أنت هنا: الرئيسية المكتبة الاسلامية من وحي الاسلام ـ الجزء الأول الخطبة السادسة : دور الزكاة والاحسان في سعادة الإنسان
 
 


الخطبة السادسة : دور الزكاة والاحسان في سعادة الإنسان

البريد الإلكتروني طباعة


الخطبة السادسة (1)

دور الزكاة والاحسان في سعادة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


الصلاة والسلام على أشرف الانبياء وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آل الطاهرين وصحبه المنتجبين .
وبعد : قال الله سبحانه في محكم كتابه المجيد : ( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) (2) .
قال تعالى : ( ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) (3).
وقال سبحانه في مقام مدح المتقين ووصفهم بأنهم :
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) في 22 ـ 9 ـ 1995 م .
(2) سورة البقرة ، الآية : 43 .
(3) سورة البينة ، الآية : 5 .


( 68 )


( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (1) .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله عندما سأله رجل عن عمل يدخله الجنة : تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان .
والحديث حول موضوع الزكاة سيكون من جهتين :
الجهة الاولى : أبين فيها الوجه في قرن الزكاة بالصلاة وعطفها عليها في الكثير من الآيات والعديد من الروايات .
الجهة الثانية : أبين فيها الفوائد العديدة المترتبة على تأدية هذه الفريضة اي فريضة الزكاة مع الإشارة الى ما يترتب على التصدق والانفاق بوجه عام ـ من المنافع الجسيمة والفوائد الكثيرة من عدة جهات وفي مختلف المجالات .
وحاصل ما اريد ذكره في المقام وجها لذكر الزكاة مقترنة بالصلاة هو ان الله سبحانه انما فرض الصلاة واوجب على المكلف ان يتعبد له بها من اجل ان تربطه بخالقه وتصله به فكرياً وروحياً لتصبح بذلك معراجاً له يسمو به الى سماء الكمال والفضيلة ومن لوازم ذلك ان ينتهي عن الفحشاء والرذيلة من الناحية السلبية وينطلق في ميادين الخير والبر والاحسان من الناحية الايجابية وحيث ان الزكاة تعود على مؤديها وعلى من تعطى له بالخير العميم والفضل الجسيم والثواب العظيم اعتبرت بذلك متممة للصلاة ومحققة لاهدافها السامية المتمثلة بتجسيم القرب المعنوي من الله سبحانه الحاصل بفعلها له بقصد التقرب منه ـ كما هو الشرط الاساس في صحتها وتحويله الى القرب المعنوي والمادي من
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 3 .


( 69 )


خلقه تعالى باعتبار عياله واحب الناس له واقربهم منه انفعهم لعياله كما هو مضمون الحديث وبذلك تتحقق إقامة الصلاة التي هي روحها وجوهرها الذي يعطيها قيمتها ويحقق لها غايتها .

الوجه في اقتران إيتاء الزكاة بإقامة الصلاة :
وهذا ما اراد الله سبحانه ان يشير اليه وينبه عليه بالتعبير باقامة الصلاة بدل التعبير بالإتيان والعمل الخارجي حيث قال سبحانه : ( ويقيمون الصلاة وأقيموا الصلاة ) ولم يقل يأتون بالصلاة وأتوا بها لأن التعبير الثاني يدل على أصل وجود صورة الصلاة وشكلها الخارجي ـ وهي ليست بظاهرها البارز وشكلها الماثل ولكن بروحها المقربة من الله بالتقوى وحيث ان دفع الزكاة لمستحقيها من الفقراء والمساكين من اوضح مصاديق الاخلاق السامية والاعمال الراجحة المحبوبة للخالق والمخلوق اعتبرت تأديتها إقامة للصلاة وترجمة عملية لغاياتها النبيلة .
وبذلك يعرف السر في عطف الله سبحانه العمل الصالح على الايمان في الكثير من آيات كتابه الكريم ومن اوضح مصاديق ذلك قوله تعالى : ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (1) .
هذا حاصل ما يناسب ذكره في الجهة الاولى .

بيان الفوائد المترتبة على إعطاء الزكاة :
وأما الفوائد التي وعدتُ ببيانها في الجهة الثانية فهي كثيرة وتفصيل
____________
(1) سورة العصر ، الآيات ، 1 ، 2 ، 3 .


( 70 )


ذلك فيما يلي :
إن الفوائد المترتبة على تأدية فريضة الزكاة عديدة منها ما هو راجع الى الفقير الآخذ ومنها ما هو عائد الى الغني الدافع .
أما القسم الأول : فيتمثل بوضوح بحل مشكلة الفقر وتوفير ما يضطر اليه الفقير من النفقة اللازمة له ولمن يعيله فلا يعاني من مأساة الحرمان والضغط الاقتصادي الذي يؤدي الى الكثير من المضاعفات السلبية .
وحيث ان حق الزكاة مفروض لمستحقه بتشريع إلهي على حد تشريع وجوب الصلاة فلا يكون هناك اي اثر سلبي بالنسبة الى آخذه لانه يكون بهذا الاعتبار بمنزلة الدين الذي يستحقه شخص على آخر .
وبذلك يُعرف ان الفائدة المترتبة على تأدية الزكاة لمستحقها هي مادية من جهة كما انها نفسية وروحية من جهة اخرى نظراً لما يترتب على دفعها له من الراحة النفسية والبهجة الروحية وحصول حالة الاستقرار الفكري بتوفر الحاجات المادية فلا يعيش حالة القلق والانفعال النفسي الذي يعاني منه الفقير عندما تضغط عليه الحاجة ولا يجد يداً بارة تمتد اليه بالبر والإحسان .

بيان الفوائد المترتبة على تأدية الزكاة :
وأما القسم الثاني : من فوائد الزكاة وهو الراجع منها الى الدافع فهو أكثر من القسم الاول كما سيتضح ذلك خلال الحديث ولشرح ذلك بشيء من التفصيل اقول :
إن الفوائد الراجعة الى الدافع المؤدي لها نوعان الاول دنيوي


( 71 )


معجل والثاني أخروي مؤجل .
أما النوع الأول : الدنيوي المعجل فهو نوعان ايضاً الاول مادي بسبب ما يترتب على تأدية هذه الفريضة من السعة في الرزق مع دوام النعمة والسلامة وطول العمر ونحو ذلك من المنافع المادية الدنيوية اما سعة الرزق فهي مستفادة من قوله تعالى .
( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (1) باعتبار ان دفع الزكاة يعتبر شكراً عملياً لله على نعمة الرزق والثراء .
ومثل هذه الآية في الوضوح قوله تعالى :
( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) (2) .
وهناك روايات عديدة تفيد هذا المضمون منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله :
إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الرزق الصدقة وإنها بسببها تقضي الدين وتخلف بالبركة وانها دواء المريض بل هي انفع من الادوية كلها .
وروي عن الإمام السجاد قوله عليه السلام : ما من رجل تصدق على رجل مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة الا استجيب له .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله في وصية لعلي عليه السلام : « يا علي الصدقة ترد القضاء الذي قد أُبرم إبراماً » .
والنوع الثاني : من الفوائد الدنيوية المعجلة هو معنوي نفسي يتمثل .
أولاً : بما يحس به الدافع لهذه الفريضة من البهجة والسرور الذي
____________
(1) سورة إبراهيم ، الآية 7 .
(2) سورة الانعام ، الآية : 160 .


( 72 )


يخامره عندما يرى نفسه أنه قد توفق لادخال السرور على قلب اخيه في الايمان او الانسانية وهذا يعتبر غذاء للروح وتربية للنفس وهي كالجسم لها غذاؤها وداؤها ودواؤها أما غذاؤها فهو الاطعام واما داؤها فهو البخل والحرص والطمع والحقد والحسد واما دواؤها فهو الحكمة والموعظة الحسنة .
وثانياً : بالمحبة والاحترام الذي يحمله له آخذ الزكاة وغيرها من انواع البر وكذلك غير الآخذ لها من الاشخاص العقلاء الذين يقدرون الاحسان ويحترمون من يقوم به ولو كان لغيرهم ويترتب على هذه المحبة وذلك التقدير الذي يحصل من الآخذ للزكاة تأثره إيجابياً بفضل المعطي وحصول الاهتمام البالغ بشؤونه وقضاياه حيث يصبح جندياً من جنوده المتطوعين المستعدين لحفظ سلامته إذا تعرضت للخطر ولصون ثروته إذا تعرضت للسلب والغصب وللدفاع عن شرفه وعرضه إذا تعرض للهتك من قبل بعض الحاسدين الحاقدين ونحوهم من سراق الكرامة وناهبي المال والأمن والسلامة .

بيان الفوائد الراجعة الى المكلف من إعطائه الزكاة :
ويمكن تلخيص هذه المواقف الإيجابية التي يقفها الآخذ للزكاة والمنتفع بإحسان المعطي بعنوان واحد شامل لها كلها وهو عنوان الدفاع عن النعمة التي يتمتع بها المحسن اليه سواء كانت نعمة مادية ام معنوية .
وإذا فرض زوال أية نعمة من النعم عن هذا الدافع المحسن إما بحكم القضاء والقدر السماوي او الظلم البشري فإنه يصبح موضع عطف واهتمام الآخرين المقدرين لاحسانه السابق وخصوصاً إذا كان حاصلاً لهم وبذلك يكون قيامه بالواجب الشرعي او الاخلاقي مثمراً له قيام الآخرين ومقابلتهم له بالمثل انطلاقاً من قوله تعالى :


( 73 )


( هل جزاءُ الإحسان إلا الإحسانُ ) (1) .
وهذا بخلاف ما إذا أعرض عن الآخرين وقت يسره وعسرهم فهو يرى منهم نفس هذا الموقف السلبي اذا تبدل يسره بالعسر وغناه بالفقر وقوته بالضعف كما هو شأن الحياة التي لا تستقر على حال ولذا قيل : دوام الحال من المحال وبذلك تعرف ان فائدة المحبة والاحترام المعنوية الراجعة الى من يحسن الى غيره تعود عليه بالفائدة المادية ايضا وبطريق غير مباشر والى تأثر اكثر افراد البشر ايجابياً بالإحسان وتحولهم الى جنود مدافعين ونافعين لمن احسن اليهم ، اشار الشاعر بقوله :

احسن الى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانُ


وكما ان الصنع الجميل والإحسان العملي النبيل يأسر عواطف الآخرين كذلك القول الطيب والكلمة الحسنة الجميلة كما قال الشاعر الآخر :

عجبت لمن يشري العبيد بماله * ولا يشتري حراً بلين مقاله


وحيث ان الله سبحانه اراد للمحبة ان تسود وللتضامن والتعاطف ان ينتشرا بين افراد المجتمع نرى شرعه السمح قد امر وجوبا او استحباباً بما يؤدي الى ذلك ونهى تحريما عن كل ما يؤدي الى خلافه وقد جمع بين هذا الامر وذلك النهي في قوله تعالى :
( * إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن
____________
(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .


( 74 )


الفحشاء و المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (1) .
واذا نظرنا الى فلسفة تشريع الزكاة والغاية السامية المقصودة منها فإنا نجدها غير محصورة بالفريضة المالية المحددة بالقدر المعلوم بل هي تشمل وتمتد بروحها الواسعة لتشمل كل نعمة من الله سبحانه بها على الإنسان وهذا ما صرح الله سبحانه به ودل عليه بقوله في اول سورة البقرة :
( الم * ذلك الكتاب لاريب فيه هُدى للمُتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (2) .
حيث عمم الإنفاق الذي يقوم به المتقون وجوباً او استحباباً الى كل رزق يمن به الله سبحانه عليهم سواء كان مادياً ام معنوياً كالعلم والجاه ونحو ذلك .
وأما النفع الأخروي المؤجل فهو جنة عرضها السموات والارض ورضوان من الله اكبر .
وما أمس حاجة المستضعفين بصورة عامة والامتين العربية والاسلامية بصورة خاصة الى ان يتحلوا بهذه الروح الانسانية النبيلة وهي روح البر والاحسان والتعاطف والتعاون على البر والتقوى ويغضوا النظر عن الخلافات الطائفية والمذهبية والسياسية إما بتجميدها من اجل التوجه الى ما هو الاهم والانفع للجميع او بمسها برفق ولين وبأسلوب الحكمة الواعية والموعظة الحسنة من قبل المسؤولين الفضلاء الحكماء إذا اقتضت المصلحة العليا ذلك ليتعاونوا على تنفيذ ما يتفقون عليه وما يبقى
____________
(1) سورة النحل ، الآية : 90 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 1 ، 3 .


( 75 )


محل اختلاف في الرأي يجب ان لا يؤدي ذلك لان يفسد للود قضية ويتأكد ذلك في هذه الأيام اكثر من اي وقت مضى من اجل توحيد الصف والوقوف جبهة واحدة متحدة في وجه الاعداء المستكبرين والخصوم الغاصبين الذين اتفقوا على باطلهم من اجل ان يتعاونوا على الإثم والعدوان وهدر حقوق الشعوب المستضعفة وتكريس احتلال الارض وهتك المقدسات ويسرني ان اختم هذه الخطبة بالبيتين التاليين اللذين قدمهما والد محب عطوف لأبنائه في مقام توصيتهم بتوحيد صفهم وتحصيل قوتهم التي تمكنهم من تحقيق أهدافهم المرغوبة واتقاء او إزالة الاخطار المدمرة :

كونوا جميعاً يا بنيّ اذا اعـترى * خطب ولا تتفرقوا أحــادا
تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً * وإذا افترقن تكسـرت أفرادا


وهذان البيتان مستوحيان من قوله تعالى :
( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا )(1) .
وقوله سبحانه :
( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) (2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 103 .
(2) سورة الانفال ، الآية : 46 .


( 76 )


الخطبة السابعة (1)

من وحي الهجرة النبوية والنصرة الحيدرية


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


السلام عليكم أيها الإخوان المؤمنون الأحباء والأبناء الأعزاء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : إن للهجرة النبوية المعهودة سببها المقتضي لها ووسيلتها المساعدة عليها ونتائجها الإيجابية الناشئة منها .
أما سببها فهو أمر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمغادرة مكة والانطلاق منها الى المدينة المنورة من اجل انقاذ حياته الشريفة من الخطر الكبير الذي اوشك ان يصيبها من قبل المشركين الذين عقدوا العزم وصمموا
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) يوم الجمعة بمناسبة هجرة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة الى المدينة المنورة في 4 ـ 3 ـ 1417 هـ الموافق 19 ـ 7 ـ 1996 م .


( 77 )


على ان يقضوا على وجوده الشريف ودعوته المباركة ـ قبل ان تقوى وتنتشر ثم تنتصر عليهم بعد ذلك .
وقد رد الله سبحانه على مؤامرتهم ومكرهم الذي دبروه ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة بمكر عادل اراد به ابطال وافشال مؤمراتهم اللئيمة ومكرهم الظالم وذلك بإخبار رسوله بما عزموا عليه وأمره بأن يأمر الإمام علياً عليه السلام بالمبيت في فراشه ليكون مبيته فيه مغطيا انسحابه من بينهم فلا يشعروا به ولا يعرفوا بمغادرته الا بعد خروجه بالسلامة ووصوله الى المقر الآمن .
وعندما طلب من الإمام عليه السلام المبيت مكانه في فراشه لم يكن منه سوى التجاوب مع هذا الطلب السماوي وإبداء الاستعداد لتنفيذه حتى ولو ادى الى قتله في هذا السبيل مادام فيه رضا وللرسول سلامة .
وأخيراً : تجمع القوم حول المكان الذي كان محلا لمبيت الرسول منتظرين الوقت المحدد لتنفيذ المؤامرة وكانوا خلال فترة الانتظار ينظرون الى داخل ذلك المكان من خلال شقوق الباب فيرون شخصا نائما ويقوى اعتقادهم بأنه شخص الرسول المستهدف حتى إذا حضر الوقت المعين نفذوا عملية الهجوم الى الداخل وكانت المفأجاة المخيبة لآمالهم بظهور ان الراقد في ذلك الفراش هو شخص الإمام علي عليه السلام الذي انتفض امامهم كالاسد الضرغام غير مكترث بعددهم وعُدَدِهم المجهزة للفتك بأفضل شخصية عرفها التاريخ .
وعندما سألوه أين محمد ؟ قال : أجعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا فقد خرج عنكم .
وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجومهم قد خرج من بينهم وهم محيطون


( 78 )


بالمنزل راشا على وجوههم الشوهاء قبضة من تراب مردداً قوله تعالى :
( وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) (1) .
وانطلق في سيره الهادىء المطمئن للمصير الى المقر الآمن الذي شاءت العناية السماوية والرعاية الإلهية ان يكون ملجأ للرسول الصادق الامين تصان به ذاته الشريفة ورسالته المباركة الخالدة من الخطر .
وتقول كتب السيرة : إن القوم بعد ان فشل هجومهم انطلقوا متتبعين ومقتفين آثار قدمي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهى بهم الاقتفاء الى باب الغار حيث اختفت هناك الآثار وقال ذلك الشخص الخبير بمهمة الاقتفاء والاطلاع على مكان وجود صاحب الأثر من أثره المشير اليه والدال عليه : ما حاصله الى هنا انتهت آثار قدمي محمد فإما ان يكون قد نزل في الارض او صعد الى السماء وعندما أثار بعضهم احتمال ان يكون موجودا داخل الغار دفع شخص آخر احتماله هذا بوجود بيت العنكبوت وعش الحمامة على بابه ـ ولو كان الرسول محمد داخله لما كان بيت العنكبوت سالماً وعش الحمامة قائماً وبذلك يكون الله سبحانه قد نصر عبده وحماه بأضعف الوسائل :
( ورد اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ) (2) .
وقد اشار الله سبحانه الى مؤامرة القوم ومكرهم الغادر وما رد به عليهم بمكره العادل بقوله تعالى :
____________
(1) سورة يس ، الآية : 9 .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 25 .


( 79 )


( وإذ يمكُرُ بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكُرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين ) (1) .
كما أشار الى الموقف البطولي الذي وقفه الإمام علي عليه السلام في سبيل حفظ الرسول والرسالة من الخطر بقوله تعالى :
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله واللهُ رؤوف بالعباد ) (2) .
وتحدث أخيراً عن قصة الهجرة والإخراج الذي ألجأه الى الغار مع صاحبه بقوله تعالى : ( إلا تنصروا فقد نصره اللهُ إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا فأنزل اللهُ سكينتهُ عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) (3) .
هذا هو حاصل قصة الهجرة على ضوء ما ورد في تاريخ السيرة النبوية والتفسير الذي تناول شرح الآيات المذكورة مع بيان اسباب نزولها .
ولا بد لنا من الوقوف امام ما اشتملت عليه هذه القصة من الحوادث الغريبة والكرامات العجيبة من اجل ان نستوحي منها ما يتسع المجال لاستيحائه من الدروس النافعة والعبر المفيدة .
____________
(1) سورة الأنفال ، الآية : 30 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 207 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 40 .


( 80 )


الاول منها هو درس نستفيده من الإيمان القوي والعقيدة الراسخة التي تمتع بها الإمام علي عليه السلام وعبر عنها .
أولاً : بالقول المأثور المشهور عنه « لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقيناً » .
وثانياً : بإقدامه على خوض المعارك واقتحام المهالك بدون تردد ولا تهيب . وإقدامه على المبيت في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوطين نفسه على ان يقتل ويقدم نفسه المطمئنة فداء للرسول والرسالة اصدق شاهد على هذه الحقيقة الإيمانية التي استحق بها التقدير والاجلال من الله سبحانه ومدحه بالآية السابقة التي بين بها ان عليا عليه السلام بإقدامه على هذه التضحية الفدائية النادرة قد باع نفسه لله سبحانه مقابل ثمن مرضاته ورضوانه الاكبر .
والدرس العملي الذي يستلهم من هذا الموقف البطولي الذي وقفه بطل العقيدة في سبيل حفظ الرسالة ونصرتها هو ان نتخذ منه رائداً وقائداً نترسم خطاه ونسير على ضوء هداه في معركة العزة والكرامة التي نخوضها في هذه الأيام من اجل تحرير ارضنا من الاحتلال وشعبنا من الاستعباد والاستغلال .
وبذلك نكون قد اقدمنا على ان نسلم لله سبحانه ما اشتراه منا وبعناه له من الانفس والاموال لننال ثمنها الغالي وهو العزة والحرية والاستقلال في هذه الحياة مضافا الى الثمن الاثمن والاغلى وهو جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين ورضوان من الله اكبر .
الدرس الثاني : يثمر لنا قوة الثقة ورسوخ الإيمان بنصر الله سبحانه الذي وعد به عباده المؤمنين المجاهدين في سبيله المتوكلين عليه في


( 81 )


تحقيق ما يحبون حصوله من الآمال المشروعة والاهداف السامية المحبوبة له سبحانه ـ وذلك بتمهيد السبيل أمامهم وإزالة الحواجز من طريقهم انسجاما مع القاعدة الإيمانية القائلة : إذا اراد الله أمراً هيأ اسبابه ويكون الامر عكس ذلك بالنسبة الى الكافرين والمنافقين .
وقد تجلى ذلك كله بوضوح في قصة الهجرة من بدايتها وفي وسطها الى نهايتها وبلوغها الهدف المرسوم لها والمقصود منها ففي البداية صدر الامر الإلهي بها والاخبار عن الضرورة الموجبة لها ليتحقق العزم والاقدام عليها من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما هيأ الله سبحانه للرسول والرسالة المؤازر والناصر في كل المواقف والمواقع وهو شخص الإمام علي عليه السلام الذي بدأ نصرته للدعوة منذ بدأ الرسول بها ـ ويأتي مبيتة في فراشه ليكون المصداق الواضح للسبب البارز المساهم في إنجاح الخطة وحصول الهجرة . هذا من الناحية الإيجابية وبالنسبة الى الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله وحامل لواء دعوته وسراج رسالته .
وأما بالنسبة الى اعدائه فالامر كان على العكس حيث أعمى الله ابصارهم كما عميت بصائرهم فلم يشاهدوا الرسول حين خروجه من بينهم وكذلك قدر للحمامة ان تبني عشها وللعنكبوت ان تبني بيتها وبسرعة خاطفة ليكون ذلك سبب سلامة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ومصدر فشل لمؤامرة أعدائه الذين قصدوه بسوء وارادوا به شراً فقلب سبحانه . السحر على الساحر وكان الانتصار للمؤمن الموحد على المشرك الكافر ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
الدرس الثالث : المستفاد من هذه القصة هو ما توحيه لنا من قوة الاطمئنان بحصول النصر والغلبة في معركة الجهاد والتضحية في سبيل


( 82 )


نصرة الحق مهما كان العدو كثير العدد وقوي العدد وكان المؤمنون على العكس من ذلك .
وذلك ما يوحي به قوله تعالى :
( ولينصرن اللهُ من ينصره إن الله لقوى عزيز ) (1) .
وقوله تعالى :
( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) (2) .
وتأتي معركة بدر لتكون المصداق الواضح لهذه الحقيقة القرآنية ـ كما تأتي قصة اصحاب الفيل والحمامة والعنكبوت مع قصة النبي إبراهيم التي توحي بالاطمئنان بإمكانية تدخل عامل الغيب وسلاحه الفتاك ليقلب الموازين في ساحة المواجهة حينما يجعل الله سبحانه القوي ضعيفا والكثير بحكم القليل والنار برداً وسلاما إذا لزم الامر واقتضت المصلحة وقد اكد الله سبحانه هذه الحقيقة في العديد من الآيات منها قوله تعالى : ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) (3) .
وقوله سبحانه : ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (4) .
وأما النتائج الحميدة التي ترتبت على هذه الهجرة المباركة فهي واضحة لا تحتاج الى مزيد من البيان لانها تمثل في واقعها انطلاقة موفقة وخطوة مباركة في سبيل تحول الدعوة من مرحلة الضعف والدفاع الى مرحلة القوة والدولة التي اصبحت بعد ذلك بنصر الله وتأييده وثبات
____________
(1) سورة الحج ، الآية : 40 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 249 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 126 .
(4) سورة الروم ، الآية : 47 .


( 83 )


الرسول وحكمته قادرة على الابتداء بالهجوم لو ارادت وعلى الدفاع بقوة وصلابة إذا تعرضت لعدوان الكفر وابتداء الظلم كما حصل في معركة بدر وأُحد اولاً وفي حنين اخيراً ـ هذا مضافا الى وضع التشريع الكامل العادل ، وتطبيقه على صعيد الحياة وفي مختلف المجالات الامر الذي ساهم مساهمة فعالة في صنع الامة الرسالية وجعلها خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .

مسك الختام أبيات في مدح الإمام عليه السلام :
وحيث ان مبيت علي عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة هجرته المباركة كان الجسر الذي عبرت فوقه الرسالة وانتقلت من السجن والحصار الى التحرر والانطلاق كان من المناسب ان اختم هذه الخطبة بالابيات التالية التي نظمت في يوم القائها وتاريخه والخطاب فيها موجه الى شخص الإمام علي عليه السلام :


قدمت نفسك للرسول فــداء * لتنال عمراً خـالداً وبــقاء
وظفرت بالهدف المقدس حينما * أصبحت درعاً للهدى ووقـاء
وسموت قدراً وارتـقيت مكانةً * وحباك رب العالمين ثــناء
قد بعت نفسك للإله ولم يـرد * رب البرية من سواك شـراء
وبذاك قد فقت الملائك رفـعة * إذ لم ينالوا ما كسـبت علاء
لا غرو فالمختارُ نفسك مثـلما * نطق الكتابُ وقـدم الإطـراء
وعليكما منا التحيةُ مــا بدت * شمس وأهدت للحياة ضـياء


وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم أيها الأخوة المؤمنون الأعزاء ورحمة الله .


( 84 )


الخطبة الثامنة (1)

من وحي ميلاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وحفيده الصادق عليه السلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين


والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء والأحباء ورحمة الله وبركاته .
وبعد : إن الاحتفال بالمناسبات الدينية بصورة عامة وبالرموز الرسالية بصورة خاصة ـ يعتبر من اهم الموضوعات الإسلامية الجديرة بالاهتمام من اجل ان يحقق هدفه الرسالي المنشود ومن هذا المنطلق سأتناول الحديث حول هذا الموضوع من عدة جهات .
الأولى : أبين فيها المراد من كلمة الاحتفال لغوياً وعرفيا من اجل التمييز بينهما ومعرفة ما هو الاولى بالرعاية والاهتمام في مقام إحياء
____________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة في مسجد الإمام المهدي ( عج ) بميلاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحفيده الصادق عليه السلام ، وذلك في 15 ـ 3 ـ 1416 هـ الموافق 11 ـ 8 ـ 1995 م .


( 85 )


المناسبات الدينية بعنوان الاحتفال وتعظيم الشعائر .
الثانية : أبين فيها الباعث الموضوعي الذي يفرض كونه المحرك الداعي للقيام بمهمة الاحتفال والاحتفاء .
الثالثة : أبين فيها الاسلوب المطلوب اتباعه من أجل التوصل به الى الهدف الاساسي المقصود من إقامة الاحتفال وإحياء المناسبة .
أما الكلام في الجهة الاولى فحاصله :
أن المراد من كلمة الاحتفال لغويا هو نفس ما يراد من كلمة الاحتفاء وهو الاهتمام والاحترام ورد في المعجم الوسيط الجزء الاول ص 186 ما حاصله ومضمونه : يقال احتفل بالامر اذا عني به وبفلان اذا اكرمه واهتم به وقال في نفس الصفحة يقال : حفي بفلان حفاوة اذا احتفل به واحترمه .
وقد كثر اطلاق كلمة الاحتفال على الاسلوب العرفي التقليدي المتبع في مقام احياء مناسبة دينية او وطنية ونحوهما ويتمثل هذا الاسلوب بإعلان الزينة وتقديم التبريك والتهنئة ويضم الى ذلك غالباً اقامة مهرجان خطابي تلقى فيه الكلمات والقصائد المشتملة على المدح والثناء لصاحب المناسبة مع بيان ما كان يتجمل به من الفضائل والكمالات وهذا اذا كانت المناسبة مناسبة عيد ميلاد ونحوها من المناسبات المقتضية بطبعها للفرح والابتهاج .
وإذا كانت مناسبة وفاة تكون ظاهرة الاحتفال على العكس من ذلك حيث يرفع شعار الحزن والحداد ويقام الاحتفال للرثاء والتأبين بالقاء


( 86 )


الكلمات والقصائد الرثائية المبينة لفضل صاحب المناسبة ومكانته السامية .
والاحتفال بكلتا المناسبتين المذكورتين كان ولا يزال في الغالب ان لم يكن في الدائم ـ مقصورا على اسلوبه التقليدي العرفي المذكور ـ ومن الواضح ان الاحتفال بهذا الاسلوب وهذه الطريقة وان كان افضل من العدم المطلق ـ ولكن المتوقع ان يحصل تطور في الاسلوب بعد الرجوع بكلمة الاحتفال الى معناها اللغوي الاصيل ومعرفة نوع الباعث الذي ينبغي ان يكون هو المحرك لإقامة الاحتفال وإحياء المناسبة وهذا ما وعدت ببيانه في الجهة الثانية فأقول :
إن الباعث الموضوعي المفروض في حق مقيم الاحتفال ان ينطلق منه هو إبراز العوامل والاسباب الذاتية والموضوعية التي ساهمت في بناء شخصيته من اجل رعاية وتنمية ما يكون موجودا منها فعلا وتحصيل ما يكون مفقودا .
وبذلك يعرف حاضر الاحتفال والمطلع على ما القي فيه الاسلوب الذي يساعده على بناء كيانه وجعله صورة اخرى عن شخصية المحتفى به او شبيها بها كما قال الشاعر :

وتشبهو إن لم تكونوا مثلهم * إن التشبه بالكرام فلاح


أما الجهة الثالثة : فحاصل ما أريد بيانه فيها هو أننا إذا عرفنا المعنى الاصلي لكلمة الاحتفال في اللغة وادركنا انه هو الذي يطلب تحقيقه من اجل ان يكون الاحتفال واقعيا وعمليا مستمرا لا يقف عند زمان المناسبة وتاريخها ، يتعين في حقنا بعد ذلك مراعاة الاسلوب الواقعي العملي للاحتفال والاحتفاء وهو يتمثل اولا بالتعرف على شخصية صاحب المناسبة والاسباب التي ساهمت في بنائها من اجل ان


( 87 )


يصوغ كل شخص غير بالغ درجة شخصيته على مثالها من خلال بنائها على نفس الاسس والمنطلقات التي صنعت ذاته وبنت شخصيته وبعد هذا يتخذ من شخص صاحب المناسبة قدوة رائدة واسوة حسنة وذلك بترسم خطاه والسير على ضوء هداه في كل التصرفات وفي مختلف المجالات وبذلك يتحقق الاحتفال الحقيقي والاحتفاء الكامل العملي الذي يريده منا الله ورسوله والمؤمنون الواعون .
واما الاسلوب العرفي الذي كان ولا يزال متبعا في مقام احياء مناسبة الولادة او الشهادة ونحوهما وقد مرت الاشارة اليه فهو وان كان افضل من العدم المطلق كما تقدم ولكن يطلب منا ان نتجاوزه ولا نقتصر عليه في عصرنا الحاضر بعد القاء الحجة واشراق نور الوعي والصحوة الى الاسلوب العملي الذي يستمر معنا ويحصل منا في كل زمان ومكان نقتدي فيه بصاحب الذكرى ليكون حاضراً بيننا بسيرته المتبعة القويمة وشخصيته القيادية العظيمة .
وهذا ما اراد الله سبحانه ان ينبهنا عليه ويلفت نظرنا اليه بقوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا ) (1) .
وما يقال في حق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقال في كل واحد من أهل بيته الائمة المعصومين والقادة العدول السائرين على نهجهم لان كل واحد منهم يعتبر قرآنا ناطقا وإسلاماً عملياً متحركاً على صعيد الحياة والاحتفال الحقيقي المطلوب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأولي الأمر
____________
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .


( 88 )


المعصومين والتابعين لهم بإحسان إنما يكون بتطبيق تعاليم القرآن ومناهج الإسلام كما طبقوا وعملوا ولا يكون بمجرد إعلان الزينة المادية المعهودة إذا لم يقترن بإعلان زينة الاخلاق الفاضلة والتقوى والعمل الصالح كما لا يكون بمجرد المدح والثناء او التأبين والرثاء إذا تجرد ذلك عن المتابعة والاقتداء كما هو واضح .

بيان الاحتفال الحقيقي المحقق للهدف المقصود :
ولذلك أمرنا الله سبحانه بمودة أهل البيت عليهم السلام المتمثلة بالمحبة المقترنة بالإطاعة والمتابعة ولم يكتف منا بالمحبة المجردة عن ذلك لان هذه محبة ناقصة كما ان الاحتفال الذي لا يقترن فيه قول المدح والثناء او التأبين والرثاء ـ بعمل المتابعة والاقتداء يكون ناقصا والله الكامل لا يرضى منا الا بالعمل الصالح الكامل والى هذا المعنى اشرت بالمقطوعة الشعرية التالية التي نظمت بمناسبة ميلاد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والقيت اكثر من مرة في اكثر من احتفال يتعلق بهذه المناسبة المباركة :


إن رمت تكريم الـنبي مـحمد * والاحتفال بيوم عيد المـولـد
فانهج سبيل الصالحات مـطبقاً * قانونه السامي بـدون تـردد
إن الرسول هو الرسالةُ قد أتت * من أجل إصلاح وهدي مرشد
فإذا أخذت بها ونلت عـطاءها * بتــدبر وتقـيد وتعــبــد
أحييت ذكرى المرسلين جميعهم * وبني الإمامة من سلالـة أحمد
فالكل نـور واحـد متألــق * يجـلو دياجير الضلال المـفسد


وبعد أن عرفنا الاسلوب العملي للاحتفال الحقيقي بكل مناسبة


( 89 )


تتعلق برموزنا الدينية وخصوصا المعصومين منهم يسهل علينا معرفة كيفية تطبيق هذا الاسلوب في حياتنا العملية .
وسأذكر مثالاً لذلك من شخصية الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار كونها موضوع هذا الحديث بمناسبة ميلاده الشريف :
فأقول : إن الصفة البارزة التي لمعت في حياة هذا الشخص العظيم وعرف بها قبل بعثته هي كونه صادقا وامينا وهاتان الصفتان متلازمتان في حياة الشخص الرسالي . والظاهر من كلمة الصدق وان كان هو بعض اقسامه وهو الصدق في القول ولكن اذا نظرنا الى معناه بعين التدبر وادركنا انه عبارة عن المطابقة للحقيقة والواقع ندرك انه غير محصور ومقصور على ذلك المعنى الخاص المتبادر من كلمة الصدق عند اطلاقها بل يشمل انواعا اخرى هي افراد لذلك المعنى العام وهي الصدق في العقيدة والصدق في النظام والشريعته والصدق في العمل والممارسة .

بيان المراد من الصدق بمعناه العام :
أما الأول : فيتحقق عندما تكون العقيدة مطابقة للواقع على ضوء البرهان القاطع ومثاله الواضح الايمان بأصول الدين المعهودة .
وأما الثاني : فمثاله الجلي الشريعة الإسلامية المنبثقة من تلك الاصول والقائمة على اساسها وبذلك يعرف ان كل نظام لا يكون قائما على تلك الاسس الوطيدة وراجعا الى مصدر الكون والحياة وهو الله سبحانه لا يكون نظاما صادقا ومطابقا لمصلحة الشعب في الواقع ومحققا لاهدافه وتطلعاته كما يوحي بذلك قوله تعالى :


( 90 )


( إن الدين عند الله الإسلام ) (1) .
( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين ) (2) .
ومن المعلوم ان كل نظام يكون مسببا للخسران في الآخرة يكون مطبقه من الخاسرين في الدنيا ايضا .
واما الصدق في العمل والممارسة فيتمثل بمطابقة اعمال المكلف لاحكام شريعة الصادقة المنبثقة عن عقيدته الصحيحة وذلك عندما يتقيد بنظامها ويتحرك في فلكها فلا يصدر منه تصرف او موقف ايجابي او سلبي الا اذا كان مبررا في شريعته وهذا النوع من الصدق هو المكمل للنوعين الاولين كما انه مكمل لشخصية الإنسان الملتزم بخط السماء عقيدة ونظاما ـ وذلك لان الإيمان بأصول الدين والالتزام العقيدي بما يتفرع عنها من الاحكام والقوانين لا يحقق للإنسان الظفر بالسعادة والسلامة من الخسران الا اذا اقترن ايمانه بالاصول والفروع بالعمل بمقتضاها والسير على ضوء هداها ـ وقد نبه الله سبحانه على هذه الحقيقة الموضوعية بقوله تعالى : ( والعصر * إن الإنسان لفي خُسر * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (3) .

بيان الاحتفال الحقيقي المطلوب :
إذا أدركنا هذه الحقيقة وعرفنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكل واحد من أهل بيته الائمة المعصومين عليهم السلام يمثل كل واحد منهم الإسلام العملي
____________
(1) سورة آل عمران ، الآية : 19 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 85 .
(3) سورة العصر ، الآيات : 1 ، 2 ، 3 .


( 91 )


بحيث يصح ان يقال في حقه إنه القرآن الناطق والاسلام المتحرك على صعيد الحياة وعرفنا ايضا على ضوء ما تقدم ان الاحتفال بمعناه اللغوي يراد به الاحترام والاهتمام ، ندرك جيدا على ضوء ذلك كله ان الاحتفال الحقيقي والاحترام الواقعي لا يكون بالاحتفال بأسلوبه التقليدي المتعارف وإنما يكون بالاقتداء والمتابعة ليكون كل واحد منا صورة مصغرة عن كل واحد منهم بصورة عامة وفي حياة جدهم الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ بصورة خاصة هي صفة الصدق والامانة ، فإن الاحتفاء بهم والاحترام لهم حقيقة وواقعا يكون بالاتصاف بهذه الصفة بكلا عنوانيها المتلازمين ليصبحا بحكم الصفة الواحدة وبذلك ندرك ان كل شخص يحقق في نفسه صفة الصدق في العقيدة إيماناً وفي الشريعة التزاما وفي السلوك استقامة وتقوى .
ويضم الى ذلك بطبيعة حاله الإيمانية ان يكون امينا على نفسه وعلى كل واحد من افراد اسرته الواقعين تحت رعايته ورحمته وعلى كل ما يعتبر امانة لديه سواء كانت امانة مالكية او شرعية مادية او معنوية .
أجل : إن كل شخص يكون هكذا يكون محتفلا واقعا وفي كل زمان ومكان بكل شخصية رسالية تأثر بها فكريا وعاطفيا واقتدى بها في حياته عمليا وهذا النوع من الاحتفال هو الذي يطلب منا القيام به ليتحقق الهدف الاساسي من الاحتفال الذي يباركه الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ويرونه بعين الرضا والقبول حيث يكون من اوضح مصاديق العمل الصالح الذي طلب من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرنا به بقوله تعالى :
( وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكم ورسوله والمؤمنون ) (1) .
____________
(1) سورة التوبة ، الآية : 105 .


( 92 )


ختام الخطبة بأبيات من وحي المناسبة :
ويسرني أخيراً ان اجعل ختام المسك ومسك الختام الابيات التالية التي افتتحت بها هذه الخطبة في السنة المنصرمة وبوحي من مناسبة عيد ميلاد الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وحفيده الصادق عليه افضل الصلاة وازكى التسليم :


بدران قد سطعا بأفق المــولد * وتـألقا بسنا العلى والسـؤدد
وهما الرسول المصطفى وحفيده * السامي مقاماً جعفر بن محمد
طلعا على أفق الوجود لـيكشفا * بسنا الرشاد ظلام غي مـفسد
والاحتفال بذاك ليس بــزينة * وبقول شعر بالثناء مـــردد
الاحتفال الحق إيــمان بــه * نمضي على نـهج التقى بتوحد
ونطبق الشــرع المقدس بيننا * دوماً ونطرد جيش خصم معتدي
وبذاك يغدو كل يــوم مشرق * بهدى الرسالة ـ يوم عيد المولد


والسلام عليكم أيها الإخوان الأعزاء والأبناء الأحباء أولاً وآخراً ورحمة الله وبركاته .