخطب السابقة .
وهذا يتوقف على ان يقوم الشخص اولا بوظيفته الفردية الواجبة عليه في حق نفسه بأن ينور عقله بالعلم والعرفان وقلبه بالعقيدة الصادقة ويجمل شخصه ويزكي نفسه بترجمة عقيدته هذه على الصعيد الخارجي بالتقوى والعمل الصالح ثم يقوم بعد ذلك بالوظيفة الاجتماعية المطلوبة منه نحو افراد مجتمعه بأن يوصيهم بالحق في مجالاته الثلاثة المذكورة بعد ان قام بوظيفته في حق نفسه .
وحيث ان إيمانه الصادق هو الذي يدفعه للقيام بوظيفته الاجتماعية المذكورة يعرف بذلك الوجه في ترتب هذه الوظيفة على الإيمان ويأتي الحديث النبوي المشهور القائل لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه مؤكداً لذلك وقريب منه الحديث الآخر المشهور القائل :
من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم .
وهناك آيات كثيرة تشير الى هذا المضمون منها قوله تعالى :
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (1) .
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 71 .


( 132 )


وقوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تهتدون ) (1) .
وحيث ان الالتزام بالحق عقيدة ونظاما وسلوكا وعدم الانحراف عن خطه القويم وصراطه المستقيم رغم الصعوبات والضغوطات التي يتعرض لها المؤمن الملتزم ، صعب جدا فلا بد له من التجمل بالصبر والثبات على صعيد المبدأ لينال الغاية المنشودة والسعادة الخالدة المترتبة على الصبر الذي هو مفتاح الفرج واساس النجاح في كل الاهداف الحياتية والاخروية .
وبعد تجمل الفرد بهذه الصفة الجميلة النبيلة يطلب منه ان يوصي غيره بها ليصبح المجتمع بتعاونه وثباته صفا واحدا منطلقا بقوة وصلابة نحو اهدافه وتطلعاته النافعة للمخلوق والمشروعة من قبل الخالق .
ويأتي صبر الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه على ما تعرضوا له من الإيذاء والمعاناة في مطلع فجر الدعوة المباركة في مكة المكرمة مع صبرهم على خوض معارك الشرف والجهاد المقدس من اجل الدفاع عن المبدأ الحق في المدينة المنورة بعد الهجرة المظفرة .
أجل : يأتي هذا الصبر الجميل ليكون شاهدا صادقا على واقعية وفاعلية القيام بالوظيفة الاجتماعية بعد تأدية الوظيفة الفردية حيث كان لتجمل كل فرد من المهاجرين والانصار بالالتزام بالحق عقيدة وشريعة وسلوكا مع تضامنهم وتعاونهم على البر والتقوى وتواصيهم بالحق والصبر ـ أبلغ الاثر في قوة المجتمع الإسلامي وقدرته على التصدي لكل
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 103 .


( 133 )


الهجمات الظالمة من قبل اعدائهم .
وتأتي قوة الإيمان بالله سبحانه والثقة بنصره لعباده المؤمنين المجاهدين في سبيله والمتوكلين عليه لتعلب دورا بارزا في دعم الصف الإسلامي ونصره على خصومه قال سبحانه :
( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) (1) .
وقال تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (2) .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولاً وآخراً ورحمة الله .
____________
(1) سورة الروم ، الآية : 47 .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 3 .


( 134 )


الخطبة الثالثة عشر (1)

الصبر وأسبابه وأقسامه وفوائده

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجُوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون ) (2) .
وقال سبحانه : ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) (3) .
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 27 ـ 12 ـ 1982 م .
(2) سورة البقرة ، الآيات : 155 ، 156 ، 157 .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 46 .


( 135 )


وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « الصبر نصف الإيمان » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الصبر كنز من كنوز الجنة » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولاجسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له » ونقل عن الإمام علي عليه السلام حديث بهذا المضمون .
صدق الله العلي العظيم ورسوله الكريم وأهل بيته الطيبون الطاهرون .
ليس غريبا ان يرد في الإسلام كتابا وسنة ـ مدح للصبر والصابرين بهذا الاسلوب اللافت الى اهميته وسمو درجته لانه ارفع وانفع صفة يتجمل بها الإنسان المسلم في هذه الحياة ويعرف دوره في تربية النفس والسمو بها الى اعلى مراتب الفضل والكمال من تعريفه بأنه عبارة عن الملكة الراسخة والقوة الإرادية الثابتة التي تساعد على ضبط النفس وحفظ توازنها واستقامتها في المنهج الحق عقيدة وشريعة وعملا وعدم الانحراف عنه تحت تأثير أي عامل ذاتي داخلي او موضوعي خارجي .
وذلك لان الحياة ميدان صراع وجهاد في سبيل تحقيق الاهداف والتطلعات المرغوبة ودفع او اتقاء الاضرار المرهوبة كما قال ذلك الشاعر :

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً * إن الحياة عقيدة وجهاد


ولذلك كان لا بد للإنسان الرسالي المجاهد فيها من ارتداء ثوب الصبر والتجمل به ليكون السلاح الذي يدافع به ويدفع عنه كل الحوادث التي تعترض سبيل تقدمه ونجاحه في حياته كما يكون الدرع الذي يتلقى به الصدمات الطارئة والضربات المؤلمة ويتابع مسيرته الجهادية بثبات وعزيمة حتى يدرك هدفه المرسوم المشروع او يسقط شهيدا في ساحة


( 136 )


النضال من اجله وهذا ما اعلن عنه سيد المرسلين وقدوة المجاهدين الصابرين نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عنه من قوله :
« والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على ان اترك هذا الامر لما تركته حتى يظهره الله او اهلك دونه » .

أقسام الصبر ومراتبه :
وقد بين الله سبحانه دور الصبر والتقوى في انتزاع النصر على الاعداء في معركة الجهاد والتحدي بقوله تعالى .
( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الآف من الملائكة مسومين ) (1) .
كما بين أثره البالغ في الآخرة وان الله سبحانه يضاعف لهم اجرهم هناك حيث قال :
( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون ) (2) .
وقال تعالى : ( أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) (3) .
وقال أيضاً : ( إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) (4) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « في الصبر على ما تكره خير كثير » .
وروي ان المسيح قال للحواريين إنكم لا تدركون ما تحبون الا
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 125 .
(2) سورة النحل ، الآية : 96 .
(3) سورة القصص ، الآية : 54 .
(4) سورة الزمر ، الآية : 10 .


( 137 )


بالصبر على ما تكرهون .
هذا وقد قسم الصبر عدة تقسيمات بعدة اعتبارات .
الأول : تقسيمه بلحاظ نفسه الى قسمين :
أ ـ الممدوح وهو الذي ورد مدحه ومدح الصابرين المتجملين به في الكثير من الآيات والروايات وقد مر بعضها .
ب ـ المذموم وهو الصبر على الضيم والرضا بالذل والهوان مع القدرة على رفعه والصبر على المرض والمه مع التمكن من علاجه والصبر على الفقر والاحتياج للآخرين مع التمكن من إزالته بالكد والعمل وقد قال بعضهم في ذم الصابرين على الضيم مع تمكنهم من دفعه :


ولا يقيم على ضيم يراد بــه * إلا الأذلال عيُر الحي والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يرثي له أحـدُ


الثاني : تقسيمه بلحاظ مرتبته ودرجته في الفضل الى ثلاثة اقسام :
أ ـ منها يراد به معنى سلبي وهو عدم اظهار الجزع والضجر من المصيبة .
ب ـ يراد به معنى إيجابي وهو الرضا بما حصل من فقد محبوب او وقوع مكروه وهذا افضل من الاول وارقى درجة كما هو واضح .
جـ ـ الميل النفسي لما حصل من ذلك والرغبة فيه لما يترتب عليه من الاجر العظيم والثواب الجزيل وهذا افضل من الثاني وهو صبر الانبياء والاوصياء والتابعين لهم بإحسان من الاولياء والمؤمنين الاصفياء ويأتي صبر ايوب ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام من بين الانبياء وصبر الحسين عليه السلام من بين الاوصياء ليكون المثل الاعلى والنموذج


( 138 )


الامثل للصبر العظيم على الخطب العظيم والبلاء الجسيم وقد اقتدت به اخته بطلة كربلاء زينب الجلد والتحمل ـ في الصبر على الشدائد والثبات في المواقف الصعبة وكلاهما ـ أعني الحسين وشقيقته البطلة سلام الله عليهما ورثا ذلك من ابويهما مع ما ورثاه منهما من انواع الفضائل والكمالات والى ذلك اشار الشاعر بقوله في حقها :

بأبي التي ورثت مصائب أمها * فغدت تقابلها بصبر أبيها


وهناك تقسيم ثالث للصبر بلحاظ ما يتعلق به ـ الى ثلاثة اقسام :
الأول ـ الصبر على الطاعة .
الثاني ـ الصبر عن المعصية .
الثالث ـ الصبر على المكروه وذلك لان الالتزام بفعل الواجب وترك الحرام بالسير في خط التقوى المستقيم رغم تعرض المكلف الملتزم لكثير من الضغوطات والاغراءات التي تقتضي بطبعها الانحراف عن خط الاستقامة اذا تجرد عن ملكة الصبر وقوة الارادة .
أجل : إن الثبات على نهج الاستقامة رغم وجود ما يدعو الى الانحراف عنه من العوامل الضاغطة ، يعتبر من اصعب الامور التي لا يتحملها الا المؤمن المتمسك بعروة الصبر الوثقى ـ وحيث اني عطفت ترك الحرام وهو مورد الصبر عن المعصية على فعل الواجب وهو مورد الصبر على الطاعة يكون الحديث قد شمل كلا القسمين الاولين وبقي القسم الثالث وهو الصبر على المكروه وهو قريب من سابقيه وقد يكون اشد صعوبة في بعض الموارد التي تعظم فيها المصيبة ويشتد المكروه .


( 139 )


مدى ارتباط الصبر بالإيمان :
وبقليل من التأمل ندرك مدى ارتباط الصبر بالايمان وتفرعه عنه وتبعيته له بالقوة والضعف وذلك لان إيمان المؤمن بترتب الثواب العظيم والاجر الجسيم على إتيانه بالواجبات مضافا الى ما يستفيده من فعلها في هذه الحياة يدفعه الى الاتيان بها بقوة صبر ورحابة صدر مهما كانت تكلفه من المشقة والمعاناة كالصوم في ايام الحر الشديد والاتيان بمناسك الحج في الجو الحار ومع الازدحام المجهد وخصوصا وقت الرمي والطواف .
واوضح من ذلك القيام بواجب الجهاد المقدس ومحاربة الاعداء وخصوصا في هذه الايام التي تعاون فيها اعداء الاسلام والمسلمين على الإثم والعدوان لمحاربتهم بشتى الاساليب ومختلف الوسائل الكثيرة والمتطورة ورغم ذلك كله فإن المؤمنين المخلصين يثبتون في ساحة الجهاد الاكبر والاصغر مترقبين ادراك الثواب العظيم على صبرهم وتحملهم الصعوبات الناشئة من التزامهم بواجب الاطاعة وترك المعصية كما يترقبون احدى الحسنيين حال تأديتهم فريضة الجهاد المقدس النصر او الشهاده .
وكذلك : إيمان المؤمن الملتزم بترك المعصية والانحراف عن خط العبودية واعتقاده بما سيناله من الثواب الجزيل يوم الجزاء مضافا الى ما يترتب على ترك المعصية من السلامة والخلاص من أثارها السلبية في هذه الحياة .
أجل : إن إيمان المؤمن بذلك كله يخفف عنه صعوبة الالتزام بترك


( 140 )


المعصية كما ان إيمانه بنيل الاجر العظيم بصبره على البلاء ورضاه بالقدر والقضاء يسهل عليه امر الصبر عليه (1) وتحمل نتائجه الصعبة ـ كما يصبر المريض على تجرع الدواء المر وعلى الم العملية الجراحية لثقته بالطبيب واخلاصه له وانه لم يصف له هذا الدواء او تلك العملية الا لينقله بمرارة الدواء الى حلاوة الشفاء ومن الالم القليل الى الشفاء الطويل .

أسباب الصبر المؤدية له :
وبذلك يتضح مدى تأثير الايمان في الصبر بكل اقسامه ولذلك عبر عنه بأنه من الصبر بمنزلة الرأس من الجسد كما تقدم .
وقد ذكروا أمورا اخرى مساعدة على التجمل بفضيلة الصبر وهي كثيرة اهمها ما يلي :
الأول : التفكر في النتائج الايجابية الحميدة المترتبة على الصبر في هذه الحياة مضافا الى ما يناله غدا يوم القيامة من الثواب العظيم والاجر الجسيم .
الثاني : التأمل في الاثار السلبية المترتبة على الجزع في الحاضر مضافا الى ما قد يترتب عليه من الإثم واستحقاق العقوبة اذا كان متضمنا الاعتراض على قضاء الله وعدم الرضا بقدره .
الثالث : ملاحظة ان الابتلاء بالمصائب في هذه الحياة امر عام لا يسلم منه إنسان كما قال الشاعر في شأن الدنيا :


طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الاقذاء والاقذار
ومكلف الايـام ضد طـباعها * متطلب في الماء جذوة نار


____________
(1) أي على البلاء .


( 141 )


الرابع : الالتفات الى ان دار الدنيا هي دار ابتلاء وامتحان لتظهر به حقيقة الايمان ويتميز الحقيقي منه عن السطحي الذي لا يثبت امام النوائب قال سبحانه :
( الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن اللهُ الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (1) .
الخامس : توقع حصول الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر كما يوحي بذلك قوله تعالى : ( فإن مع العسر يُسراً * إن مع العسر يسراً ) (2) .
حيث اقتضت الرحمة الإلهية والحكمة السماوية ان لا تستقر المصيبة وتستمر الشدة بدون حد تقف عنده في الغالب وتفضل الله سبحانه على ايوب بالفرج بعد الشدة والشفاء بعد العلة والرخاء بعد الشقاء يقوي الثقة بتبدل الوضع من الصعب الى السهل وخصوصا اذا حصل التوكل على الله سبحانه والتضرع اليه بالدعاء والانقطاع قال سبحانه :
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (3) .
وقال تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) (4) .
ويقوى الامل بالفرج بعد الشدة اذا اقترن الدعاء والتوكل بالتصدق لما هو المشهور من ان الصدقة تدفع البلاء وقد أبرم إبراما كما تقدم .
____________
(1) سورة العنكبوت ، الآيات : 1 ، 2 ، 3 .
(2) سورة الشرح ، الآيتان : 5 ، 6 .
(3) سورة الطلاق ، الآية : 3 .
(4) سورة غافر ، الآية : 60 .


( 142 )


السادس : التأسي والاقتداء بالعظماء الذين تلقوا المصائب بالتصبر والاحتساب وفي طليعتهم من ذكرنا منهم سابقا وهم النبي أيوب ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والامام علي وابنه الحسين سيد الشهداء ومن النساء بطلة كربلاء بنت سيد الاوصياء وأمها سيدة النساء الزهراء البتول عليهم السلام .
السابع : ملاحظة عدم ترتب اي اثر ايجابي على الحزن والانفعال لوقوع المصيبة وربما ادى الانسياق مع العاطفة واستمرار التفكير فيها الى زيادتها والحرمان من ثواب الصبر عليها واذا تحول الوضع الانفعالي الى الجزع والاعتراض على الله سبحانه ادى ذلك الى استحقاق العقاب مع الحرمان من الثواب وقد اشرت الى مضمون هذا الحديث الاخير بالابيات التالية التي نظمتها في النجف الاشرف في الستينات .

أبيات من وحي الحكمة لها علاقة بالصبر :


لا يدفع الحزن ما يجري به القدر * ولا يصونك من سلطانه الحذر
عمت حوادثه الآفاق وانتشـرت * فكل حي لما يمضيه مــنتظر
فلا الغني بما يحــويه مـنتفع * ولا القوي على الايام مقتــدر
ولا النسيب تذود الموت نـسبته * للماجدين ولا يثنيه مفتـخــر
ولا العليم يصد العلم نكبتـــه * بالحادثات اذا حلت بـه الغـير
وكل مجد سوى مجد العلى كذب * وكل جاه سوى جاه السما صور
وكل فعل سوى فعل التقى عبث * وكل قول سوى قول الهدى هذر
وكل حي وإن طالت سلامــته * فسائق الموت لا يبقي ولا يـذر

 


( 143 )

 

فينطوي الناس لا الاولاد تحفظهم * من الفناء ولا اموالهم تفر (1)
كذلك المرء أمـال تبــــددها * يد المــنية أشلاء فينــدثر
إلا التقي الذي أضـحى بفـطنته * من الشريعة يستوحي ويـعتبر
فهو المـقيم ولا تفـنى مــآثره * مهما تعاقبت الاجيال والعصـر


وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الاخوان الاعزاء ورحمة الله .
____________
(1) تفر بالفاء بعد التاء معناها تصون وتحفظ .


( 144 )


الخطبة الرابعة عشر (1)

حول صفة الكرم والسخاء

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء ورحمة الله وبركاته وبعد :
إن موضوع حديثنا اليوم هو صفة الكرم النبيلة ولهذه الصفة سببها المؤدي اليها وفائدتها المترتبة عليها وحيث انها تحتل المنزلة العالية بين صفات المؤمنين ـ كانت الصفة المشرقة والسمة البارزة في حياة اهل البيت عليهم السلام ابتداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاء بالمهدي ( عج ) . أما سبب هذه الصفة فهو الايمان بالله سبحانه باعتبار انه يمثل الشجرة المباركة التي تغرس في حقل النفس وتروى بماء المعرفة
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة في 6 ـ 2 ـ 1987 م .


( 145 )


الصحيحة وتنمى بغذاء التربية الصالحة .
ولهذه الشجرة ثمرات كثيرة طيبة وهي كل الاعمال الصالحة والصفات النبيلة والمكارم السامية كالشجاعة والكرم والحلم والصبر ونحوها .
أما إنتاج شجرة الايمان لثمرة الكرم فالوجه فيه هو ان المؤمن يعتقد ان كل ما ينفقه من مال او علم او جاه في سبيل الله فإن الله سبحانه يزيد منه في الدنيا لقوله تعالى :
( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (1) مضافا الى الجزاء الاخروي .
والمراد بالشكر المؤدي لزيادة النعمة هو الشكر العملي المتمثل بصرفها في سبيل مرضاته تعالى ونفع خلقه لانهم عياله واحب خلقه اليه انفعهم لعياله فشكر نعمة العلم يكون بتعليم الجاهلين وارشاد الضالين والاصلاح بين المتخاصمين وهكذا .
وشكر نعمة الجاه يكون بالتصدي لقضاء حوائج الآخرين بجلب النفع لهم ودفع المكروه عنهم ـ وشكر نعمة المال يكون ببذله في سبيل تأدية الواجب كإخراج الحق الشرعي المتعلق به والقيام بالنفقة الواجبة عليه لنفسه ولمن تجب نفقته عليه كأبويه وزوجته واولاده او في سبيل تأدية المستحب وهو كل ما عدا الواجب من الصدقات المقربة من الله سبحانه والنافعة للمجتمع .
ولا يراد بالشكر مجرد الشكر القولي المتمثل بحمد الله سبحانه والثناء عليه لتفضله وإحسانه بالنعمة لأن هذا النوع من الشكر وإن كان افضل من العدم ولكنه لا يكون غالباً مصدرا لزيادة النعمة التي وعد الله
____________
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 7 .


( 146 )


بها عباده الشاكرين ويؤكد ذلك قوله تعالى : ( اعملوا آل داود شكراً ) (1) .

دور الشكر العملي في زيادة النعمة ودوامها :
فالمؤمن حيث يعتقد بمكأفاة الله له على صرف نعمته في سبيل إطاعته ـ بزيادتها له ودوامها عنده مع دفع البلاء عنه في هذه الدنيا مضافا الى ما سيجازيه به غدا يوم القيامة من النعيم الخالد والسعادة الابدية .
أجل : إن المؤمن حيث انه يعتقد بحصول عملية التعويض هذه المعجلة والمؤجلة فهو يقدم على البذل بكرم وسخاء بدون اي تردد وهذا معنى قول الإمام علي عليه السلام : ( من أيقن بالخلف جاد بالعطية ) .
ومن فوائد الكرم المعجلة حصول المحبة والتقدير للكريم الباذل من قبل من يحسن اليهم ويتفضل بجوده وعطائه عليهم من افراد اسرته وابناء عشيرته وسائر افراد المجتمع ويترتب على فائدة هذه المحبة وذلك التقدير منفعة اخرى وهي مقابلته بالمثل عندما يتبدل يسره بالعسر وغناه بالفقر كما هو طبع الدهر ـ فيقدمون له المساعدة وقت عسره كما قدم لهم ذلك يوم يسره وعسرهم انطلاقا من قوله تعالى :
( هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسانُ ) (2) .
وقال الشاعر مشيرا الى هذا المضمون :

أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانُ


وحصول المفاجآت السلبية وان كان متوقعا في كل مكان وزمان الا
____________
(1) سورة سبأ ، الآية : 13 .
(2) سورة الرحمن ، الآية : 60 .


( 147 )


ان عدم استقرار الوضع الامني والاقتصادي في هذا البلد يجعل احتمال حصولها اقوى وهذا يقتضي قوة اهتمام بعضهم ببعض وخصوصا المؤمنين منهم ليحصلوا بذلك فائدة هذا الاهتمام معجلا في هذه الدنيا ومؤجلا هناك :
( يوم لاينفع مالُ ولابنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) (1) .

مدح الجود والسخاء وذم البخل والبخلاء :
وحيث ان صفة الكرم اجمل وانبل الصفات الانسانية التي ترفع وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة فقد ورد مدحها والثناء على المتصف بها في العديد من الآيات الكريمة والروايات المباركة .
من الآيات قوله تعالى :
( ومن يُوق شُح نفسه فأُولئك هم المفلحون ) (2) .
ومن الروايات ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : « السخاء شجرة من شجر الجنة متدلية الى الارض من اخذ منها غصنا قاده ذلك الغصن الى الجنة » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما جبل الله أولياءه الا على الكرم وحسن الخلق » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار ـ والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد عن الجنة قريب من النار » .
وحيث ان البخل ضد الكرم فقد ورد ذمه وذم المتصفين به في العديد من الآيات والروايات ـ من الاول قوله تعالى :
____________
(1) سورة الشعراء ، الآيتان : 88 ـ 89 .
(2) سورة الحشر ، الآية : 9 .


( 148 )


( ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ اتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون مابخلوا به يوم القيامة ) (1) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « إياكم والشح انه اهلك من كان قبلكم حملهم على ان يسفكوا دماءهم ويستحلوا محارمهم » .
وقد ذكرت في بداية الحديث ان اهل البيت عليهم السلام كانوا مجلين في ميدان الكرم والسخاء وان هذه الصفة كانت السمة البارزة في حياتهم ولذلك يكون حثهم على الكرم ونهيهم عن البخل ـ قوي التأثير بسبب اقترانه بالعمل والتطبيق وقد اشتهر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ونفس الشيء يقال في حق الإمام علي عليه السلام لانه نفسه بنص آية المباهلة ولذلك كان متجملا بكل الصفات الحميدة التي كان الرسول متجملا بها وكذلك ابناؤه كان كل واحد منهم المثل الاعلى والقدوة المثلى في كل الصفات الكمالية وخصوصا صفة الكرم ـ ويؤكد ذلك ما روي عن الإمام الحسن عليه السلام من انه جاءه اعرابي ليسأله فقال عليه السلام اعطوه ما في الخزانة وكان بقدر عشرين الف درهم فدفعت له فقال : يا مولاي الا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي فأجابه الامام عليه السلام بقوله :


نحن أناس نوالنا خضل * يرتع فيه الرجاء والامـــل
تجود قبل السؤال انفسنا * حرصا على ماء وجه من يسل


ما ورد في كرم الإمام الحسن عليه السلام :
وقال أنس بن مالك : حيت الحسن جاريته بطاقة ريحان فقال لها : أنت حرة لوجه الله فقلت له : حيتك جاريتك بطاقة ريحان فأعتقتها ؟
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 180 .


( 149 )


فقال عليه السلام هكذا أدبنا ربنا اذ قال تعالى :
( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) (1) . وكان أحسن منها عتقها .
وروي عنه قوله عليه السلام :


إن السخاء على العباد فريضة * لله تقرأُ في كتاب مـحكم
وعد العباد الاسخياء جنــانه * وأعد للبخلاء نار جهنـم
من كان لا تندى يـداه بنـائل * للراغبين فليس ذاك بمسلم


وروي عنه ايضا انه اشترى بستانا من قوم من الانصار بأربعمائة الف درهم ثم بلغه انهم احتاجوا الى ما في ايدي الناس فرده عليهم .
كما روي عنه انه سمع رجلا يسأل الله ان يرزقه عشرة آلاف درهم فانصرف عليه السلام الى منزله وبعث بها اليه .

ما ورد في كرم الإمام الحسين عليه السلام :
ورويت القصة التالية في كرم الإمام الحسين عليه السلام وحاصلها انه وفد اعرابي الى المدينة فسأل عن اكرم الناس فيها فدل على الإمام الحسين عليه السلام وعندما وصل الى منزله وجده قائما يصلي فقام بإزائه وانشأ يقول :


لم يخب الان من رجاك ومن * حرك من دون بابك الحلقة
أنت جــواد وأنت معتمـد * أبوك قد كان قاتل الفسـقة
لولا الذي كان من أوائلكم * أمست علينا الجحيم منطبقة


____________
(1) سورة النساء ، الآية : 86 .


( 150 )


فسلم الحسين عليه السلام وقال يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء ؟ .
قال نعم أربعة آلاف دينار فقال هاتها فقد جاء من هو احق بها منا ثم نزع برده ولف الدنانير بها واخرج يده من شق الباب حياء من الاعرابي وانشأ يقول :


خـــذها فـإنـي إليـك معتذر * واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا (1) الغداة عصا * كانت سمانا عليك منـدفقة
لكن ريب الزمـان ذو غـــير * والكف مني قليلة النفــقة


فأخذها الاعرابي وبكى فقال له الحسين عليه السلام : لعلك استقللت ما اعطيناك ؟ قال : لا ولكن كيف يأكل التراب جودك ؟ .

أهل البيت هم القدوة المثلى في الكرم وغيره :
والبذل العظيم والسخاء المثالي الجسيم الذي قدمه الإمام الحسين عليه السلام ، على صعيد التضحية والفداء في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه هو جوده بنفسه النفيسة واولاده الاحباء واخوانه الاعزاء واصحابه الاوفياء حتى اصبح مضرب المثل والقدوة المثلى في هذا المجال ومصداقا لقول الشاعر :

يجود بالنفس إن ضن الجبان بها * والجود بالنفس اقصى غاية الجود


وما ذكرته ونسبته اليه والى البعض الآخر من أهل البيت عليهم السلام يعتبر لمحة خاطفة ونفحة عاطرة من نفحات الكرم والعطاء الذي تجمل
____________
(1) السير من الجلد ونحوه ـ ما يقد منه مستطيلا ( من المعجم الوسيط ج 1 ص 467 ) .


( 151 )


به أهل بيت العصمة وما ينسب الى بعضهم من الصفات الكمالية يوجد في الباقين منهم لانهم كلهم نور واحد ولان مصدر صفاتهم النبيلة مشترك بينهم وهو الذوبان في حب الله سبحانه وارادته وذلك يؤدي بطبعه الى الذوبان في دينه وشريعته بحيث يصبح كل واحد منهم قرآناً ناطقا وإسلاما عمليا متحركا .
ونحن عندما ننسب هذه الفضائل السامية اليهم ونتحدث بها عنهم لا نقصد بذلك مجرد التبرك كما لا نقصد ابداء الاعتزاز والافتخار بأن أئمتنا الذين نواليهم وننتمي اليهم ـ قد بلغوا القمة في الكمال والفضيلة .
أجل : إن التحدث عن هؤلاء العظماء لا ينبغي ان يكون بدافع من هذه الدوافع الذاتية العاطفية بل ينبغي ان يكون بقصد التنبه والتنبيه على ما تجملوا به من الصفات الحميدة والاخلاق المجيدة من اجل ان نقتدي بهم ونترسم خطاهم بالايمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل وبذلك نحقق ما امرنا الله به من مودتهم على لسان رسوله الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى : ( قل لا اسألكم عليه اجراً إلا المودة في القربى ) (1) .
كما نمتثل أمره سبحانه لنا باطاعتهم بقوله :
( يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ) (2) .
ومن المعلوم من حكمته تعالى ورحمته انه لم يأمرنا بمودتهم وباطاعتهم الا باعتبار رجوع ذلك الى اطاعته وعبادته وحده لا شريك له وقد ذكرت اكثر من مرة وفي اكثر من حديث ان الله سبحانه لم يخلقنا ويأمرنا بالعبادة الا من اجل ان نتوصل بها الى الكمال والسعادة وقد
____________
(1) سورة الشورى ، الآية : 23 .
(2) سورة النساء ، الآية : 59 .


( 152 )


شرحت ذلك بصورة مفصلة في بعض الخطب السابقة .
ويسرني ان اذكر في ختام هذا الحديث خلاصته فأقول :
حيث ان الله سبحانه اوجدنا في هذه الدنيا من اجل ان نزرع في حقلها التقوى والعمل الصالح وننال بذلك ما نحتاج اليه فيها من الامور التي يتوقف عليها نظام حياتنا ومعاشنا كما ننال بعد ذلك النعيم الخالد والسعادة الابدية في جوار الله سبحانه بعد مغادرة هذه الحياة .
أجل : حيث ان الله سبحانه برحمته وحكمته اراد لنا ذلك فقد امرنا بتوفير ما يوصل اليه من الايمان الصادق والعمل الصالح ومن الواضح ان اطاعته سبحانه غير مقصورة على امتثال الاحكام الالزامية ـ وهي الواجبات والمحرمات ـ بل تشمل المستحب مع الواجب والمكروه مع الحرام ـ ومن المعلوم ان الانسان المؤمن الملتزم بخط السماء بإيمانه الصادق وخلقه الفاضل وعمله الصالح يحقق بذلك ما اراد الله سبحانه له ان يصل اليه ويحصل عليه من السعادة والرفعة في الدنيا والآخرة .
وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله تعالى :
( ولو ان أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (1) .

بالإيمان الصادق والخلق الفاضل والعمل الصالح
تنال السعادة في الدنيا والآخرة :

ومن الواضح لدى المؤمن الرسالي ان كل ما ينفعه ويرفعه من
____________
(1) سورة الأعراف ، الآية : 96 .


( 153 )


الاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة ـ في هذه الحياة ـ يمضي معه لينفعه ويرفعه هناك في دار الخلود وان كل ما يضره ويخفض مقامه هنا من الاعمال المنحرفة عن خط السماء والصفات الذميمة يضره هناك ايضا وقد صرح الله سبحانه بذلك بقوله تعالى :
( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ ) (1) .
وقوله تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أُولئك هم شر البرية * إن الذين امنوا وعملوا الصالحات أُولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبداً رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربهُ ) (2) .
وقد صرح الله سبحانه بالمضمون الاخير في سورة العصر ومنها استوحيت الابيات التالية وقد مر ذكرها في بعض الخطب السابقة وهي :


والعصر إن المرء في خســران * وشقاوة ومـذلة وهــوان
إلا الألى عـرفوا الإله وطبـقوا * نهج الهدى وشريعة الـقرآن
وغداً يوصي بعضهم بعضا هنـا * بالحق والصبر الجميل الباني


والسلام عليكم أيها الإخوان الاعزاء والابناء الاحباء اولا وآخراً ورحمة الله وبركاته .
____________
(1) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 ـ 8 .
(2) سورة البينة ، الآيات : 6 ، 7 ، 8 .